قدوة.. فهل من مقتد ؟

الجولة الخاطفة التي قادتني إلى عاصمة الخلافة المغدورة “إستنبول” جعلتني أذهل وأنا أقارن حالها على ضوء ما خبرت عن سالف أيامها. كيف كانت وكيف أصبحت ؟ إستنبول ما قبل “أردوغان” مدينة مترامية الأطراف تغشاها زبالة مادية وأخرى معنوية، يتوسطها خليج القرن الذهبي الأنتن من وادي الحراش بالجزائر.

اليوم بعد أن من الله على الأتراك برجل منهم يألم المهم ويأمل أملهم تحولت هذه المدينة بنسق سحري إلى نموذج للفكاك من التخلف والقذارة على جميع الصعد. فقد باشر الحزب الحاكم ورجالاته سياسية رشيدة كنست كل مخلفات الإرث “الأتاتوركي” سيء الصيت. إن “أردوغان” لم يكن رجل سفسطة ولا مهووس بالتورم “الأناوي” المقيت ولم يسارع إلى حرب طواحين (ولا حرب طحاحنة) دونكيشوتية ضد “أتاتورك” كعادة حكام العرب الذين كل ما حكم منهم شخص أو جماعة لعن سابقيه. بل إنه راح يحقق الإنجاز تلو الإنجاز ليذبح ذكرى أتاتورك والأتاتوركيين من العسكر والسلبيين والإنتهازيين على مذبح انجازاته، فلم يحطم له منها صنما ولا طعن له فكرة أو مقولة، وترك حبل الإنجازات على جراره فكانت تتكلم عن نفسها وتنوب في الثناء عليه عن وسائل الإعلام المنافقة وأبواق دعاية الإفك.

إن إسطنبول أصبحت قبلة  ومحج السواح من كل حدب وصوب وتحولت أطرافها المترامية إلى ورشات حية دبت فيها حياة الإنجاز والإعمار بعد عقود الظلام العسكري الديكتاوري الأتاتوركي.

لقد عمل حزب العدالة والتنمية في تركيا دون كلام ومهاترات واهتدى -كما لم يهتد غيره في بلاد شتى إلى أهمية العمل في صمت وبإخلاص دون ديماغوجية وجعل من الإنجازات نعوتا وأوصافا له جسد روح “بضدها تعرف الأشياء”. تكلم قليلا وفعل الكثير الكثير.

أين الديكتاتوريات العسكرية الفاشية من تركيا التي أخرجها أبناؤها الوطنيون من ربقة القمع والإستبداد؟ أين القومجيون والثورجيون العرب العملاء من تركيا التي صحح حكامها “مصطلح الوطنية” في قاموسهم وجعلوه مفهوما للتماهي مع القضايا القومية والنهوض الإقتصادي وحل الأزمات الإجتماعية وفرض سيادة القرار في المحافل الدولية؟

هذا هو أردوغان، وهذا هو حزبه وهذه إنجازاته، هذه هي القدوة التي تعمى عنها بصائر وأبصار العرب المتخلفون، ففيما لا يدخر الأتراك جهدا لإعادة بعث أمجاد الإمبراطورية الطورانية والعودة إلى كوكبة الأمم المتقدمة يجر نظرائهم في بلاد “قمع ستان” العربية أوطانهم إلى التقسيم الداخلي والتناحر الداخلي ويراودون مستعمر الأمس ليعود فيتسيدهم ويسلموه أذقانهم، بل إن أكبر مصيبة أبتلينا بها كعرب أن كلا من السلطة والمعارضة في أي بلد من بلاد العرب يتنافسون في العمالة والخيانة.

بين أقلية “الروهينغيا” والأقلية القبطية

عادة ما ترتبط الأقلية الإثنية أو الدينية بمفاهيم القمع والظلم والتمييز المسلط عليها بلا رحمة، ما يدفع بكثير منها لتصبح أحيانا آليات تافهة بأيدي القوى الخارجية تحقق من خلالها مصالح جمة استثمارا في  حقوق تلك الأقليات. غير أن هذه المفاهيم الإنسانية تتبدد كلها كلما تعلق الأمر ببلاد العجائب العربية. ذلك أن للأقليات في بلادنا حظوة تحسد عليها، بل إنها أحيانا تتجبر وتعلم سيف القتل في العباد وسيف الفساد في البلاد.

محرقة “السيسي” عميل الصهيونية وهولوكست الأسد  عميل الصفوية في كل من مصر وسورية هي جرائم أقليتين في حق السواد الأعظم من المواطنين بالبلدين. فعبيد “البيادة” أتباع “السيسي” هم لفيف هجين يضم من كل أقلية أقلية، مشكلين شبه شعب عبر عنه الماجن الداعر المتحجر بصراحة ووقاحة في أغنية عنصرية مطلعها “إنتوا شعب واحنا شعب” عزز بها لازمة الجريمة أغنية “تسلم الأيادي”. هذا اللفيف يضم غلاة صليبي القبط وفلول “حسني باراك” وبعض شيوخ “الفتة” و”الفتنة” من دعاة جهنم نجوم الفضائحيات.

و لا يختلف حال الشعب المصري المسلم عن حال أخيه السوري الذي يتعرض بدوره لمذبحة شنيعة فظيعة بأيدي أقلية أخرى مشكلة من أقليات فاسدي الإشتراكية البعثية وغلاة النصيرية العلوية الضالة المنحرفة.

لم يحدث في تاريخ البشر أن نكلت أقلية بأغلبية قبل هذا إلا في مصر أيام احتلال الهكسوس لها، حيث بلغ بني اسرائيل الدخلاء مبلغ قرابة من السلطة الحاكمة فنكلوا بالمصريين أيما تنكيل قبل أن يحرر “أحمص” بلاده وشعبه من الغزاة وعملائهم.

إن الأقليات لم تعد في الوطن العربي مجرد قنابل موقوتة يتحكم فيها الاستعمار القديم تارة أو الجديد تارة أخرى، ويهدد من خلالها تماسك اللحمة الوطنية فحسب، بل إنها باتت سيفا في متناول أي جهة تحاول  إذلال الشعب وسلب ونهب ثرواته. فالأقباط لا يزيدون عن 5 في المائة (حسب الواقع) أو 10 في المائة (كما يزعمون) من مجموع سكان مصر، غير أنهم يضعون أيديهم على 80 في المائة من حجم ثروة الخواص هناك.

إن كل ما ذكر بشأن الأقليات في البلاد العربية نجد نقيضه تماما ببلاد غير عربية، فعلى سبيل المثال تنكل الأغلبية البوذية في “ميانمار” بمسلمي “الروهينغيا”، وكذلك تفعل الأغلبية الرافضية الفارسية بعرب الأهواز. وهذا التناقض يحيلنا إلى إيجاد الخيط الرفيع -أو رأسه على الأقل – بين حال الأقلية القبطية بين أغلبية مسلمي مصر، وبين حال أقلية “الروهينغيا” المسلمة بين الأغلبية البوذية. وهنا يكمن الجواب وتتلاشى الاستفهامات كلها. وتتكشف حقيقة أن الذي تتداعى عليه كل الأمم ما هو إلا الإسلام وأتباعه، وهم الضحايا دوما مهما اختلف الجناة وأيا كان تعدادهم سواء كانوا أغلبية كما في مصر أو أقلية كما في بورما.       

الخطر الجاثم والخطر الداهم

كثيرون هم الذين حذروا كثيرا منذ كثير من عدم أخد الحيطة والحذر من الخطرين الأكبرين الذين يهددان أمة العرب، وهما الخطر الجاثم ممثلا في الحكام العملاء الخونة، والخطر الجاثم ممثلا في الذين يخون أولئك الخونة بلادهم وشعوبهم لصالحها من القوى العالمية الإمبريالية الكبرى. وهذه القوى هي العدو وهي الطاعون الذي لا نهضة ولا استقرار ولا تقدم لنا من غير الإنسلال براثنها.

لقد طورت هذه القوى “الصهيوصليبية” المعادية أسلوبها مع دول الربيع العربي حينما فشلت في امتطاء ظهر الثوار وتمرير مشاريعها من خلال انتصار ثوراتهم، فطفقت تغير جلودها كالأفاعي. والنتيجة واضحة جلية في كل من ليبيا ومصر.

 ففي الأولى فُككت مؤسسات الدولة التي لم تكن موجودة أصلا،  وانتفت فكرتها من الأساس بعدما تم نقل هذا البلد التعيس من الديكتاتورية الرعناء إلى الفوضى الهدامة حتى بات كثير من الليبيين – ومنهم من كان في الصفوف الأولى لثورة فبراير- يحن لأيام الطاغية المجنون. لأنه وقف على نتائج ما حذر منه شيخ الإسلام ابن تيمية منذ قرون “ظلم عام ولا فوضى ليلة”. فقد قضى الليبيون على الخطر الجاثم واجتثوه بتضحيات جسام لكنهم لم يهتدوا إلى ما يجنبهم مآسي الخطر الخارجي الداهم الذي ليست أفظع وأخزى ملامحه اختطاف رئيس الوزراء واستئساد المليشيات وتعطيل حركية الحياة الطبيعية.

أما في الثانية مصر فإن ثورة 25 يناير لم تكسر إلا الجزء البارز من قمة جبل الفساد، فيما ظلت “المفارخ” الفلولية تدبر التدبير بالنهار والليل، وتحيك المؤامرات والدسائس بالتنسيق مع إمارات الخليج العليل وأمريكا واسرائيل. فتعاون الخطر الداهم مع بقايا الخطر الجاثم لإعادة انتاج نظام مبارك في طبعة جديدة منقحة مشحونة بكل دنايا ونقائص وسلبيات وعار حكم ناصر والسادات ومبارك، بل والملك فاروق مع التجرد من أي حسنة وقعت سهوا من هؤلاء الحكام المذكورين. فالسيسي استبد وذبح كعبد الناصر، ولم تظهر له حسنة واحدة من ذرة شهامة مثل عبد الناصر. وباع وخان كالسادات، ولكنه لم يتجرأ على حرب اسرائيل مثله، وفسد وطغى وتأله كمبارك لكنه لم ولن يتراجع بعد كل الدماء التي اريقت مكثارا ومدرارا كما صنع مبارك.

إن مصير هذه الأمة مرهون بإيجاد سبل التحرر من الخطرين معا في ان واحد، ويتعين أن يكون الوطن والمواطن والولاء لهما بعد الولاء لله أول ولاء. ولن يتأتى ذلك إلا إذا طهر الثوار كافة الميادين من الفلول، أطلقوا ثورة تكميلية أخرى تستهدف تجفيق التواجد والتغلغل الأجنبي لإنهاء التبعية وتأسيس أطر وآليات تحصن مؤسسات الدول المنبثقة عن ثورات البيع العربي من أي عودة محتملة للخطر الجاثم بعد اجتثاثة أو نسول الخطر الداهم ومنع قدومه من أي ثغرة.      

عبد الله الرافعي
23 أكتوبر 2013

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version