من المفارقات العجيبة، أن بعض الجهات التي دعّمت وساندت ما سُمّي بالربيع العربي، وأنفقت ملايير الدولارات لجلب وتسليح من وصفتهم ب”الثوار”، انقلبت فجأة، وغيرت مسارها إلى النقيض تماما، فالذي أذهلني حقّا هو أن دولة الإمارات العربية على سبيل المثال، شاركت بطائراتها الحربية لدعم “ثوار الناتو” في ليبيا، بغرض الإطاحة بنظام العقيد الراحل معمّر القذافي، وهي اليوم وبحسب تسريبات أمريكية، تُغير بطائراتها على ليبيا لتحريرها من هيمنة بعض فصائل “الثوار”، الذين شاركوا الإماراتيين والقطريين والأمريكيين وغيرهم في تنفيذ مسلسل المؤامرة على ليبيا وبعض البلدان العربية.

الكل يعترف اليوم، أن ما سُمّي بتحرير ليبيا، أفضى بحقّ إلى القضاء على مفهوم الدولة في ليبيا، بل وأكثر من ذلك تحوّلت ليبيا على عهد “ثوار الناتو” إلى أكبر مصدّر للمسلحين والسلاح إلى بلدان الجوار، وإلى سوريا بالدرجة الأولى، وهو ما سبق وأن حذّرت منه مرارا وتكرارا في العديد من المقالات التي نشرتها، والتي اتهمني البعض من خلالها أنّني أساند وأدافع عن الأنظمة الديكتاتورية، كما أنني وعبر كتاباتي حذّرت المملكة العربية السعودية من أنها لن تكون بمنأى عن الخطر، إن هي سايرت دُويلة قطر وتحالفت معها في تنفيذ مسلسل التآمر الصهيوأمريكي، وصدقت التحذيرات، واكتشفت السعودية ومعها بعض دول الخليج، أن دُويلة قطر ومعها تركيا الأردوغانية، تعملان على نشر الفوضى الخلاقة في كامل أرجاء العالم العربي بالأخص، وأنّ هذه الفوضى ستعصف بالعديد من الدول بما فيها السعودية ودول الخليج بالإضافة إلى مصر ولبنان ودول المغرب العربي، وهذه الفوضى، لن تنتهي إلا بتقسيم المقسم وتجزيئ المُجزّأ، وبرأيي أن أهم عامل ساعد على انكشاف خيوط المُؤامرة، هو صمود    سوريا شعبا ونظاما في وجه أخطر حرب كونية شنت على بلاد الشام، فهذا الصمود الأسطوري، أطال زمن الحرب، بعكس ما كان مُخططا له من قبل مهندسي “الربيع العربي”، الذين راهنوا على إسقاط سوريا وليس النظام فقط، في ظرف أشهر معدودة، فطول عمر الأزمة، أصاب المهندسين والأدوات التنفيذية بحالة هستيرية، دفعت بهم إلى ضخّ عشرات الآلاف من المسلحين في سوريا، ومدّهم بمختلف الأسلحة الفتاكة، إضافة إلى التمويل السخي الذي فاق كلّ التصوّرات، وبالمُقابل فإن التنظيمات الإرهابية التي انخرطت في مؤامرة “الربيع العربي”، انتهجت سياسة ماكيافيلية بامتياز، لعلمها أنّ تنفيذها للمؤامرة سيسمح لها بتقوية نفسها أولا، كما أنها في حال نجاح المؤامرة لن تكون مضطرة للإنسحاب من سوريا، ولنا فيما حدث ويحدث بليبيا خير مثال على ذلك، بل إنّ ما يجري اليوم في سوريا والعراق، من تمدّد للتنظيم الإرهابي “داعش”، أكد للمجتمع الدولي برُمّته، أن “الربيع العربي”، صنّع تنظيما إرهابيا أخطر بكثير من تنظيم القاعدة، لأن “داعش” وبعكس القاعدة، أسّس لنفسه “دولة”، وهو اليوم بات يشكل خطرا ليس على سوريا والعراق فحسب، وإنّما على كامل بلدان المنطقة وعلى رأسها السعودية، التي أصيبت بصدمة قوية، بعدما هدّد داعش باجتياحها وهدم الكعبة الشريفة، فسارعت السعودية بذلك إلى دقّ ناقوس الخطر، واستقدام مئات الجنود من المغرب، لحمايتها من الخطر الداعشي، كما أن امتداد داعش إلى إقليم كردستان العراق، أخلط حسابات الأمريكيين والصهاينة، فهبّ الأمريكيون لشنّ غارات على تنظيم داعش في العراق، وهم يحضّرون كذلك لشن غارات مماثلة في سوريا، في حال الوصول إلى اتفاق مع الدولة السورية.

هذا التغيّر في موازين القوى بليبيا وسوريا والعراق بالأخص، لم يكن في حسبان الأمريكيين وأدواتهم على الإطلاق، لسبب بسيط للغاية، هو أن المخطط كان يهدف إلى الإطاحة بأنظمة الحكم في الدول المُستهدفة في زمن قصير للغاية، لكن الصمود السوري كما قُلنا قلب الموازين، وعوض أن يعترف المُتآمرون بفشلهم، رأيناهم يصرّون على مواصلة الحرب على سوريا، بإعلان تحالف صريح مع التنظيمات الإرهابية، التي كانوا يعتبرونها مجرّد أدوات لا غير، لكنها فاجأتهم بتحوّلها النوعي وانقلابها عليهم، بعدما استفادت من كل أشكال الدعم من مال وسلاح ووسائل تقنية جدّ متطوّرة، فداعش اليوم، وصلت إلى حدّ إرسال رسائل واضحة لمموّليها، بتهديدها للسعودية، وذبحها لصحافي أمريكي،  لأن داعش لم تعد بحاجة إلى احترام اتفاق التحالف مع الأمريكيين وأدواتهم، لأن التحالف كان مجرد وسيلة لتقوية صفوفها لا غير، ومنطق داعش يرتكز على الحكم الشرعي “الضرورة تُبيح المحظورة”.

برأيي أن الإعتماد على الدعم الأمريكي لمحاربة داعش، يشكل أكبر خطر على دول المنطقة ككل، لأن الأمريكيين بمشاركتهم في الحرب على “داعش” سيُوجدون لهم موطئ قدم ثابت ومُتقدم في منطقة الشرق الأوسط ككل، وحتى المغرب العربي، والمنطق يفرض على الدول العربية جميعا، أن تعيد النظر في حساباتها، لأنه لا يُعقل البتّة الإستعانة بصانع “داعش” للقضاء عليه، فالأصوب أن تلتحم الدول العربية مُجددا، وتنسق جهودها لمُجابهة الخطر الداعشي، والفكر التكفيري الذي لن يستثني أي بلد عربي ولا أية طائفة، وذلك لن يتحقق إلا بتجاوز الحدود التي رسختها معاهدة سايكس بيكو، خاصة وأن تنظيم داعش أعلن قيام “دولة الخلافة” في المنطقة المشتركة التي استولى عليها في العراق وسوريا، واختيار التنظيم لمصطلح الخلافة، يختزل بحدّ ذاته أهداف هذا التنظيم الإرهابي، واستراتيجيته لما هو قادم من الأيام.

وبالنسبة لتطور الأحداث بليبيا، فبرأيي أن دول الجوار لوحدها غير قادرة على حسم الأمور، كما أن اعتماد الغارات الجوية المحدودة من قبل دولة الإمارات لن يكون له الأثر الفعال، والمنطق يفرض تدخلا عربيا، ليس بالسلاح فقط، وإنما عبر المساعدة على إعادة تشكيل “الدولة” في ليبيا، لأن السلطات الفعلية المتحكمة في ليبيا اليوم، هي نتاج لحرب الناتو على ليبيا، وأقول سلطات فعلية، وليس سلطة فعلية، لأن بليبيا اليوم جيشان وبرلمانان، إضافة إلى عشرات المليشيات المسلحة الأخرى، وبالتالي فإن التدخل لإنقاذ ليبيا يجب أن يسبقه تقوية قوى وطنية ليبية، لم تُشارك في التآمر عليها مع الناتو وأدواته.

بصراحة وأمام هول ما نراه في ليبيا وسوريا والعراق، يحق لنا أن نتساءل، أين اختفى “الربيع العربي”؟ وأين هي المحاسن التي وعد المهندسون والمتآمرون باستجلابها إلى المنطقة؟.
 
زكرياء حبيبي
26 أوت 2014

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version