نفى وزير الدفاع الفرنسي أن يكون على علم بأن الجزائر تملك أصلا موقفا رسميا إلى الآن مما يجري في مالي، سواء بدعم الحل التفاوضي أو التدخل العسكري، وأعطى انطباعا بأن ملف مالي ”أوروبي بالدرجة الأولى” وأن بلاده حسمت في أمر نشر قوات عسكرية، وهي تضع دور الجزائر في مؤخرة الترتيب بقوله “إذا رغبت الجزائر في مرافقة مسعى فرنسا ومالي ودول المنطقة بطريقة أو بأخرى فمرحبا بها” هذا بعض ممّا صرّح به جان إيف لودريان وزير الدفاع الفرنسي في حوار لجريدة ”20 دقيقة” الفرنسية.

تصريح وزير الدفاع الفرنسي، بهذا المستوى المتقدّم من الوقاحة، يؤكد مرّة أخرى أن فرنسا لا تزال سجينة ماضيها الإستعماري، بل وأنها لا تعي تمام الوعي حجم التحوّلات التي شهدتها مستعمراتها السابقة، ففرنسا التي كانت –وبشهادة غالبية المتتبعين لما يجري في مالي- وراء نشر الفوضى، ودعم الجماعات المسلحة بمختلف الأسلحة المتطورة، جراء مشاركتها الفعالة في غزو ليبيا، وقتل العقيد الراحل معمر القذافي، لا يُمكن تصوّر أنها لم تحسب حجم الإرتداد الذي سيصيب الدول المجاورة لليبيا، فبكلّ تأكيد أن فرنسا، كانت على دراية بأن زرع الفوضى في ليبيا، ستكون له نتائج مباشرة ومؤكدة، بل وسريعة، خاصة على الجزائر بالدرجة الأولى، التي سمعنا بشأنها تهديدات كبيرة من العقيد الليبي الطيار “أحمد باني” عميل فرنسا بامتياز، الذي هدّد الجزائر، بأنها ستعيش ثورة كبيرة يوم السبت 17 سبتمبر 2011، لكن هذا اليوم كان من أهدئ الأيام التي استغلها الجزائريون للاستجمام، ولم يسجل خروج أي جزائري إلى الشوارع على الطريقة الهمجية التي خرجت بها بعض الجماعات في دول ما يُسمّى بالربيع العربي، كما أن محاولات تسريب جماعات القاعدة والسلاح إلى الجزائر باءت كلّها بالفشل، وأكثر من ذلك كلّه، أن الجزائر نجحت في المحافظة على علاقاتها المُتميّزة مع حركة الأزواد، وساعدت الطّوارق النازحين من ليبيا، وكلّ ذلك أجهض المؤامرة الفرنسية، وساهم في استقرار الحدود الجزائرية، وهذا برأيي ما دفع بالفرنسيين إلى اللجوء إلى المؤامرة البديلة، وهي إرسال المقاتلين والسلاح إلى مالي، بدعم من دُويلة قطر التي أفادت مصادر إعلامية دولية، أنها أرسلت شحنات كبيرة من السلاح والمرتزقة إلى مطارين بشمال مالي، منذ شهور خلت، بالإضافة إلى فرق من قناتها الصهيونية “الجزيرة” التي باتت ترافق جماعات القاعدة في شمال مالي، وتتفنّن في تصوير أشرطة للمختطفين الأجانب لدى تنظيم القاعدة، ففرنسا وتابعتها قطر، لم تستسيغا كيف أن الجزائر حافظت على أمنها، ولم تسمح بانتقال عدوى “ربيع السُّم العربي” إلى شرايينها، وأكثر من ذلك كلّه، أن فرنسا وجرّاء لهفتها على الإيقاع بالجزائر، لم تدرس تبعات ومخاطر الخُطة البديلة، فكان أن استأسدت الجماعات المسلحة في مالي، وسيطرت بالكامل على شماله، وباتت تُهدّد منجم اليورانيوم، الذي يُزوّد المحطات النووية الفرنسية، بل ويهدد حتى منجمي اليورانيوم في النيجر، والذي سينطلق أحدهما ويُعتبر ثاني منجم لليورانيوم في العالم في الإستغلال ما بين سنة 2013 و2014، فالخطر الذي يُهدد مناجم اليورانيوم، والذي لم يكن في حسبان الفرنسيين ورئيسهم آنذاك ساركوزي، الذي أمر باغتيال العقيد معمر القذافي، قد يؤدي إلى توقف أكثر من 50 محطة نووية فرنسية لإنتاج الكهرباء، وهذا برأيي ما جعل وزير الدفاع الفرنسي يفقد أعصابه، ويعتبر مسألة مالي “قضية أوروبية بالدرجة الأولى”، بل ويتطاول على الجزائر، التي سبق وأن حذّرت الغرب وفرنسا بالأساس من مخاطر غزو ليبيا، واللعب بالأمن الإقليمي والدولي في المنطقة، ففرنسا التي باتت تائهة بفعل الأزمة الإقتصادية التي تعصف بها وبأوروبا وأمريكا، عميت أبصارها، ولم تعد ترى سوى الأهداف التي رسمتها للسيطرة على ثروات الشعوب الأخرى، وهي اليوم، بإرسالها شحنات كبيرة من الأسلحة إلى مالي، ومضاعفة استعداداتها لغزو هذا البلد، بغطاء إفريقي، سترتكب أكبر حماقة في تاريخها، لأن رمال الساحل الإفريقي سريعة التحرك، وقد تلتهم الآلاف من الجنود الفرنسيين والموالين لهم، في حال اندلاع المواجهة العسكرية، والجزائر التي يدّعي وزير الدفاع الفرنسي أن لا موقف لها، تعلم دقائق الأمور في منطقة الساحل، وتعلم أكثر من ذلك أن فرنسا ودُويلة قطر هما من تسبّبتا في الوضع الراهن، والجزائر التي عارضت أي حلّ عسكري للأزمة في مالي، هي الوحيدة التي سيُهرول إليها، الفرنسيون لإنقاذهم من المستنقع المالي في حال توحلهم فيه، وهذا غير مستبعد على الإطلاق، وأنوّه هنا إلى أنه على الفرنسيين بالدرجة الأولى، أن يستعيدوا دورهم التقليدي المُتوازن، في التعامل مع قضايا العالمين الإسلامي والعربي، كما كان الحال مع الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك، لأن ذلك من شأنه أن يعيد الأمن إلى المناطق التي أشعلها اللوبي الصهيوأمريكي، وأدواته الخليجية، لأنه بدون ذلك، سيصل لهيب الفتن التي اندلعت في ليبيا وسوريا ومصر وتونس واليمن، وغيرها، إلى الضفة الأوروبية، وخير دليل على ذلك، حالة التوتر السائدة حاليا على الحدود السورية التركية، والتي تُنذر باندلاع حرب عالمية ثالثة، ستُغيّر معالم الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، فالغرب وفرنسا بالأساس، الذي يُوهمنا اليوم بأنه يسعى لتخليص دولة مالي من تنظيم القاعدة، هو من يُسهّل إرسال الإرهابيين عبر تركيا ولبنان والأردن إلى سوريا، لتقتيل شعبها، وهدم بنياته التحتية، وبالتالي لا يُمكن لتحرّك مشبوه كهذا في دولة مالي، أن يوهمنا بشرعيته ومشروعيته، ما لم تتوقف الدول الغربية وأدواتها الخليجية عن إرسال المسلّحين إلى سوريا، ودعمهم بالمال والسلاح، فأي منطق هذا الذي يُمكن أن نقبل به، والذي يُحرّم دعم الإرهاب في مناطق معيّنة، ويُحلّل بل ويُشجع ويدعو لدعم هذا الإرهاب في مناطق أخرى؟

خلاصة القول أن ما وقع في دولة مالي من إجتياح للإرهابيين لشمالها، لا يُستبعد أن يتكرّر وبوتيرة أخطر في منطقة الشرق الأوسط ككل، وحتى في أوروبا، وقد يقول البعض بـأن مثل هذا الأمر مستبعد الوقوع في الدول الغربية، لاعتبارات جغرافية، وأقول لهؤلاء، عليكم أن تعلموا أن مخابر إنتاج وتصنيع الإرهاب كانت في أغلبها في أوروبا وأمريكا، والتجارب أكّدت لنا أن تسرب الفيروسات المخبرية لا يُمكن استبعاده حتى في ظلّ تعزيز الإجراءات الأمنية، وهذا ما يجب على الأوروبيين والفرنسيين بالأخص تفهّمه، فالإرهاب سيطرق أبوابهم، لأنهم أقرب إلينا جغرافيا من أمريكا، أما الصهاينة، فلا مجال لتحذيرهم، لأن وجودهم لن يظلّ سوى ظرفيا في كلّ الأحوال.

زكرياء حبيبي
5 أكتوبر 2012

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version