يؤلمني أن أطرح هذا السؤال وأنا في أواخر عمر جيل نشأ وترعرع على حب وطنه، واثقا في أماله وتطلعاته أن يراه يوما مزدهرا يتحدى بفخر الجهل والفقر والتخلف الذي تسبب له فيه الاستعمار البغيض، وأن يضرب لباقي شعوب العالم المتخلف المثل في القدرة على البناء والتقدم كما كان بالأمس مثلا في المقاومة ودحر الأعداء، وأن يكون قاطرة أفريقية في التحضر والرقي واستعادة الشخصية ببناء دولة قوية مستقلة في قرارها، متحكمة في مواردها، بعدما كان قاطرتها في الانعتاق من رق الاستعباد.

ولكن تجري الرياح أحيانا بما لا تشتهى السفن، وتعيق – ولو لبعض الوقت – مسارها، فيصاب ركابها بالخوف والحسرة، خاصة عندما يمنعون – أمام عجز ربٌانها – من المساهمة في الحفاظ على وجهتها وإنقاذها. أمثالي كُثر ممّن يعتقدون أننٌا ومنذُ الاستقلال نُمعِن في تضْيِيع الفرص، وتأجيل موعد “لحظة التفاعل الإيجَابي” أي لحْظة “الحَفْزْ” بين الإنسان الجزائري – كعضوٍ فاعِل في مجتمعٍ متكامل – وبين القُدُرات الوطنية الهائلة من أرض شاسعة وثروات طبيعية متنوعة، ذلك التفاعل الذي يمكننا من الانطلاق في البناء الحضاري واللّحاق بركب الأمم المتقدِّمة على ضوء تاريخ فكري ونضالي حافل.

بعد خمسين عاما من الاستقلال، لاتزال لغة المستعمر هي السائدة في الإدارة ولدى المسؤولين وفى المعاملات مع الخارج، ولاتزال الطاقات معطّلة، والمواهب مُهملة، والإبداع يُهان، ونقرأ في وسائل الإعلام عن مئات الاختراعات للعلماء الجزائريين في الخارج، وعن عشرات براءات الاختراع تودع في الجزائر ولا يردّ عليها، فيلجأ أصحابها إلى من يستغلها في الدول المتقدمة. كما أنه لا يزال الكثيرون يحملون عقدة النقص أمام جلاد الأمس المظلم ويعتبرون فكره ولغته طوق النجاة لبلادنا، ويريدون فرضها مع تدنِّيها السافر عالميًا، خاصة في مجال البحث العلمي. أيضا لا يزال البعض لم يتخلصوا بعد من عقلية الخنوع لكل من بيده سلطة ويلوحُ بعصى ولو زائفةً ويقبلون الدنيّة في حياتهم، والانهزام في أفكارهم فينكفئون على ذواتهم ولا يعبؤون بالشأن العام كأنه لا يعنيهم، ويعبثون بالملك العام كأنه ملك أعدائهم، فدبّت في المجتمع الأنانية، والانتفاعية المادية، والانتهازية الفكرية، والدينية، وعدم الجرأة على وصف المنكر منكرًا، ناهيك عن محاولة تغيِيرهِ. كما نمتْ عقيدة الخلاص الفردي عند الكثير من المتديِّنِين، وبالأخص بين المنتسبين للسلفيِّة والصوفيِّة.

المتمعّن في أحوالنا يُدرك أننا مجموعة أفراد يعيشون في رقعة أرضية واحدة، ولكن دون روابط متينة تجعل منّا مجتمعًا متماسكًا في حركته، متكاملًا في أعماله، موحّدًا في أهدافه ومرجعياته. فعندما لا يستطيع أوْ لا يجْرُؤُ الجار أن يُوجِّه النُّصح أو اللّوم المبرٌر لجاره أو أن ينهى الكبار الصّغار عن العبثِ في الشارع خوفًا من أذاهم أو حينما يخاف الأستاذ على نفسه من تلاميذه أو لا يأمن المواطن من بطش الإدارة أو رجل الأمن، فلا يمكن الكلام عن مقوّمات مجتمع. فكلام الناس وتندراتهم لا تخرج عن دائرة الشجارات اليومية والتجاوزات القانونية والفساد المالي والأخلاقي الذي طال جميع شرائح المجتمع، ويكبُر كلّما ارْتقَى صاحِبه في السُّلَّم الاجتماعي.

فالمواطن الذي يرى بأمِّ عيْنِه مَن هُو متيقِّن من انحرافهم أو فسادهم أو قِلَّة عِلمهم يعتلُون المناصب الخطيرة على حاضره ومستقبله، ومنهم من لا يُحسنون حتى التَّواصل معه بلغته، وكذلك من يُكدِّسون الثروات دون جُهد وبغير وجه حقٍ – على حساب الآخرين – لا يمكن لأحد أن يطلب منه احترام القانون وامتثال القيم وهو يشعر يوميًا أن القيمة الوحيدة الفاعلة في المجتمع هي المادة. فأصبح البعض يلهث وراءها دون تحرّي الوسيلة المؤدية لاكتسابها، مقتنعًا أنها حصنه المتين الضامن لحمايته من كل أذى.

كل ذلك يولّد آفات اجتماعية، وتصرفات مشينة من الاستعلاء الخادع الى الاستعباد المذل، طرفي نقيض يجعلان أصحابهما يعيشان على هامش أغلبية المجتمع والذي – رغم كل ما سردناه من أمراض أصابته ومن تفاوت نسبي ثقافيا وماديا بين أفراده – تبقى أغلبيته متعايشة ومتكافلة بفضل إيمانها بالله وتمسُّكِها بما تبقّى لها من قيم دينية وموروث حضاري -ولو مشوّه – يمنعُها من التّصادم العنيف والتمزق القاتل، ولكن دون قُدرتها على التغْيِير الإيجابي الضامن لتطوّر المجتمع.

فالصنف الأول ممن على هامش المجتمع – يُسمّون زورًا في زماننا بعلية القوم أو الأعيان – وهم الذين تستعين بهم السلطة كممثلين للشعب في تقييم أدائها أو تنبيهها لحاجياته. نستطيع الجزم بأنّ أغلبهم منتحلي شخصية ليست لهم مكانة اجتماعية تذكر. هذه الشريحة تتكوّن أساسا من المتملِّقين المبرِّرين لكل ما يصدر عن السلطة مقابل عطايا ومناصب شرفية، ومن الذين تكدّست لديهم الأموال بطرق مختلفة غالبا غيرُ شرعية وفي زمن قصير. جلّهم لم يستوعبوا بعد وضعهم الجديد فيُغريهم المال والجاه ويُلحقهم بأصحاب الامتيازات، فينفصلون عن باقي الشعب. كذلك الحال بالنسبة لشريحة كبيرة من النخب المثقفة التي تعيش على هامش المجتمع بفكرها الغريب، وارتباطاتها برجال المال والأعمال ودوائر السلطة، فمنهم مرتزقة اللسان والقلم، ومنهم من نستطيع تسميتهم بـ “الحرْكة الجدد” غرباء الفكر والقلم، والذين لا شغل لهم إلا إهانة شعبهم بالطعن في دينه ولغته وتاريخه، وإبداء الولاء للأعداء إلى درجة التملّق للصهاينة.

وفي المقابل نجد في أسفل السلم الاجتماعي أناس رضوا بالمهانة وكأنهم مخدّرين لا يعون ما يجري حولهم ولا بهم، يخيّل للبعض أنهم فقدوا كل إحساس بأنهم بشر لهم حقوق كما عليهم واجبات، ويقبلون العيش في أدنى ظروف الحياة من مسكن ومأكل وملبس، أو بالعمل في أوضاع مشينة ممكن تحسينها لو أرادوا. المثال الفاضح على هذا هم عمال النظافة في مدننا أو بالأحرى عمال الزبالة. نعترف أوّلا بفضلهم علينا ودورهم الكبير والحساس في المجتمع، ولكن نتساءل كيف يقبلون ظروف عملهم الصعبة والمهينة؟ فهل هم واعون لوضعهم أو فاقدون لكل إحساس؟ هل حاولوا تغيير ظروف عملهم ولم يستطيعوا؟ هل هم مرغمون على وضعهم هذا بالقوة؟ لا أعتقد ذلك، لأننا لم نر يوما أحدهم بيده سياط يجبرهم على العمل في تلك الشاحنة القذرة، وذلك الجو الموبوء والروائح الكريهة وبتلك الملابس الوسخة. وضع يؤذينا جميعا ولا نستطيع تغييره. فلعل مع مرّ الزمن ضمرت حواسهم ولم يعودوا يميزون بين القبيح والحسن والطيب والقذر، بحيث يصدق فيهم قول الشاعر: “من يهن يسهل الهوان عليه * ما لجرح بميّت إيلام”.

ولكن ماذا عن المسؤولين على هذه المصالح، هل مات حسهم أيضًا!؟ كيف يقبلون لأمثالهم من بني البشر أن يعملوا في أوضاع مهينة!؟ لماذا لم يوفروا لهم وسائل النظافة والسلامة اللازمة!؟ هل من الصعب أن تُقيم كل بلدية محطة لغسيل الشاحنات وتعقيمها كل يوم؟ وأن توفّر للعمال ملابس خاصة لأوقات العمل تغيّر ولو مرتين في الأسبوع! كما يجب أن يكون لهم حمام خاص في المصلحة يغتسلون فيه إجباريا بعد الانتهاء من العمل. كل هذا ممكن وواجب فعله من المسؤولين وواجب اشتراطه من المعنيين.

كيف إذًا نتخيل وضع مجتمع رأسه مُمرَّغ في الفساد ورجلاه في وحل الجهل والقابلية للاستعباد، يتعالى فيه المسؤول عن القيام بواجبه دون حساب، ويتنازل فيه المستضعف عن حقه المسلوب دون اضطراب! لا يمكن إلاَّ أن يكون خائرًا غير متماسك، ضعيفا غير قادر على صدّ كيد الأعداء.

فالمجتمع المتماسك هو الذى يشعر فيه كل عضو – عن وعي وبكل مسؤولية – أن له دورًا مهمًّا ومساهمة فعّالة في دورة الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية لفائدة كل أفراد هذا المجتمع، مهما كانت وظيفة ذلك العضو، وبهذا يكون سعيدًا عند أداء عمله كما يسعد عند أخذ حقه دون غبن ولا منّة من أحد.

وفى غياب هذا الشعور بالعضوية التامة لكل أفراده يكون المجتمع كالكيس المملوء بكويرات حديدية يحك بعضها بعضا دون روابط تشدها لتكون وحدة متماسكة إذا حُلَّ رباط الكيس اندثرت وتفرقت، وبهذا المثل شبّه الأستاذ مالك بن نبى رحمه الله المجتمعات التي فقدت روابطها الاجتماعية أي منظومة قِيمها وخرجت على النسق الحضاري.

محمد جاب الله
23 أوت 2014

تعليق واحد

  1. الحسين بتاريخ

    ردّ وإضافة
    مقال الأستاذ محمد جاب الله سرد مؤلم لأوضاع اجتماعيّة بائسة تنهش قلوب كلّ من له حسّ وطني خالص .نهايتهامحاولة لفهم ما يحدث : بفقد الاجتماع الإنساني مبرّراته عندما تنهار قيم علاقاته . وأنا أتمنّى من الأستاذ أن يخرج بنامن طور التشخيص إلى التفسير ومحاولة الفهم : نحن مجتمع يستمدّ تكوينه التاريخي من الدين ، فما الذي جعل القيم تنسلخ عن الدين ؟ وكيف يمكننا تفسير أنّنا متديّنون ولكنّنا غير أخلاقيين ؟ ..
    هذه أسئلة أتمنى أن نجد لها إجابات في محاولات لاحقة ما دام السؤال المطروح خطير بقدر ما هو مثير ..

Exit mobile version