مع اختتام القمة الخامسة عشرة للمنظمة الدولية للفرنكوفونية أشغالها يوم الأحد من الأسبوع المنصرم في العاصمة السنغالية دكار، باعتماد سلسلة من القرارات “المهمة” حسب بيانها الختامي (*)، حتى ولو أن الجزائر ليست عضوا كامل العضوية في المنظمة الموقرة، إلا أنها عدت “أول بلد فرنكوفوني” بعد فرنسا، حسب تقرير البرلماني الفرنسي الأخير، وبالتالي تيقنت حينها أن استقلال دولنا العربية يبقى منقوصا، إذا لم يتوج بالاستقلال الثقافي واللغوي، ومستوانا العلمي يبقى ضحلا وتابعا إذا لم يتأصل في اللغة الوطنية، وثوراتنا تبقى هي الأخرى عرجاء إذا لم تستند بثورة ثقافية عامة ولغوية خاصة.

وفضلا عن انتخاب مرشحة دولة عظمى ككندا، أمينة عامة جديدة للمنظمة خلفا للرئيس السنغالي الأسبق عبدو ديوف، وهي السيدة ميشال جان التي تشغل منذ 2010 منصب المبعوث الخاص لمنظمة اليونيسكو الى هايتي، بلدها الأصلي، وقد أقصت بـ”كنديتها” أربعة مترشحين آخرين لهم وزن سياسي كبير في دول العالم الثالث، هم الرئيس البوروندي بيير بييويا والوزير الأول الموريسي جون كلود دو ليستراك وسفير الكونغو بباريس الكاتب هنري لوبيز وأوغستين نزي نفومو من غينيا الاستوائية.

وتميزت أشغال هذه القمة التي انعقدت تحت شعار “النساء والشباب في الفرنكوفونية: عوامل سلام وفاعلون في التنمية”، بأجواء توجس بين القادة الأفارقة، بعد كلمة الرئيس الفرنسي، التي أكد فيها على أن “الحكم مدى الحياة وبعهدات متعددة متكررة دون رغبة الشعوب، قد ولى عهدها، والتعنت في الكرسي قد يوصل بعض دولنا الفرنكوفونية إلا ما لا تحمد عقباه”، يأتي ذلك على خلفية الثورة ” الشعبية” الأخيرة في بوركينا فاسو التي أطاحت بالرئيس بليز كومباوري بعد حكم استمر 27 عاما، ومشيرا أيضا إلى ما تواجهه دول غرب افريقيا من أزمة داء “إيبولا” و أزمات أخرى منها الإقتصادية والبيئية والأمنية.. متناسيا أن المهمة الأساسية المعلنة للمنظمة الدولية للفرنكوفونية تتمثل في تنظيم “العلاقات السياسية والتعاون بين الدول التي يجمع بينها استخدام اللغة الفرنسية” لا غير.. وقد كان الهدف من تأسيس المنظمة الدولية للفرنكوفونية هو “الدفاع عن توسع اللغة الفرنسية عبر العالم”، كما تجلى ذلك بوضوح في مؤتمر القمة الفركوفونية الأول الذي عقد في باريس ما بين 17 و 19 فبراير 1986، وحتى منذ تأسيس الحركة الفرنكوفونية رسمت هدفا مركزيا هو “حماية اللغة الفرنسية من عدوان اللغة الإنجليزية وتطلعاتها نحو الهيمنة على المبادلات الدولية”.

محطات في مسيرة الفرونكوفونية:

تاريخيا، لم تكن الفرنكوفونية بادئ ذي بدء سلاحاً ثقافياً أو سياسياً فرنسياً موجهاً الى الخارج، بقدر ما كانت أحد عوامل وحدة الامة الفرنسية المتعددة القوميات (البروتون والنورماند والالزاس واللورين والكورسيك وسكان غرب ايطاليا). وهكذا اصبحت حالة من حالات “الامة/ اللغة”، بالإضافة الى توحيدها داخل سوق واحد بالمعنى الرأسمالي. وكان حكام فرنسا قبل الثورة يصحبون معهم مترجمين عند التجوال في المقاطعات. بعدها حملت اللغة الفرنسية مضامين الثورة الفرنسية عن “الحرية والاخاء والمساواة”، وهكذا نشأ هاجس اللغة في فرنسا، وانتقلت تلك الاغراض الى مناطق المستعمرات، وهنا تحولت الفرنكوفونية الى سلاح حيوي عالمي..

ولو حاولنا الوقوف على أهم المحطات الرئيسية في مسيرة الفرونكوفونية، ندرك أنها فعلا أصبحت قوة جيوسترانتيجية ناعمة أو سيف ذو حدين، بحيث تم تأسيس جمعية لكتاب اللغة الفرنسية عام 1926 التي تضم حاليا ألف مؤلف، وتأسيس هيئة الجامعات الفرنسية في عام 1961 التي انبثقت عن الوكالة الجامعية للفرنكوفونية التي تضم اليوم 800 مؤسسة في حوالى 100 بلد، وفي عام 1970 جاءت فكرة قيام “منظمة فرنكوفونية” أطلقها قادة الجنوب – خصوصا السنغالي ليوبولد سيدار سنغور والنيجري ديوري هماني والأمير سيهانوك من كمبوديا والتونسي حبيب بورقيبة – وتشكلت مع وكالة التعاون الثقافي والتقني التي انبثقت عنها المنظمة الدولية للفرنكوفونية (**).

من أبرز الارقام المتعلقة بالفرنكوفونية في العالم، نذكر:

ـ الفرنكوفونية تؤكد حاليا وجود 274 مليون شخص ناطق بالفرنسية بينهم 54,7 % في افريقيا و36,4 % في اوروبا و7,6 % في اميركا والكاريبي و0,9 % في الشرق الاوسط و0,3 % في أوقيانا.

ـ الفرنسية خامس لغة الاكثر تداولا في العالم، بعد الصينية والانكليزية والاسبانية والعربية او الهندوسية وفقا للتقديرات. وهي ثاني لغة في الاتحاد الاوروبي.

ـ 29 دولة تعترف في دستورها باللغة الفرنسية كلغة رسمية منها 13 كلغة رسمية وحيدة و16 كلغة رسمية مع اللغة الأم.

ـ حوالي 125 مليون شخص يتعلمون الفرنسية، بينهم 49 مليونا يدرسونها كلغة أجنبية.

ـ تضم المنظمة الدولية للفرنكوفونية ومقرها باريس 77 بلدا ومنطقة منها ثلاث دول شريكة و20 مراقبة معظمها من القارة الافريقية. ويمثل هؤلاء تقريبا 900 مليون نسمة.

ـ بحسب توقعات الفرنكوفونية، سيعيش نحو 85 % من 700 مليون فرنكوفوني في 2050 في أفريقيا.

ـ وفي اوروبا التي كانت تضم حوالي نصف الفرنكوفونيين في العالم في العام ألفين لن يكون هناك أكثر من 12 بالمئة من هذا العدد.

الفرنكوفونية دهاء وخبرة في اختراق الاخر باسم “تبادل الخبرات والمصالح”:

وبالتالي بهذه الأرقام، يمكننا الجزم بأن فرنسا استطاعت بدهائها وخبرتها الطويلة، وبفضل تلاميذها الذين كونتهم وعملائها الذين احتضنتهم اختراق نظم التربية والتعليم في عالمنا العربي، وانتهاج سياسة تعليمية هدفها فَرْنَسَةُ الأجيال الناشئة، وإفراغُها من قيمها الدينية والحضارية ليسهل دمجها في إطار دولة (فرنكو ـ علمانية) منعزلة تماماً عن تاريخها وحضارتها العربية الإسلامية، وتصبح من ثمَّ أداة تحكم في المجتمع، تعيد تكوينه وتقرر مصيره كجزء لا يتجزأ من مستعمراتها الإفريقية.

والواقع أن إخفاق السياسات الحكومية المتلاحقة في توطيد تعليم وطني مستقل في دول مغربنا العربي، يؤكد أن الوجود الفرنسي أصبح متغلغلاً في المجال التعليمي وأقوى مما كان عليه زمن الاستعمار في بعض المواقع الحساسة، وأن “مستعمر” اليوم بثوبه القديم المتجدد، لم يتخل عن فرض نفسه ليس شريكاً لنا في تعليمنا وثقافتنا فحسب، بل سيدا أو قل لاعبا فريدا في ميداننا وعلى ترابنا وفي عقر دارنا، باسم “تبادل الخبرات” حينا و”المصالح المشتركة” أخرى، باعتبار أن اللغة الفرنسية ـ حسب بعض التبع ـ تمثل نموذجاً لسانياً كاملاً بذاته، قوامه “التقنية والعلمية والعقلانية”، وهو ما من شأنه أن يساهم في عقد قران “زواج المكره” بين ثقافتين مختلفتين قلبا وقالبا، وهكذا أصبح السفر إلى باريس عقيدة وحجا، كما هو الحال في مثل هذه الأيام مع أعياد رأس سنة الميلادية.

ومع مر السنين والتطور الإعلامي والبث التلفزي المباشر، الذي يخترق كل الحدود سمح بانتشار تقليد الفرنسيين والغربيين عموما مظهرا وسلوكا في اللباس وحلاقة الشعر وتسريحه، ونماذج سلوكية غريبة، وتقليد بعض الفنانين وبالتالي تصبح الفرنسية، لغة التخاطب لجميع هؤلاء المستلبين حضاريا وتراثيا، على قلة زادهم اللغوي وركاكته أحيانا كثيرة.

نفهم من هذا الكلام أن الفرنكوفونية تحركت قبل الاستقلال وبعده ضمن الثوابت نفسها التي انطلقت بها السياسة الاستعمارية لبلداننا، وأن فلسفتها هذه قد شكلت منذ زمن بعيد؛ فهي ترى أن حضورها اللغوي والثقافي يضمن لها تلقائياً استمرار نفوذها السياسي والاقتصادي، ولذلك نجدها قد أسرعت إلى توجيه عقول بعض نخبنا عن طريق ترسيخ سياسة لغوية تعليمية قائمة على فرنسة الأجيال الصامدة، هدفها الأساسي القضاء على اللغة العربية باعتبارها لغة حضارة عريقة وتراثاً إنسانياً خالداً.

وهكذا تم تحويل دول مغربنا العربي تدريجياً بفضل سياسة ازدواجية اللغة إلى شمال أفريقي فرنكوفوني بعدما حُرِم أبناؤه من الازدهار والنمو الطبيعي في إطار ثقافتهم العربية وهويتهم الإسلامية.

اللائكية سبب إخفاق الفرنكوفونية في بعض دولنا المغاربية:

أما بخصوص إخفاقها في المجال الديني، فسببه لائكية عرجاء حاولت أن تلوك مبادئها لبعض صغار العقول بعد مد وجزر ومضغ وعسرة هضم؛ أنجبت ما نراه اليوم عند الأجيال الصاعدة من ضعف في القيم الخلقية والروحية أبعدتهم عن منابع الإيمان وتوجيهات الوحي، فأصبحت قلوبهم خواء، وأفئدتهم خلاء لا يجمعها رباط ولا توحدها غاية. ولفهم ذلك، لا بأس أن ننقل هنا كلمات طيبة للدكتور فريد الأنصاري، تبين عمق الاختراق الذي أحدثته سياسة الفركوفونية هذه في بلده، المغرب الشقيق، نقلا عن كتاب “الفجور السياسي والحركة الإسلامية بالمغرب”، ص 47 ـ 48. يقول رحمه الله: “لعل أهم ما يمكن رصده في المجالين التعليمي والثقافي هو السيطرة الفرنكوفونية على الوضع مطلقاً؛ فالتعليم لم يستطع أن يتخلص من عقدة اللغة الفرنسية، وإنه من العار أن تكون هذه اللغة المتخلفة لا تزال تتحكم في رقاب التلاميذ منذ عهود الاستعمار إلى يومنا هذا. وقد أصبحت هذه اللغة المتخلفة حقاً في ركام الماضي. وها هم أهلها اليوم عالة على الكلمات والمصطلحات الإنجليزية. ولست ههنا مفضلاً لهذه على تلك، وإنما أجزم أنه من الخطر التربوي والنفسي على الطفل أن تحشى ذاكرته بأي لغة غير لغته الأصلية التي تحمل هويته الثقافية والدينية في مرحلة الطفولة حتى يبلغ سن الرشد القانوني، فيتفرغ حينئذ لما شاء بعدما يكون قد أتقن لغته استعمالاً وإلهاماً وإبداعاً… إن مناهج التعليم المزدوجة هذه هي التي خلقت لنا طبقة المثقفين المنحرفين و بعض الأدباء الإباحيين؛ فلا تقرأ في المغرب من الشعر والرواية إلا ما يُمَجّدُ السقوط ويكشف العَورات؛ حتى أصبح (الجسد) لغة في حد ذاته لا يكاد يخلو منها إبداع شعري أو سردي. ألا ترى هذا السباق المحموم نحو التعري بين المسمين (مبدعين)؟ فبقدر جُرأتك على المحرَّمات والمقدَّسات والتعري بقدر ما تكون من العظماء والمجددين. أما العالمية فهي بين أمرين: إما أن تكتب بالفرنسية، وإما أن يقيض الله من يترجم لك إلى الفرنسية! حتى إذا اطلع السادة الفرنسيون على قدر ما (كشفت) من مخبوء؛ يكون حينئذ من الإطراء ما يكفي لرفع مستواك إلى صف العالمية طبعاً من خلال دائرة الفرنكوفونية..”.

أما اليوم، وفي ظل النظام العالمي الجديد تقدم الفرنكوفونية نفسها للدول الأفريقية بديلًا حضاريًا، ومشروعًا سياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا ترعاه دولة فرنسا “البنت الكبرى للكنيسة”، وتسعى إلى توظيفه كسلاح تشهره في وجه العولمة؛ لتضمن به بقاءها على الساحة الدولية، وتفتح من خلاله فضاءات لإنعاش اقتصادها وتعزيز موقعها في وجه النزعة الأنجلو-أمريكية. ويحتل نظام التربية والتعليم ضمن هذا التوجه موقعًا أساسيًا كخطة تعتمدها فرنسا لبسط فرنكوفونيتها؛ ولذلك فهي تعمل في كل الاتجاهات، وبكل الوسائل للنهوض بلغتها وحماية ثقافتها في مختلف مَحمياتها ومستعمراتها الإفريقية التي ترى فيها امتدادًا لوجودها. ومن أهم المشاكل التي تواجه الفركوفونية اليوم، ما يعبر عنه في تقرير جديد ضخم في 200 صفحة (**)، نشرته لجنة الشؤون الخارجية بالبرلمان الفرنسي وأشرف عليه كل من البرلماني الفرنسي، فرانسوا روشبلوان من حزب اتحاد الديمقراطيين الأحرار، والبرلماني اليساري أمير شاه بورية، فرنسي من أصول إيرانية. نتطرق إليه لاحقا بموضوع مستقل بحول الله في فصل خاص حول الفركوفونية والتعريب في دول شمال إفريقيا.

محمد مصطفى حابس
22 ديسمبر 2014

إحالات:

(*) XVe Sommet de la Francophonie (Dakar-Sénégal, 29-30 novembre 2014) : déclarations, résolutions, plans d’action

http://www.francophonie.org/XVe-sommet-de-la-Francophonie.html

(**) للمقال مراجع أخرى، ننشرها مع الجزء الثاني والأخير للمقال.

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version