لا يختلف اثنان إذا قالا أنّ جوهر الدولة هو المؤسسات، والجزائر حاليًا ليس لديها مؤسسات حقيقية أو بالأرجح أهملت بالكامل معنى كيان الدولة لصالح الزبانية، المحسوبية والدشروية والعروشية. فالنخب اتخذت الإقصاء والرداءة في خضم الريع الفياض للبترول كسياسة لتمييع صورة الفساد وتوصيفها ضمنيًا، إن لم نقل علنيًا، نتيجة تمادي بؤرة اللاعقاب والامعقول كنمطٍ للتسيير، بمعنى أنه لا توجد هناك صبغة بنيوية للأداء السياسي ولا دلالة سسيولوجية للخطاب النخبوي عدا طابع الاستغلال والاستيلاء، أولًا على الثروات وثانيًا على الشرعية. تِلكُم الآفتان اللتان قال عنهما الماوردي أنهما تعاكسان ما يسميه “الأُلفة الجامعة” للأمّة وتكرّسان الطابع الاستبدادي للسلطة. فالنفاق الاجتماعي الذي يطال هذه السنوات الأخيرة الأفراد والأُسر، ناخرًا الضمير الجمعي للوطن مردّهُ تلوّث البيئة التربوية والتنشيئية للأجيال.

لقد أضحى بذل الجهد لتحقيق الربح الحلال عند المواطن العادي وصمة عار على الجبين بدل أن يكون الطريقة المثلى للصعود في السلم الترتيبي للمجتمع. فالراشي أصبح محبوبًا من طرف عامة الناس لمتانة علاقاته ونفوذه في الإدارات والدواليب البيروقراطية وأيضًا لتأمينه العيش اليسير دون معاناة أو إحراج بينما نجد المواطن الحذِر، الرزين والحريص على الذود على بلاده في أعوص الحالات، معرّضًا في غالب الأحيان لوحشية الآلة الإدارية. هذا أدى إلى تفكيك روح الوطنية الراسبة في الأعماق المجتمعية وتأصيل الحقد والضغينة في نفوس المهمشين؛ يمكننا الجزم قولًا على حيثية هذا الاستدلال أن مجتمعنا يواجه موجة من “هستيريا الإكتساب” أتت على الأخضر واليابس مجبرة الفرد على الوصول إلى قمة الثراء بكل الوسائل محبذة كانت أم لا. فبكارة الأخلاق اغتُصِبت وبواعث المادية غير المدروسة استفحلت، فضلًا عن انتشار عدوى “فوبيا الفوضى”، أقصد فوضى بمثل تلك الحقبة الحادة والدامية التي تلت الحراك الديموقراطي نهاية الثمانينات.

بالطبع التغيير دُفِنَ على أطلال الحرب الأهلية وأيّ رؤية استشرافية على ضوئه توسم بأنها دعوة إلى زعزعة الاستقرار الداخلي وتواطؤ مع أيادٍ خارجية، خصوصًا وأنّ البلاد أصبحت مركز التوازنات الإقليمية في المنطقة العربية والمتوسطية على إثر سقوط الدكتاتور مبارك في مصر وظهور أزمة الساحل. مثل هذا التأويل الزائف والمعتم دنّس فكرة المواطنة وقتل في الصميم التعبئة الاجتماعية للنقابات والشرائح المثقفة والطليعة بوجهٍ عام مولجًا إياهم في سُبات وتنويم مغناطيسيين على المدى الطويل. هنا نرى أن الخطاب السياسي والسلطوي قد انتقل من مرحلة التفاخر بدخول الجزائر مصاف الدمقرطة (أكتوبر1988 والتعددية الحزبية الفريدة في الوطن العربي) إلى فترة تبرير الركود وحكم “الجملكية” باسم لغة السلم واستتباب الأمن، وسط بركان متراكم من الثورات التي سلكت في معظمها مسلك النكسات.

والسؤال المطروح هو: كيف يمكن إنقاذ الديموقراطية من الهلاك إذا لم تقم الصفوة السياسية بواجبها الوطني القاضي بمحوِ تلك القداسة المسيجة من طرف جيل الثورة عل ماضٍ عتيد أثبتت تجربة اليوم ضرورة تجاوزه، والمضي قُدمًا من أجل إعادة رسم خارطة جديدة للدولة بما يضمن للشبيبة قسطًا كافيًا من المسؤوليات ويساهم في ما أسميه شخصيًا “صلحُ الأجيال”؟ وفي المقابل يُعزّز مبدأ فصل السلطات وتُحدّد بدقة وبمشاركة كل الفاعلين في المجتمع المدني مهامّ الجيش في عملية صنع القرار. إنّ التحليل الدقيق في تاريخنا المعاصر يثبت جليًا أنّ مسؤولية جيش الحدود في تقويض المسار الاستقلالي للشعب كاملة وأُسس الدولة الجزائرية الحديثة كانت رهينة اللعبة الصفرية التي صاغها العسكر آنذاك. التركيبة المورفولوجية للثنائي “مدني خاضع ـ عسكري حاكم” لم تتبدل بتاتًا حتى اليوم رغم كل التطورات التي عرفتها البلاد. هذا ما يستلزم اليوم منا إعادة رسم خارطة الدولة الجزائرية المعاصرة.

كمال قروة
14 نوفمبر 2014

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version