من المفارقات الغريبة عندنا في الجزائر، أن يخرج علينا وزير الإعلام والاتصال، السيد ناصر مهل، ليخبرنا –وكأنّنا لا نعلم-، بأنّ هنالك “طرابندو” في الساحة الإعلامية، وأنه سيتخذ كافة الإجراءات لمكافحة هذه الظاهرة، وأضاف “أقول وأكرّر أنّ “الطرابندو” الذي يسود الساحة الإعلامية، حيث تُباع وتُشترى اعتمادات عناوين الصحف أمر غير مقبول”، كلام خطير كهذا ومن وزير في الحكومة الجزائرية، أعتبره إقرارا صريحا بأنّ الساحة الإعلامية في الجزائر، شأنها شأن الساحة السياسية، أصبحت سوقا سوداء كبيرة، لبيع اعتمادات الصحف واعتمادات الأحزاب، والمناصب العليا في البلاد، وحتى ثروات الشعب الجزائري.

لأنّ الحديث عن واقع الصحافة المُتعفن، ليس جديدا على الإطلاق، وسبق للعديد من المتابعين لهذا القطاع أن ندّدوا بالممارسات السوقية والمبتذلة التي تطبعه، ومن جهتي سبق لي أن عرّيت فضائح الإعلام الجزائري في مقال نشرته العديد من المواقع والجرائد الدولية، بتاريخ 4 ماي 2010، تحت عنوان “صحافة أهل الكفّ وسياسة الهفّ في الجزائر”،  من بين ما جاء فيه “إن بعض عناويننا الإعلامية في الجزائر لا يضُرّها أن تنشر بعض الفضائع السياسية، لكنه من المُحرّم عليها أن تتطاول على المافيا المالية التي تُحكم قبضتها على الشعب بأكمله، لا لشيء سوى لكون هذه العناوين تقتات من فُتات أموال الفساد التي تُلقي بها إليها جماعات الفساد، كما تُلقى بقايا الأكل للكلاب…”.

فأيّ جديد أراد أن يطلعنا عليه وزير الإعلام الجزائري؟ علما أنه ينحدر من الأسرة الإعلامية، وعايش عن قرب كيف وُلدت العناوين الصحفية، وكيف تكاثرت، في وقت انحدر فيه مستوى الممارسة الإعلامية، وتحوّلت فيه بعض الجرائد إلى محميات تابعة إما لجهات أمنية، أو جماعات المافيا المالية والسياسية، واليوم يُبشّرنا السيد الوزير بأنه سيتخذ إجراءات لتطهير قطاع الصحافة، لكنه لم يحدّد طبيعة هذه الإجراءات، والجهة التي ستُباشرها، وغالب الظن أن وزارة الإعلام هي من سيتكفل بهذه المهمة، وهنا أتساءل عن السند القانوني الذي سيرتكز عليه الوزير للقيام بعملية التطهير التي يُريدها، فالوزارة تنتمي إلى السلطة التنفيذية، وبالتالي فأيّ خطوة ستقوم بها في هذا الاتجاه، ستكون مشبوهة، ولن تبتعد عن دائرة تصفية الحسابات.

والأخطر من هذا وذاك، أنّ وزارة الاتصال في قانون الإعلام الساري المفعول إلى يومنا هذا، ليست هي من يمنح “الاعتماد” للصحف، وحتى مصطلح “الاعتماد” غير موجود في قانون الإعلام المذكور، حيث ينص القانون على تسليم وكيل الجمهورية وصل استلام ملف بسحب نشرية سواء كانت يومية أو أسبوعية أو غيرها، وهذا ما تنص عليه صراحة المادة 14 “إصدار نشرية دورية حر غير أنه يشترط، لتسجيله و رقابة صحته، تقديم تصريح مسبق في ظرف لا يقل عن ثلاثين يوما من صدور العدد الأول. يسجل التصريح لدى وكيل الجمهورية المختص إقليميا بمكان صدور النشرية ويقدم التصريح في ورق مختوم يوقعه مدير النشرية. و يسلم له وصل بذلك في الحين. ويجب أن يشتمل الوصل على المعلومات المتعلقة بهوية الناشر والطابع، ومواصفات النشرية..”

فهذه المادة وما يليها، لا تتحدث لا من قريب أو بعيد، عن أيّ دور لوزارة الإعلام والاتصال في نشر الصحف، وما دام المشرّع أعطى الحق للعدالة ممثلة في وكيل الجمهورية، لتسليم وصل “بمثابة اعتماد”، فلا يحقّ لغير هذه الجهة، أن توقف سحب أية جريدة كانت، ومن ثمة، فإنّ وزير الاتصال، يكون بتصريحاته، قد تعدّى على صلاحيات السلطة القضائية، لأنه برأيي، ما دامت “اعتمادات” الصحف، باتت تُباع وتُشترى، فهذا بحدّ ذاته يُمثل جريمة يُعاقب عليها القانون، وكان من الواجب والضروري أن يخطر وزير الاتصال النيابة العامة بذلك، لتفتح تحقيقات قضائية، لا أن يُعلن بأنه سيحارب هذه الظاهرة دونما تحديد وسائل هذه الحرب.

والخطير بنظري في تصريحات وزير الاتصال ناصر مهل، هو أنه لم يكشف لنا عن الفترة التي بدأت فيها ظاهرة المتاجرة بالاعتمادات في الظهور، ولم يكشف كذلك عن سرّ السماح بسحب هذه العناوين، لأنّنا نعرف جميعا أن غالبية المطابع تابعة لسلطة الدولة، وحتى المطابع الخاصة، تلقّت تعليمات بعدم سحب أي صحيفة إلا بعد تقديم صاحبها “رخصة بالسحب”، باتت تسلمها وزارة الاتصال، وهو إجراء لا نجد له هو الآخر أي سند في قانون الإعلام، والمُفارقة الأخرى كذلك، هي أن هذه العناوين “غير الشرعية”، لو تصفّحناها، لوجدنا بها صفحات إشهارية، للوكالة الوطنية للنشر والإشهار، التي تحتكر الإشهار العمومي في الجزائر، والتي هي تحت سلطة الدولة كذلك، ومن هنا، أقول لوزير الاتصال، أنّ مصالح وزارته متواطئة بشكل أو بآخر، في استفحال ظاهرة “الطراباندو أو السوق السوداء” في الجزائر، ولا عجب في ذلك، ما دامت السوق السوداء، وسياسة “الشكارة” هي من تتحكّم في السياسة عندنا، وتوصل البارونات، ورؤوس المافيا، إلى قبة البرلمان، بل وتحدّد الخيارات الاقتصادية والمالية للبلاد، وهذا ما عشناه مؤخرا، عندما طغت قضية استيراد “الشيفون” أو الملابس البالية، على أشغال الدورة الربيعية للبرلمان. وأخلص بعد كل هذا إلى القول، بأنّ ظاهرة السوق السوداء، ما كان لها أن تنتعش في قطاع الصحافة والسياسة والاقتصاد.. لو أنّ البلاد لم تكن تُسيّرها عقلية “الطراباندو” منذ عشريات خلت…

جمال الدين حبيبي
15 جويلية 2011

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version