هل هي العودة إلى رعب سنوات التسعينات في الجزائر؟ ربما، لكن الذي نشهده يجعل طرح مثل هذا السؤال أمرا مشروعا. يوم الأحد 24 تشرين الاول/أكتوبر المنقضي تعرض ناشط حقوقي لعملية اختطاف من شارع عمومي وسط العاصمة الجزائرية وظل مصيره غامضا لثلاثة أيام قبل الإفراج عنه في أولى ساعات الفجر قرب مقبرة.

نور الدين بلموهوب كهل معروف في الأوساط الحقوقية والإعلامية بحكم نشاطه ونضاله ضمن جمعيات حقوقية مناهضة للتعذيب وواحد من أبرز الذين يقودون حملة من أجل استعادة حقوق فئة من الجزائريين تعرضوا للنفي والاعتقال في مراكز أمنية خاصة في الصحراء الجزائرية بعد إلغاء الانتخابات البرلمانية التي فازت بها الجبهة الإسلامية للإنقاذ. كثير من الذين صار يطلق عليهم معتقلو الصحراء ينتمون إلى الجبهة الإسلامية للإنقاذ وكثيرون آخرون لم تكن لهم أية علاقة بهذا الحزب الذي تحول بين عشية وضحاها إلى شيطان رجيم ومناضلوه والمتعاطفون معه إلى أعداء للوطن. وجمعية الدفاع عن حقوق معتقلي مراكز الأمن في الصحراء تسعى إلى إعادة الاعتبار لضحايا هذا الإجراء وتعويضهم في إطار مسعى المصالحة الوطنية على ما تعرضوا له من أضرار مادية ومعنوية.

بلموهوب يحاول منذ سنوات إقناع المؤسسات القضائية الجزائرية بالنظر في شكاوى عديدة قدمها ضد مؤسسات أمنية رسمية ومسؤولين يرى أنهم تسببوا في إلحاق أذى كبير بفئات واسعة من الجزائريين خلال حقبة التوتر الأمني الذي عاشته الجزائري في عقد التسعينات، وهو شخصيا تعرض للاعتقال والتعذيب عدة مرات وكان ضمن الذين تم ترحيلهم إلى معتقلات الصحراء وقد تعرض لمحاولة اغتيال، كما أن زوجته قتلت على يد عناصر يقول إنهم ينتمون إلى الجيش. وهو يصف نفسه باختصار أنه النموذج المثالي لضحايا انتهاكات حقوق الإنسان. لم يكن حياة الرجل تخلو من المضايقات، لكنها كانت تشبه حياة جل مناضلي حقوق الإنسان في الجزائر يميزها التوتر واليقظة المستمرة. غير أن ما تعرض له قبل أيام كان تحولا مفاجئا ولعله نذير شؤم بالنسبة له ولرفاق كثيرين له، وقد تزامن اختطافه مع تعرض وزير الدفاع الجزائري الأسبق الجنرال المتقاعد خالد نزار لمساءلة تحقيق قضائي في سويسرا بناء على شكوى قضائية قدمتها ضده منظمة ترايال الحقوقية. ويروي نور الدين بلموهوب في ثلاثة تصريحات إعلامية أن مختطفيه سألوه عن الدعوى القضائية التي رفعها ضد الجنرال نزار وطلبوا منه قبل الإفراج عنه أن يقر في وثيقة مكتوبة أنه قرر التخلي عن تلك الدعوى وهو الأمر الذي رفضه، بل وقرر أن ينقل مستقبلا معركته إلى المحاكم الدولية بعد أن تجاهل القضاء الجزائري أمره تماما.

من يقف وراء عملية الاختطاف تلك؟ وهل المقصود منها توجيه رسالة إلى الضحية وحده أم إلى كافة الجزائريين؟ الرجل يتهم صراحة جهات أمنية رسمية بالتعرض له في وضح النهار وفي شارع عمومي واقتياده في سيارة تحمل آثار سيارات عناصر الأمن قبل نقله في سيارة أخرى إلى مكان مجهول وصفه على أنه مستودع تعرض فيه للمساءلة وبقي هناك طيلة أيام اختطافه. هل هي عملية معزولة أم أنها عودة إلى أساليب كاد الجزائريون ينسونها بعد أن كانت سلوكا يوميا تشهده المدن والقرى على السواء؟

السلطات الأمنية والإدارية لم تصدر أي بيان أو تصريح توضح فيه ما جرى تبنيا أو نفيا لمسؤوليتها، وهذا أمر خطير في دولة تدعي أنها دولة قانون. بلموهوب يقول إن مختطفيه أوقفوه في الشارع ونادوه باسمه وتثبتوا من هويته وطلبوا منه مرافقتهم إلى سيارتهم، كل الدلائل جعلت الناشط متأكدا أن أولئك الرجال ينتمون إلى واحدة من المؤسسات الأمنية الرسمية، خاصة أنهم كانوا يتصرفون بكل عفوية أمام الملأ وتحت العين المفتوحة لكاميرات المراقبة التي نصبتها الشرطة في مختلف شوارع العاصمة. الفاعل في هذه الحالة يكون إما من الشرطة أو العسكر أو ربما قوة أمنية غيرهما لكنها رسمية، وهذا يدفع إلى التساؤل عن السبب الذي جعل هيئة أمنية رسمية تلجأ إلى أسلوب الاختطاف بدل توجيه استدعاء رسمي للمعني ونقله إلى مقر أمني رسمي وتمكين الرجل من حقه القانوني في إخطار أهله بمكان وجوده والاتصال بمحام يتابع تطورات التحقيق معه. لكن الذي حصل هو أن الرجل اختطف واستجوب ثم أطلق سراحه في ساعات الليل الأخيرة وفي مكان يوحي أن هناك رسالة تهديد بالتصفية موجهة إليه مع عدم وجود أية ضمانات بأن لا يتكرر هذا معه لاحقا.

الاختطاف والاعتقالات التعسفية تظل وصمة عار في جبين قوات الأمن الجزائرية المختلفة، فقد عاشت الجزائر مرحلة لا أحد يتمنى أن تعود تحت أي ظرف، مرحلة كان الناس يؤخذون عنوة من بيوتهم ومن مقرات عملهم ومن الشارع ولا أحد يسمع عنهم شيئا بعدها.

آثار هذه الممارسات الشنيعة لا تزال تدمي أفئدة آلاف العائلات، أبناء وزوجات وأمهات وآباء وجدوا أنفسهم محرومين من أعز الناس إليهم، ولم تنفعهم سنوات طويلة من المطالبة بمعرفة مصير ذويهم الذين أدرجت أسماؤهم ضمن قوائم ضحايا الاختفاء القسري. فهل تريد سلطات البلد من وراء اختطاف بلموهوب العودة إلى تلك الدائرة الحمراء؟ يخطئ من يعتقد أن صفحة قضية المختفين قسرا أو المفقودين كما يسميهم عامة الجزائريين قد طويت لأن قانون المصالحة فرض ذلك أو لأن جزءا من عائلاتهم قد استلموا تعويضا ماليا من الدولة مقابل عدم الإلحاح على معرفة مصير ذويهم وملاحقة المتسببين في تغييبهم. والذين يريدون إحياء هذه الممارسات المقيتة قد يكونون مدفوعين بالحصانة التي حصلوا عليها على أفعال سابقة، لكن عليهم أن يدركوا أنهم يلعبون بكرة نار كبيرة قد تحرق ستار الهدوء الهش الذي يتعايش معه الجزائريون لتعود الفوضى إلى البلد وهذه المرة لن تكون كالسابق.

أما إذا أنكرت السلطات الأمنية الرسمية أية علاقة لها بحادثة الاختطاف فإن عذرها سيكون أقبح وحسابها أشد، لأنها أولا لم تصدر أي بيان ينفي عنها التهمة ولم تسارع إلى استقبال الضحية للاستماع إلى أقواله بدل متابعتها عبر وسائل الإعلام، كما أنها لم تعلن أنها فتحت تحقيقا في الأمر. وقد تكون وزارة الداخلية وباقي الجهات الأمنية مرتاحة لأن صحيفة محلية واحدة تطرقت إلى الموضوع والباقي مواقع إخبارية معارضة إضافة إلى الفضائية الجديدة التي أطلقتها حركة رشاد قبل فترة قصيرة وهي تبث من المنفى بطبيعة الحال.

المصالحة والإصلاحات التي يتشدق بها النظام لا جدوى منها بالنسبة لغالبية الجزائريين، والقليل من الذين يصدقونها لن يستمروا على ذلك وسيتفطنون قريبا إلى أنها خدعة يراد بها تنويم الناس والاستمرار في الضحك عليهم. قضايا الفساد بمختلف أحجامه لا تزال تنخر المجتمع، والاستمرار في السكوت عن جرائم سياسية هزت المجتمع لن تزيد الجرح إلا تعفنا. قضيتان فقط من أصل العشرات يمكن التذكير بهما هنا للتأكيد أن النظام غير جاد في إحقاق الحق والتعامل بنزاهة مع الذين لا يزالون يثقون فيهم على الأقل، قضية اغتيال الرئيس محمد بوضياف التي دخلت عامها العشرين بينما يبقى قاتله المفترض ينتظر تنفيذ الحكم الصادر ضده أو إعادة محاكمته في ظروف أنسب، وقضية اغتيال المدير العام للأمن الوطني العقيد علي تونسي الذي دخل ملفها طي النسيان ولا أحد يعرف شيئا عن المراحل التي قطعها التحقيق مع المتهم المفترض بقتله رغم مرور قرابة عامين على تاريخ الجريمة، والقليل الذي نسمع أو نقرأ عن أخبار قاتله هو أن تحقيقا يجري معه حول.. قضايا فساد مالي!

خضير بوقايلة
1 نوفمبر  2011

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version