تشكل الجزائر في نهاية المطاف، النظام طبعا، أكبر خاسر من سقوط نظام القذافي، وتصريحات ساسته خير شاهد على هذا الذهول الذي أصابهم عقب سقوط قلعة العزيزية بتلك السرعة، وهم الذين راهنوا على إطالة عمر نظام الكتائب وسعوا من أجل ذلك، إعلاميا ودبلوماسيا بل وحتى بالسلاح والوقود وفق تصريحات عديدة ليبية ودولية، كما أن انهيار طرابلس بهذه السهولة كان بمثابة صاعق بالنسبة لجنرالات الجزائر، خاصة ما يترتب عن ذلك في طبيعة علاقة دول الاستبداد في الجزائر بجيرانها المتحررة. هذا الهلع عبرت عنه كالعادة أقلام مسخرة للمهمة، من جيش( الدي ار اس ) الإعلامي الجرار، من خلال افتعال خصومات وتجريم الثوار ونعتهم بأشنع الصفات، وسبب ذلك غير خفي، فكل ما تقوم به السلطة الآن يعتبر معركة استباقية مع خصوم مفترضين في الأيام القادمة، لتبرير هذا الموقف العدائي، الذي تلوح ملامحه في الأفق.

بينما تتوالى الاعترافات بالمجلس الانتقالي، خصوصا من بلدان المنطقة، تونس ومصر والمغرب، وجدت الجزائر نفسها معزولة، متبنية موقفا لا أقول انه غريب بل مريب إلى أبعد الحدود، إذ بدلا من أن تهنئ الشعب الليبي الذي تمكن من الإطاحة بالطاغية، ويواصل تعقبه ليحاكمه على ما اقترفه من جرائم طيلة 42 سنة، راح النظام الجزائري يبتز الممثلين الشرعيين للشعب، يشترط عليهم مقابل لاعتراف بهم، ضرورة ‘مقاتلتهم القاعدة’! أمر في غاية السريالية والسخافة، مما يظــهــر أن هذا النظام الجزائري قد انقطع بالفعل عن الواقع المحيط به، وفاته أنه سواء اعترف بالمجلس الانتقالي أم لا، فإن هذا لا يغير من واقع الأمر شيئا، وأن الشعب الليبي أصبح سيد قراره في بلده.

الأمر المحير، أنه رغم سقوط طرابلس لا زال الساسة في الجزائر يكابرون ويتخندقون خلف جدار من صمت يكاد يقول صاحبه خذوني، وليس خفيا أن النظام الجزائري لم يظهر أي تعاطف مع الثوار الليبيين منذ بداية الانتفاضة (ولا قبله مع الانتفاضة التونسية والمصرية). في الواقع، لم يرتح النظام الجزائرية يوما، لانتفاضات الشعوب العربية المجاورة، سواء في تونس أو مصر أو ليبيا، وهو يثبت ذلك مرة أخرى، ملتزما بصمته الإجرامي أمام مجازر ‘الأسد’ في سوريا، بما يسيء إلى تاريخ الجزائر ويشوه صورتها الثورية، كما أن الحقيقة التي لم يعد باستطاعة النظام إخفائها هو أن كل ما يقوم به من أعمال ويعبر عنه من مواقف، مرده خشيته وهلعه من انهيار أنظمة الجوار، مما يجعله البلد المرشح الأول القادم على قائمة الدكتاتوريات الآيلة للانهيار، ومساءلة مسؤوليه على ما ارتكبوه من جرائم طيلة عقود، كما جاء على لسان الناطق باسم حكومة القذافي الذي صرح بأن الجزائر هي القادمة على القائمة إن لم تحترس. أي بلغة واضحة، من مصلحتها قبل كل شيء، مساعدة نظام القذافي، إن لم تريد الالتحاق به.

فبدلا من مشاركة الشعب الليبي فرحته بعد أن تخلص أخيرا وبثمن باهظ، من قبضة واستبداد دموي ومظلم عمَر 42 عاما، شهد العالم بذهول كيف أن النظام الجزائري، الذي كان يراهن على استماتة القذافي في الحكم حتى ولو اقتضى الأمر مزيدا من شلال الدماء، أبان النظام الجزائري عن وجهه الحقيقي القبيح، الوجه الذي عبثا حاول إخفاءه، خلال انتفاضة الشعبين التونسي المصري، ومناهضة ثورتهما. وهكذا بتصرفه الفج المتصلب، سقط قناع النظام الجزائري بشكل نهائي ولم يعد يستطع خداع أحد تحت كل الحجج والذرائع السمجة التي يسوقها لتبرير عدائه المستميت لإرادات الشعوب العربية، وهو الذي كان يأمل في تفجير الربيع العربي في رمال طرابلس بعد أن أفلتت منه بن غازي، وقبلها تونس والقاهرة، غير أن الليبيين كان لهم رأيا آخرا، حيث نهضوا بإرادة فولاذية، وقلبوا السحر على الساحر، فحرروا بلادهم بسرعة لم يكن يتخيلها نظام جنرالات الجوار.

قد يحاول البعض البحث عن تفسير لهذا العمى الدبلوماسية السخيف، وعما يمكن أن تحققه الجزائر والشعب الجزائري من هذه الاستراتيجية الخرقاء التي تستميت في دعم عصابة لقذافي الفار، والتي لا تجني من ورائها سوى العزلة في محيطها العربي بل وفي العالم. لكن كل القراءات تنتهي إلى نتيجة واحدة: إنها بحق استراتيجية عمياء لا يفسرها سوى استبداد مكابر ومتهالك، يبين بشكل واضح أن الذين يديرون دواليب الحكم في الجزائر، أقصد العصابة العسكرية المالية، يتخذون القرارات المصيرية ليس بناء على مصالح البلد بل حفاظا على مصالحهم الشخصية. إن ‘الدبلوماسية الجزائرية’، التي تنتهجها العصابة المافياوية تتجلى في أقبح صورها في ذلك ‘العناد’ الأخرق القائم على تفكير عقيم وانجراف هالك ومهلك.

مثل هذا الموقف الأرعن من النظام الجزائر يقوم بالأساس على اعتبارات داخلية ليس لها أدنى علاقة بالسياسة الخارجية وباستراتيجيات الدول، كما يوضحه تورط النظام الجزائري في النزاع الليبي، بمناهضته لكل مطالب التغيير والتطلعات الديمقراطية لشعوب المنطقة، خشية منه على مصالحه الضيقة. من المؤكد أن المجلس الانتقالي ومن ورائه الشعب الليبي لن ينسوا هذا التواطؤ من النظام الجزائري، لكن من المؤكد أيضا أن الشعب الليبي يعلم أن الشعب الجزائري بريء من جرائم هذا النظام بل هو أصلا ضحية جرائم هذه العصابة بالأساس.

عبثا حاول النظام تبرير (أو التغطية بالأحرى) على الأسباب الحقيقية وراء استعداء الثور في لبيا وقبلها في تونس ومصر (والآن في سوريا) متذرعا تارة بمواقف مبدئي يدعي معارضة التدخل الخارجي (الحلف الناتو)، متجاهلا أن هذا التدخل كان بإجماع عربي قبل أن يكون دولي (دول الجامعة العربية باستثناء…الجزائر وسوريا طبعا) في وقت كان القذافي على وشك إبادة بنغازبي عن بكرة أبيها بعد اقترافه مجازر في غيرها من المدن. وعمد النظام على ترويج روايته، من قبيل ‘استعمار يقوده الناتو ضد ليبيا، ومجازر يرتكبها الغرب ضد أبرياء في طرابلس، وقصف عشوائي، وثوار عملاء للغرب يستعينون بالعدو الخارجي للإطاحة بالنظام الليبي، ما إلى ذلك’. في حين لم نسمع منهم إدانة واحدة لمجازر القذافي في حق أفراد شعبه، القديمة منها والحديثة، ولم نشاهد صور ضحايا العقيد الذين استهدفهم بقصف أشد عشوائية من قصف الناتو، ولم نسمع كلمة تقال، ولو على استحياء، عن مدى مصداقية نظام متجسد في شخص واحد يحكم بلدا بحجم ليبيا منذ أكثر من 40 سنة ولم نر مبعوثا إلى بنغازي أو غيرها من المدن الليبية التي وقعت تحت سيطرة الثوار، دون أن ننسى أن الواقع أثبت بأن طواغيتنا مستعدون على الدوام لبيع الأوطان والشعوب مقابل البقاء في مناصبهم، بدليل أن القذافي دفع لأميركا مليارات الدولارات بعد حادثة ‘لوكربي’ لقاء بقائه متحكما والشيء مثله بالنسبة لبن علي ومبارك وبن صالح.

أما الواقع ميدانيا، يثبت أن كل التبريرات التي تسوقها هذه السلطة واهية لا تنطلي على احد، وأن سبب الموقف الجزائري الرسمي واستعدائه الثوار في ليبيا بسيط، النظام في الجزائر لا يرغب إجراء تحول ديموقراطي حقيقي في بلدان الجوار لئلا تنكشف عورته ويفتضح الطابع الدكتاتوري للعصابة العسكرية المالية، والأمر الأكثر خطورة أن لمثل هذا التصرف الأرعن، المساند للدكتاتور الليبي (رغم أنها لا تكن له أي ود لأسباب شتى) والمناهض للشعب الشقيق، تداعيات خطيرة كون أن هذه العصابة باستعدائها الشعب الليبي وثورته، ترهن كعادتها مصير البلاد وقراراته السيادية دون استشارة الشعب المعني بالدرجة الأولى، وكل ذلك بسبب الرعب الذي تشعر به ويقض مضجعها أمام كل تحول ديموقراطي في بلدان الطوق، تونس ثم ليبيا، خاصة إذا علمنا أن علاقتها مع الجارة الغربية ليست أحسن حالا.

ومن هذا المنطلق يشكل هذا الموقف العدائي إزاء الأشقاء في ليبيا مؤشرا لا لبس فيه على أن النظام في الجزائر ليس في نيته إجراء أي إصلاح حقيقي أو تغيير عميق، بل إنه مستعد لاستخدام الأسلحة على أوسع نطاق وخلط الأوراق بافتعال مجازر، للبقاء متمسكا بالحكم الفعلي.

إن هذا النظام، قبل أن يسيء إلى الثورات العربية، فقد أساء إلى الشعب الجزائري أولا، حين صادر مصيره واستباح عرضه وأمواله، وهو يحاول الآن رهن مصيره وعلاقته مع الجيران لأشقاء، وفق منطق العصابة، متجاهلا ومستخفا بموقف الشعب الجزائري المناصر لإخوانه الثوار في كل البلدان العربية، وينتظر دوره للتخلص من هذه العصابة التي لا تقل جرما عن بن علي ومبارك والأسد والقذافي وغيرهم.

في الختام، لا يمكن لأحد أن يتعامى عن الحقيقة وهي أن الحرية شيء مقدّس: سواء كانت في ليبيا أو سوريا أو السعودية أو الجزائر، وأن انحراف بعض المطالبين بها لا يعني بحال السكوت عن جريمة الأنظمة الأولى، وكون رفع شعار المقاومة والممانعة لا يعطي لأي كان الحق بأن يدوس فوق حقوق الشعوب وكرامتهم وحريتهم، كما لا يحق لرجال القلم أن يتحولوا إلى مدافعين عن الاستبداد بذريعة مواجهة الفوضى أحيانا، تحت يافطة ‘المستبد العادل’ وأحيانا أخرى بحجة ‘سلطان غشوم، خير من فتنة تدوم’ أو الاحتماء وراء ثنائية: الاستبداد أو الفوضى.

رشيد زياني-شريف
4 سبتمبر 2011

تعليق واحد

  1. ABOUMOSAAB بتاريخ

    جرائم الحكام العرب مخالفات مرورية مقارنة بجرائم جنرالات الجزائر
    كيف تريد يا سيدي أن يقف النظام الجزائري مع الشعوب العربية المنتفضة، و جرائمه في حق شعبه تشيب لها الولدان. حكامنا يا سيدي تفننوا في كافة الممارسات البطشية في حق شعبهم، حتى تبدو جرائم بن على و مبارك، مع كل احترامي لكافة الشهداء، مجرد مخالفات مرورية. إذاكان القذافي قتل في أبو سليم، فمذابح سركاجي و البرواقية ليست ببعيد. هذاالنظام، ساعد القذافي بهدف إنقاذ نفسه. ليس غريبا في المستقبل أن يتقارب مع المغرب، و يفتح الحدود، ليس بسبب مراجعات سياسية أو اقتصادية، بل لفتح نافذة غربية، في حالة ما إذا.

Exit mobile version