دعوات التغيير لم تتوقف يومًا، لكنها اختلفت في جوهرها بين أنصار التغيير من داخل هياكل النظام قصد إصلاحه، وبين دعاة التغيير الجذري خارج إطار النظام اعتقادًا منهم عبثية محاولة إصلاحه. كثيرًا ما ينحي الفريق الأول باللائمة على الفريق الثاني ويتهمه بالتطرّف، بحجة أن المصلحة العليا تقتضي التدرّج في الطلب وتجنيب البلد مغبّة الفراغ والانزلاق و’انهيار الدولة’. ومن هذا المنطلق مارس الفريق الأوّل منذ عقود ما يعتبره سياسة المشاركة الإيجابية رافضا سياسة الكرسي الشاغر، فيما اشترط الفريق الثاني ضرورة إنهاء السلطة الفاسدة كسبيل وحيد للإصلاح، خاصة في ضوء التجارب الكثير التي أثبتت عبثية تكرار التجارب المفلسة لدعاة التغيير من الداخل، ومن ثَمّ يرى هذا الفريق أنه لا مناص من القطيعة الفعلية مع كل من أوصل البلد إلى هذا الوضع المزري، رجالًا كانوا أو سياسات، على أن يتمّ الانتقال بطريقة سلمية لتجنيب البلد مآسي لا أوّل لها ولا آخر.

لكن قبل الاسترسال في هذا الموضوع، تقتضي الموضوعية والنزاهة، إقرار أنصار سياسة المشاركة داخل النظام، إن أرادوا الاحتفاظ بقدر من المصداقية لدى المواطن، بواقع وحقائق ملموسة لا ينكرها إلا جاحد أو مستفيد من الوضع القائم، في ضوء ما أبانت عنه هذه المشاركة المستديمة، من فشل مروّع، بحيث استطاع النظام احتواء أصحابها، بكل أطيافهم، بل وتمكّن من ابتلاعهم إلى درجة أضحوا يزايدون على من سبقهم في تكريس فساده وتفادي كل ما من شأنه إحراجه رغم هول الفساد المستشري، ودائما بحجة الحفاظ على ‘أركان الدولة’، مع الإنكار على كل منتقد لهذا المسار بل واتهامه بزرع بذور الفتنة.

لكن يبدو أن مع طول الإقامة في نادي الصنوبر وتحت قبة البرلمان، تحوّل أنصار التغيير من الداخل إلى مروّجين محترفين وصل بهم الشطط إلى درجة تمجيد الفاسدين ونفي ما يشاهده العام والخاص من فساد وإفساد، وهم يصوّرون مظاهر الفساد والفشل وكأنهما إنجاز لا يقدر عليه سوى القائد الفذّ، وانقلبوا بقدرة قادر من دعاة إصلاح وحكم رشيد إلى شهود زور وتدليس. وإذا كان ثمّة تبرير وتفسير يشفع لهم في بداية مشوارهم، فإنه لم يعد الأمر مقبولا ولا مسموحًا به الآن، ولا حتى محتملا، خاصة وأنّ هذا الوضع المتهالك لم يعد يخفى حتى على أبسط مواطن، ناهيك عن دعاة الإصلاح المفترض فيهم اليقظة، ويمكن بالدليل، ودون الجني عليهم، اعتبارهم قد أصبحوا الآن شركاء كاملي العضوية في الوضع المتأزّم، بعد أن تولّوا المناصب العليا في الدولة، بلغ نصيبها من الفساد ذروته.

الغريب أنّ هؤلاء، ما زالوا يواصلون الضحك على ذقون العباد رغم تجلّي الصورة واضحة، في أخزى مظاهرها. فحتى حديثهم وتسويقهم للإصلاحات الرئاسية المرتقبة تكشّفت ملامحها المترهلة، على لسان رئيس الدولة نفسه، وهو يبشّر الشعب بربيع من نوع آخر. وما أن انتهى خطاب الرئيس الأخير بمناسبة افتتاح السنة القضائية يوم 21 ديسمبر 2011، حتى تبيّن أنّ الأمر لا يعدو كونه محاولة بائسة أخرى لتبديد الوقت والطاقات والفرص، وأنّ الوعود لم تكن سوى ذرّ الرماد في العيون، دون أن يوفّر فخامته مخالفيه في شنّ هجوم شرس عليهم، ودون أن يراعي حتى لباقة الحفاظ على ماء وجوه من كانوا يلمّعون صورته ويرفعون من أسهم إصلاحاته، فكانت وعوده وكأنه يتكرّم على المواطنين بالتصدّق عليهم، وليس استرداد حقوقهم المشروعة بموجب دستور البلد، ولا عجب في ذلك، ألم يسبق لفخامته أن اتّهم هذا الشعب ذاته سنة 1999 قبيل انتخابه للعهدة الأولى، بعد انسحاب منافسيه الستّة عقب تأكدهم من التزوير المسبق، بالشعب الرديء، ولا يرقى إلى عبقرية فخامته كما تفضّل فخامته، ليس بموجب دستور البلد، وتكريسًا لحقّ المواطنين الراغبين في العمل السياسي، بل منحة منه، بأنه ‘سوف يسمح للأحزاب الصغيرة التي تُكثر الضوضاء، بالمشاركة في الانتخابات التشريعية القادمة’.

هل ما نشاهده هو مشهد سريالي أم جنون أم انقطاع عن الواقع أم ضحك على الناس مثلما دأبوا على ذلك على مرّ السنين؟ هل لا يزال القوم يعتقدون أنّ الشعب يثق بوعود الرئيس عندما يقول أنّ ‘الانتخابات التشريعية المقبلة ستجري في كنف تعدّدية غير مسبوقة بمشاركة طبقة سياسية ستتعزّز بأحزاب سياسية جديدة…’، أم أنّ الأمر بباسطة عدم اكتراث تامّ بما يعتقده هذا الشعب أو يطمح إليه، طالما أنه لا يزال في مرتبة الرعية لا المواطن، ومن ثَمّ لا جدوى من إرضائه ولا حتى محاولة إقناعه، لأنّ شرعية فخامته مستمدّة من جهات أخرى، يتكفّل مبعوثوه كمدلسي ومن هو على شاكلته استجلابها من عواصم العالم، ومن باريس تحديدا.

ثم أضاف ‘حرصه على تأمين كافة ضمانات الشفافية في الانتخابات التشريعية المقبلة، معلنًا أنّ الجزائر ستوجّه الدعوة بهذه المناسبة للملاحظين الدوليين’ بادئ ذي بدء، أليس في ذلك اعتراف صريح بأنّ الانتخابات التي سبقت، والتي انتُخب هو بموجبها لم تكن لا شفافة ولا نزيهة؟ ثم استبق ما ستفرزه صناديق لاقتراع ليقرر ‘على كلّ حال، ليست الديموقراطية هي التي سوف تنتزع الأصوات من ‘الكبار’، وهي إشارة واضحة منه، أنه لا يشكّ البتة في نتائج الانتخابات القادمة، وانتصار أشياعه.

هل يحمل الرئيس على أعينه غمامات، تجعله لا يرى كيف تكون الانتخابات الحرّة في دول الجوار، وهل نسي أصلا أنه هو نفسه أُتي به من قِبل الجنرالات في عام 1999، كما أُتي ببوضياف في عام 1992 قبل أن يجهزوا عليه بعد إتمام المهمة القذرة؟ هل أصبح يعيش في حالة من الغيبوبة، تجعله لا يدرك أنّ النظام الجزائري لا يقوم إلا على ركيزتين: المال الذي يجنيه من المحروقات، ويبدّده بلا حسيب أو رقيب طمعًا في شراء الذمم من خلال سلّم اجتماعي يرتشي به المواطن لكي يتنازل بموجبه عن حقوق المشروعة، وجهاز مخابرات يعمل جاهدًا بلا هوادة لإخماد أيّ ثورة سلمية ووأدها في المهد من خلال الوسائل المعتادة، التي مكّنته من البقاء سيّد اللعبة طيلة نصف قرن من الزمن؟

فإن كانت ثمة فائدة تستشفّ من هذا الخطاب، فهي أنه يكشف مرة أخرى طبيعة النظام الذي يعتبر ساسته أنّ الانتخابات والديموقراطية هما مِنحٌ وتنازلات يتكرّمون بها على من يُحدثون ‘الضوضاء’ وليس تكريسًا لحقّ دستوري، كما أنّ هذا الخطاب كفيل بإيقاظ الحالمين لينشلهم من غفوة التفاؤل العبثي، خاصة وأنه شمل في طياته عدّة رسائل، نذكرها أهمّها:

أوّلا، إلى من لا يزال يمنّي نفسه بإمكانية إصلاح هذا النظام وبوعوده ومشروعاته، فرغم مرور عهدات متتالية، أي منذ الانقلاب على الشرعية، لم يجنِ الشعب سوى الإفلاس والمهانة، ويجدر بالمواطن العودة إلى تصريحات المسؤولين الحكوميين على مدى العقدين الماضيين، وما أطلقوه من وعود تتعلّق بنزاهة وشفافية الانتخابات على سبيل المثال، وسيلاحظ لا محالة أنّ كلّ التصريحات مستنسخة، وعودٌ مجانية بضمانات مطلقة بتنظيم انتخابات شفّافة ونزيهة وديمقراطية معزّزة بحضور ملاحظين ومراقبين عرب ودوليين. لكن ماذا يحصل عمليًا؟ التزوير ولا شيء غير التزوير مع الإمعان في تغييب إرادة الشعب والاستمرار في التلاعب به وفرض مؤسّسات لا تمثّله. وطالما بقي الوضع على حاله، لن ينبثق عن حزمة إصلاحاتهم الموعودة سوى نفس الوجوه وذات الأحزاب التي ساهمت بشكل أو بآخر في إطالة عمر النظام الفاسد، ولا يهمّها في كلّ الأحوال إلا أن تستمرّ في ‘نادي’ السلطة كيف ما كان ذلك، أما إرادة الشعب، فتلك آخر اهتماماتها. كيف لنظام جبل على الفساد والاستهتار بإرادة الشعب أن ينتج مؤسّسات صالحة تعكس اختيارات الشعب وتلبّي طموحاته وأحلامه؟

ثانيا، إلى أصحاب التغيير من الداخل، أليس حري بهم الاعتراف بالخطأ، والكفّ عن اللهث وراء السراب؟ ألم يدركوا أنهم أصبحوا جزءًا لا يتجزّأ من هذا النظام المفلس، ومشاركين في فساده، وهي مسؤولية لا يمكنهم التملص منها؟ أما وقد انقلب بعضهم إلى مدافع بكل ما أوتي من جهد وشراسة عن الوضع القائم ويزايد حتى على غيره في تصويره وكأنه جنّة على الأرض، فذلك ما لا يمكن السكوت عنه، ولأدلّ على تورّطهم في الفساد المستشري، أنّ فئات عريضة من المواطنين، حتى من كان يثق بهم قبل ذلك، لفظتهم وأصبحت تشير إليهم باعتبارهم شذاذ الآفاق. وقد وقف الشعب مذهولا أمام بعض هؤلاء وهم يبيعون ضمائرهم ويخونون الشعب الجزائري، من خلال انتهاك سافل للدستور لفسح المجال لمن سمح لهم بمشاركة الوليمة ليستمر في منصبه فترة إضافية.

ثالثا، إلى كل من يستعدّ وينتظر دوره للحصول على ترخيص من وزارة ولد قابلية لتأسيس أحزاب جديدة ودخول المعترك السياسي؛ ألم يسألوا أنفسهم ما سبب الترحيب بهم الآن، هل كان يوجد أصلا في القانون ما يمنع وزارة الداخلية من اعتماد أحزابهم؟ ما الذي يبرّر اطمئنانهم واستبشارهم بتصريحات رئيس حطّم الرقم القياسي من حيث انتهاكات الدستور وتجاهل إرادة المواطنين، بطريقة مهينة؛ أليس تكوين الأحزاب إجراء سياسي مدني لا يحتاج إلى ترخيص أمني، بمقتضى قوانين الجمهورية ودستور البلد؟ ألم يسألوا أنفسهم ما مغزى القبول بهم أمنيا، وفق تصريح ولد قابلية، مع العلم أنّ جهاز التوفيق هو من يقوم بهذه التحقيقات وليس جهاز العدالة، ومن ثمّ فيه احتمال أن يكون ذلك ضمن البحث عن ‘شرعيات جديدة’؟ هل سيلتحقون بفريق التغيير من الداخل، لاستنساخ نموذج من سبقوهم على هذا النهج؟ وهل خفي عنهم مآل وحقيقة الوظيفة التي سُخّر من أجلها من سبقوهم؟ ألم يكونوا مجرّد كومبارس يلمّع بهم النظام صورته القبيحة، ثم ما لبث أن لفظهم واستبدلهم بأوجه جديدة؟ وهل يقبلون هم أيضا إضفاء الشرعية على الفساد الهيكلي؟ هل فاتهم أنهم قد أضحوا ضرورة بالنسبة للنظام، في خضم رياح الربيع العربي، وكل ما ينجم عنه في نهاية المطاف، مزيد من الفساد والغبن بالنسبة للشعب، واغتيال مادي أو معنوي، لكل من شارك النظام الانقلابي في الحكومات المتتالية؟ كيف يسمح كلّ من كان قبل قليل يرمي النظام بالفساد وعبثه بمقدّرات البلد وإرادة الشعب، لأنفسهم التزلف لأباطرة الفساد والإجرام عندما توجّه له الدعوة والتقرّب منهم عند أول فرصة، هل يطمعون هم أيضًا تغيير طبيعة هذا النظام بملازمته وتحت سقف لعبته؟

رابعا، هل ارتضى الملاحظون الدوليون أن يكونوا مرة أخرى شهود زور، سواء عن دراية أم جهل وغفلة وكلاهما سيان من حيث أثره على الوضع، خاصة وأنهم هم آخر من يجهل هدف النظام في استغلال شهادتهم على ‘نزاهة الانتخابات’، وتوريطهم كما أتضّح في المناسبات السابقة، حيث يتعذّر عليهم متابعة سير العملية الانتخابية بشكل فعلي وعبر كافة مراحلها، فضلا عن افتقارهم إلى الآليات والصلاحيات التي تخوّل لهم المساءلة عن الظروف التي تسبق الانتخابات؟ لم يعد خافٍ عن المواطن البسيط ناهيك عن المعنيين المسؤولين كالمراقبين، أنّ عملية التزوير لم تعد كسابق عهدها تتمّ بالطرق التقليدية، بل صارت تقنية ومهارة تسبق العملية الانتخابية نفسها. ثمّ هل يجهل هؤلاء المراقبون أنّ للشفافية ونزاهة العملية السياسية شروطًا وضوابط، أهمّها حرية العمل السياسي واحترام إرادة الشعب وفسح المجال أمام العمل الإعلامي الحرّ والقضاء المستقلّ، وكلها عوامل غائبة؟ وهنا وجب تنبيه الملاحظين الدوليين، من مغبة إضفاء الشرعية والنزاهة على تزوير يقوده نظام بمعيّتهم وغطائهم، وهم بذلك يقدّمون عن طواعية ووعي شهادة النزاهة والمصداقية لعملية تزوير مؤسّسي على أوسع نطاق.

خامسا، إلى الأحرار الذين لم يثقوا في نية هذا النظام، ولا في وعوده، بناء على تجارب مُرّة وأليمة، بعيدًا عن كل تطرّف أو مزايدة، إلى هذه الفئة التي تشكّل أغلبية الشعب الجزائري المغيّب عن تقرير مصيره، ممّن يدركون حقّ الإدراك أنّ الميت لا ينجب حيًّا، تمامًا مثلما أنّ الدكتاتورية لا تلد الحريات، على هذه الأغلبية التي تُنتَهك حقوقها بسبب تنافرها أن تستجمع قِواها وتوحّد جهودها، وتترفع عن الخلاف المفتعل في صفوفها لإنقاذ البلد من سيطرة طلقاء الجيش الفرنسي المستعمِر، وتضع مصلحة الشعب فوق كل اعتبار، من خلال إعادة الثقة والأمل في صفوف المواطنين. لقد أصبحت الضرورة جدّ ملحة لكي يجتمع أبناء الجزائر البررة حول أرضية مبادئ وقِيم يشترك فيها جميع الغيورين، تقوم على أسسها دولة الحق والعدل والقانون التي طالما تاقوا إليها، بعد أن سُلبت من آبائهم غداة استقلال البلد المصادَر من قِبل دفعة لاكوست والمنتفعين معهم من الانتهازيين بكافة أشكالهم.

لقد حان الوقت ليدرك الجميع مهما كانت انتماءاتهم، أنّ هذا النظام قد قالها بملء فيه وأثبت ميدانيًا أنه لن يتنحى بمحض إرادته، ولن يترك الشعب يقرّر مصيره، وأنّ كل ما يقوم به ليس أكثر من ترتيب أوراق مع استخراج وجوه تبدو له غير مستنفَذة، يلوّح بها في محاولة تزوير ديموقراطي، ممّا يستوجب العمل الحثيث لفضح خططه المميتة التي يُعدّها في مخابره. إنّ الشعب الجزائري هو اليوم، أكثر من أيّ وقت مضى في أمسّ الحاجة إلى مبادرة جادّة، على شاكلة العقد الوطني، تجمع كافة مكوّنات الشعب الجزائري، يتصدّر اهتماماتها تمكين الشعب من ممارسة حقوقه من حرية وكرامته، واستعادة سيادته، أمّا ما تروّجه هذه السلطة تماشيًا مع روح العصر ورياح الربيع العربي، من استصدار انتخابيًا ‘أغلبية’ إسلامية دون اختيار الشعب، فإنّ مثل هذه المغامرات البائدة تُبعدنا كل يوم عن شاطئ الأمان. قال فتزجرالد كنيدي قبل عقود: ‘إنّ من يجعل الثورة السلمية مستحيلة، يعجّل في واقع الأمر بالثورة العنيفة ويجعلها حتمية’. قد يكون هذا ما تسعى إليه هذه السلطة، لكن زمننا غير ذلك الزمن، والشعب بات أكثر وعيًا وحنكة ممّا يعتقده هذا النظام الهرم، وسوف يُحبط دسائسها وينتشل الجزائر من مختطفيها.

د. رشيد زياني شريف
عضو حركة رشاد الجزائرية
8 يناير 2012

المصدر: يومية القدس العربي

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version