لقد قدّم الشعب التونسي أنموذجا راقيا لباقية شعوب المنطقة في مجال النضج، أنموذجا ينمّ عن قدر كبير من روح المسؤولية والمواطنة والوعي، وذلك من خلال مشاركته في انتخابات حرة اعترفت الغالبية العظمى بنزاهتها وشفافيتها، باستثناء ثلاثة فئات سنذكرها لاحقا لما يكتسي هذا الأمر من أهمية وخطورة. وجاءت هذه الانتخابات وما تمخّض عنها من نتائج، تتويجا طبيعيا لثورته الباسلة ضد الاستبداد، التي أطاحت بطاغية قرطاج المخلوع. وكانت انتخابات المجلس التأسيسي، الذي حقّق فيه أحفاد أبو القاسم الشابي انتصارا على المتربصين، مناسبة تاريخية في حياة التونسيين تبيّن بوضوح، أنه في ظل أيّ عملية تصويت شفافة ونزيهة، لا يمكن إلا أن تسفر عن نتائج تعكس الواقع كما هو، دون تزييف، كما جرى مؤخّرا في تونس وقبلها في الجزائر في عام 1991، أي نتائج تعبر بحق عن فئات الشعب المشكّلة للنسيج السكاني، يتبوأ فيها كل فريق المكانة التي يستحقّها ويحظى بنسبة تمثّل حجمه في الميدان، مصداقا لمفهوم وحقيقة الديمقراطية التمثيلية، عكس ما عاهدناه في وطننا العربي، عقودًا طوال، من ديمقراطية الصالونات التي “توزّع” فيها الجهة الماسكة بزمام السلطة الفعلية، النسب والحصص، وفق سلم انصياع هذا وذاك لأهوائها واضطلاعه بالمهام الموكلة إليهم، أي منح من لا يملك لمن لا يستحق، ولم يعد خافيًا على أحد أنّ قبول هذه الجهات ما يوزّع عليها من إكراميات ملطّخة بدماء ومآسي الشعوب، مردّه إدراكها اليقين بأنها لن تحصل على أيّ شيء في ظل انتخابات حقيقية، وبالتالي يقوم هذا التحالف بين السلطة المغتصبة وهذه الكيانات الطفيلية، على تقاطع مصالح غير مشروعة، ليس إلا، وبالتالي لم يكن لا مفاجأً ولا غريبًا أن تفرز انتخابات تونس الأخيرة تلك النتائج. لقد انتخب الشعب التونسي أولئك الذين وقفوا إلى جانبه وعبّروا عن آماله وشاركوه آلامه، ولم يسقطوا في براثين نظام بن علي واستمرّوا في معارضتهم لفساده واستبداده، ممّا عرّضهم لأهوالٍ طيلة عقود، وذلك لم ينساه لهم المواطن التونسي وبرهن لهم عن ثقته فيهم ووفائه لهم ولنهجهم من خلال التصويت لهم. وفي هذا الصدد نذكر من جملة الدروس المستفادة من هذه الانتخابات ما يلي:

– أن الاتجاه الإسلامي (أو ما يطلق عليه أحيانا الإسلام السياسي) يمثل قوة سياسية لا يمكن تجاهلها في كافة الدول العربية، وفي حالة إجراء انتخابات نزيهة في كل دولة من هذه الدول، من الطبيعي أن يتبوأ هذا الاتجاه مرتبة بارزة؛

– كما يبيّن لنا الدرس التونسي أنه لا يمكن إرساء ديموقراطية مع استثناء هذا الاتجاه أو أيّ اتجاه آخر له تواجده الميداني، ناهيك عن محاربته، وأنّ إقصاء أيّ فئة معناه إرساء دكتاتورية عسكرية، مثلما جرى بالجزائر؛

– والحالة التونسية تبيّن بوضوح عبثية محاولة الإقصاء ورسم صورة مشوهة عن الخصم، مثلما جرى العمل به ضد حركة النهضة على سبيل المثال، التي رغم حملة القمع والتشنيع التي تعرّضت لها خلال الثمانينات، عادت بقوّة بعد عقود، من الباب الواسع في إطار الانفتاح الديموقراطي وليس بدعم آلة القمع أو العنف، ومن ثمّة حري بكل من يمنّي نفسه بتلاشي هذا التيار بمرور الوقت، أن يعود إلى رشده ويضع حدًّا للتعنت والمكابرة، والتوقّف عن البحث عن تبريرات وحجج وتفاسير واهية لمواساة النفس، فذلك لن يغيّر من واقع الأمر شيئا، وكلما أسرع “الحداثيون”، في قبول هزيمتهم واستخلصوا الدروس، وأقرّوا بنتائج الانتخابات، كلما كان ذلك في مصلحتهم لمراجعة حساباتهم، لأنّ كل رفض لما يتمخّض عن صناديق الاقتراع المعبّرة عن خيار الشعوب هو رفض لأسس الديموقراطية ذاتها، وإهانة لأصوات تلك الملايين التي عبّرت عن خيارها بكل سيادة؛

– لقد التقطت حركة النهضة الرسالة التي وجّهها الشعب التونسي إلى بن علي، مما جعلها تطمئن التونسيين، مشدّدة على التزامها بقواعد التناوب على السلطة واحترام الحريات الأساسية، في إطار مبادئ الإسلام، وأنّ ما تعد به التونسيين ليس أمور أخروية أو دروس أخلاقية وإنما نظام راشد لتحسين مستوى معيشة السواد الأعظم من الشعب، من خلال تفعيل المجال الاقتصادي وتشغيل الشباب المحبط والقضاء على الفساد بكل أشكاله وعلى كافة المستويات، ومحاربة المحسوبية والتعسف، مع ضمان حقوق المعارضة في النشاط والتعبير؛

– ومن الدروس، الأخرى أنّ نجاح التحولات العربية يمرّ بالضرورة بانخراط الغالبية في مشروع مشترك، وبالتالي يكون هذا التحوّل من خلال تسوية تفاوضية، وفي هذا الصدد، يعتبر اعتماد النظام النسبي في تونس خيار حكيم بحيث يجنب الإنفراد والتشبث بالسلطة ويفرض على الفائز البحث على حلفاء من خارج دائرته، حول برنامج يحقق المصلحة العامة.

لكن هذه الدروس يبدو أنها غابت عن فئات محدّدة، يمكننا اختصارها في ثلاثة أطراف رئيسية:

1— الفئة الاستئصالية داخل تونس

رغم النتائج التي بيّنت بوضوح طبيعة وانتماء الشعب التونسي، ارتفعت أصوات موتورة، سبق وأن تحالفت قبل ذلك مع كافة الأنظمة المستبدة للوقوف في وجه خيار وسيادة الشعب التونسي، وزجّوا بها في غياهب السجون والمنافي، والملاحظ اليوم أنّ صراخها المشؤوم الذي يشتمّ من ورائه رائحة الموت والدمار، بدأ يتعالى بشكل مشبوه في تونس (والجارة الجزائر، وفرنسا!)، ارتفع صراخهم للتحذير من سرقة ثورة التونسيين من خلال الصناديق! (ثورة مضادة على حد تعبيرهم! أصوات سريالية تسير في اتجاه معاكس لطموح الأغلبية، في محاولة لقلب الصورة، معترضة على نتائج الصناديق الشفافة! وبدل الالتزام بقواعد الديمقراطية والإقرار بنتائجها، نراها تفضّل تأجيج مشاعر الكراهية وإشعال نار الفتنة من خلال التلويح بالزج بآلة القمع، من خلال ندائها المتكرّر في وسائل الإعلام والمحافل المشبوهة، مطالبة (تارة تلميحا وتارة أخرى تصريحا) بتعكير صفو الحفل التونسي، معلّلة ذلك بعدم “نضج” الشعب، وافتقاده للوعي الكافي الذي يمكّنه من حسن الاختيار! وكأنّ هذه الفئة تريد أن تكون الديمقراطية “محدّدة” النتائج مسبقًا، لصالحها طبعًا، ولنا أن نسأل أين كانت أصواتها أثناء عملية الاقتراع، ألم يكن الاقتراع هو السبيل القانوني والحضاري، لتعبّر من خلاله عن رفضها هذا الحزب أو ذاك؟ أليست الصناديق هي الفيصل للتعبير على “خيارات، وطموحات” كل جهة؟ فماذا يريدون إذن؟ أن نسفّه صناديق المعبرة على الأغلبية بالطرق السلمية الحضارية، وننجرّ بدل ذلك نحو حروب يؤججون رحاها في دهاليز مظلمة، وبذلك يفتحون أبواب جهنم على الشعب التونسي المسالم ليدخلوه رغم أنفه في حرب قذرة كما فعل نظراؤهم في الجزائر عندما حرّضوا جنرالات يناير للانقضاض على نتائج انتخابات ديسمبر 1991؟ وليس مستبعدًا أن يعرب هؤلاء المستنيرين أنّ تونس كانت تنعم بدكتاتورية مستنيرة حداثية وأنّ بن علي كان رجلًا عظيمًا وصاحب رؤية ثاقبة، وكان حصنًا منيعا في وجه مخربين خطرين، لم يكن يفلح معهم إلا “حزم” بن علي! إنّ الغرض من التذكير بهذه الحادثة التي تشهدها تونس والدرس الراقي الذي قدّمه الأشقاء التونسيون، هو التحذير من مغبّة تكرار تجربة الجزائر الدامية قبل عقدين من الزمن، خاصة وأنّ عويل وصراخ هذه الفئة قد وجد من يضخمه من خلال أبواق الأم الحنون فرنسا لتوعز إلى عرفائها القدامى مرة أخرى بالانقلاب على خيار “الدهماء” ووضع مكانهم الحداثيين حتى ولو أقصاهم الشعب التونسي، ولا شك أنّ الأشقاء في تونس يدركون غاية الإدراك أهوال هذه التجربة المريرة، ولن يدّخروا جهدا لتفويت الفرصة على دفعة لاكوست، ويشيّدون دولة لا إقصاء فيها، تُبنى بسواعد كافة أبنائها، بغضّ النظر عن انتماءات هذا الطرف أو ذاك، الميزة الوحيدة الواجب توفرها هي الكفاءة ونقاء اليد، لأنّ الإقصاء والمحسوبية هما من جلبا على أمتنا ويلاتها التي جعلتها في ذيل قائمة الأمم.

إنه مشهد غريب بحق، أن نرى رموز هذه الأقلية الساحقة، بعد أن لفضتها الصناديق الشفافة في عهد التعددية، تقيم الدنيا ولا تقعدها، ويوهمون الناس وكأنهم يمثلون وجهة نظر أغلية الشعب، حتى يكاد المرء يسأل، من هم إذن الذين صوّتوا لصالح الأحزاب التي أفرزتها الصناديق؟ أليسوا الموطنين التونسيين، أصحاب الحق في اختيار ممثّليهم؟ أسئلة قد تبدو عبثية في أعين البعض لكنها ضرورية لفضح إفلاس هذه الفئة الهجينة المعروفة بوقوفها المستميت إلى جانب الدكتاتور بن علي طيلة فترة حكمه، للاحتماء من الشعب وخياراته المكبوتة، دون أن تنبس ببنت شفة لإدانة استبداده، لكن لا أحد صار يجهل أنّ مرد كفرهم وطلاقهم الثلاث بالانتخابات الحرة، هو تلك النتائج البائسة التي حصدوها خلال تجارب التاريخ، في كل مرة سمح فيها للصناديق الشفافة بأن تقول كلمتها.

2— نظيرتها في الجزائر

فيما يخص الاستئصالين في الجزائر، من إعلاميين وسياسيين ورجال الثقافة، فقد انطلقت حملتهم الهوجاء في جلّ افتتاحيات الصحافة الجزائرية وتعاليقها وتوجيهاتها، تناولت بالتلميح والتصريح فوز حركة النهضة في انتخابات 23 أكتوبر 2011 في تونس واعتبرته خطرًا، كونه يصبّ في اتجاه معاكس لاتجاه مهندسي الانقلاب على المسار الديمقراطي في الجزائر. ولا شك أنّ النظام في الجزائر يحاول من جهته انتهاز الفرصة للترويج مجدّدًا، غداة انتصار الديموقراطية في تونس، بأنّ الدكتاتورية وحدها قادرة على الحفاظ على الاستقرار، كما يشعر القارئ بحسرة هذه الصحافة على عدم وجود مؤسسة عسكرية قوية في تونس تساند “القوى الحداثية”، لكي تقطع الطريق على حزب النهضة سيرًا على المنهج الجزائري، حيث تعتبر السلطة الجزائرية نفسها المرجع الأوّل الذي ينبغي أن يعتمد في سياسات المنطقة. لقد بات واضحًا أنّ هؤلاء الديموقراطيين المزعومين، من شاكلة من انضووا تحت “لجنة إنقاذ الجزائر” على سبيل المثال، أيقنوا أنه لا يمكنهم الزعم بتمثيل الشعب إلا في غيابه، أو بالأحرى عبر تغييبه وإقصاء صوته وخياره، حتى ولو تطلّب الأمر التحريض عليه، ودوس إرادته بدبابات “الجيش الوطني الشعبي”، حتى ولو كان ذلك عبر انقلابٍ دامٍ يحصد مئات الآلاف من الضحايا، وهو ثمن يرونه مقبولا في سبيل “إنقاذ البلد” من أغلبية يعتبرونها لا ترقى إلى منزلة المواطن المستحق للحقوق. وقد قالها بالفعل الجنرال اسماعين العماري (أحد أركان المخابرات الجزائرية) بعد الانقلاب وقبل أن يرحل من دنيا الأحياء، أنه “إذا اقتضى الأمر التضحية بثلاثة ملايين جزائري فلن أتردد!”، ولنا في ما اقترفوه بحقّ الشعب الجزائر أثناء وبعد انقلاب 11 يناير 1992 أبشع صورة لِما يمكنهم اقترافه للحفاظ على الحكم، واليوم ها قد تبيّنت طبيعة إنقاذهم للجزائر، فلا ديمقراطية أقاموها ولا جمهورية أبقوها ولا اقتصاد حافظوا عليه، بل ما أنجزوه معاكس لذلك تمامًا، فإلى جانب الكوارث الإنسانية التي ارتكبوها، من زهق لربع مليون روح بريئة وعشرين ألف مختطف وعشرات الآلاف من المسجونين والمعذّبين، هناك إفلاس متعدّد الأبعاد، اقتصادي واجتماعي وأخلاقي وتربوي، إلى درجة أضحت الجزائر تحتلّ ذيل كافة التصنيفات المعتمدة عالميًا. هل يُراد لتونس “إنقاذ” من هذا النوع؟

3— امتدادها النيوكولونيالي في فرنسا

أما عن فرنسا، فإلى جانب دعاة الكراهية والاستئصال لكل ما هو عربي إسلامي، من شاكلة ألكسندر أدلار وجان دانيال الذين أعماهم الحقد الكولونيالي، فراحوا يحذّرون من خطر فوز حزب النهضة، وكأنّ الشعب التونسي لا يزال في عهد الاستعمار، وأنهم لا زالوا هم من يقرّر مصير الشعوب، كما سبق لهؤلاء أن زعموا بأنّ “الانقلاب في الجزائر كان مرحّبًا به في أعين الرأي العام الديمقراطي وأنقذ الجزائر من انتصار أعداء الديموقراطية من الإسلاميين”، هناك أيضا آخرون، مثل ألان جيرار سلاما الذي عنون مقالته في جريدة لوفيغارو بتاريخ 26 أكتوبر “الانتخابات في تونس: تحت اليسامين، هناك أشواك”، أو كارولين فورست التي كتبت في مدونتها “القول بأنّ النهضة معتدلة لأنه هناك بعض السلفيين الموتورين، يشبه القول أن الجبهة الوطنية التي تتزعمها ماري لوبن تنتمي إلى ’اليسار‘، لأنّ هناك بعض حليقي الرؤوس”. لم يتوقّف الأمر عند الإعلاميين، حيث لم يلتزم وزير خارجية فرنسا هو الآخر، واجب التحفّظ الذي يفرضه عليه منصبه واحترام خيارات دولة ذات سيادة، عندما كشف عن حنينه الكولونيالي، قائلا: “إنّ فرنسا ستظل يقظة، وتحذّر بأنه ثمة خطًّا أحمرًا لا ينبغي تجاوزه، وهذا الخطّ الأحمر يتشكّل من عدد من القيم والمبادئ الديمقراطية، مثل التغيير الديمقراطي، وحقوق الإنسان أو المساواة بين الرجل والمرأة”، خطوط لم يُليها أدنى اهتمام عندما كان بن علي يدوسها بمباركة فرنسا، “قبلة الحقوق والحريات”. يبدو أنّ هؤلاء القوم يعيشون خارج التاريخ، ولم يتعظوا بعد بدروس التحرّر العربي، ممّا جعلهم يتصرّفون تصرّف المستعمر الذي يسمح لنفسه بإعطاء الدروس لشعب حرّ، جدير بالاحترام، شعب حرّر نفسه بنفسه من دكتاتور كان يجد الدعم الكامل من قِبل الحكومات الفرنسية المتعاقبة.

لكن في الختام، رغم التهويل والعويل، فإنّ هذا الزمن غير ذلك الزمن، والشعوب قد أدارت ظهرها للخوف والخنوع، وحتى حلفاء الاستبداد بالأمس، متوجّسون اليوم من مثل هذه المغامرات في ظل ربيع عربي أعاد الأمور إلى نصابها، ومن جملة تلك الأمور، فقد استعاد المواطن كرامته وقيمته وعزيمة، وفرض وجوده على الجميع، بمن فيهم أولئك الذين كانوا قبل قليل يضعونه في أسفل هرم اهتماماتهم، وممّا يدفع باتجاه التفاؤل في تونس أنّ أبرز القوى اليسارية في البلد أبديتا رغبتهما في المشاركة المبدئية مع النهضة، ممّا يدل على أنهما تؤمنان بوجود تنظيمات إسلامية تقبل بقواعد الديموقراطية عكس الموتورين الذين يرفضون الإقرار بواقع الأمور بحجّة أنه لا فرق بين التنظيمات الإسلامية وكلها ترفض التعدّدية، خاصة بعد أن يئسوا من إمكانية توريط الجيش التونسي الذي برهن عن وعي وروح وطنية رفعت من شأنه في أعين الشعوب.

رشيد زياني-شريف
14 نوفمبر 2011

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version