أخيرًا انقلب السحر على الساحر، وتحوّلت ليبيا إلى مستنقع سياسي لصقور الحرب، من أمثال الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى المنتهية ولايته، ووزير الخارجية الإيطالي فرانكو فراتينى، بل وكل بلدان الحلف الأطلسي، الذين باركوا الحرب على ليبيا، وحضّروا بغباوة كبيرة لأسباب اندلاعها، ظنّا منهم أن الأمر سوف لن يتطلب سوى أيام أو أسابيع معدودة، لإزاحة العقيد معمر القذافي، وتنصيب مُتمرّدي ومرتزقة بنغازي على رأس السلطة في ليبيا، وغاب عن هؤلاء أن ليبيا ليست كما صوّرها لهم هؤلاء المرتزقة، وأن لها شعبا كلّما ازداد العدوان عليه ضراوة، ازداد قوّة وإصرارها على المواجهة، وكلّما طال العدوان الهمجي والبربري أطفاله ونساءه وشيوخه، عقد العزم على الانتقام لهم والثّأر لدمائهم الزكية، فالشعب الليبي الذي بات يُقصف ليلا ونهارا، أبهر بالفعل كل الشعوب وبخاصة الشعوب العربية، لأنه لم يفكر على الإطلاق في رفع رايات الاستسلام لهذا العدوان الاستعماري الصليبي، بل تجنّد بشكل أفزع حتى قادة العدوان الصليبي، عندما هبّ بالمئات والآلاف للدفاع عن بعض مرافقه الحيوية والإستراتيجية كباب العزيزية، ومحطات الاتصال، وغيرها، مستعملا في ذلك أرواحه كسلاح أوحد ووحيدا، ممّا أرهب القوات الغازية، وأخلط حساباتها، ومخططاتها العدوانية.

لكن يبدو أن القوى الاستعمارية الصليبية، وأمام حالة الاستبسال والصمود الليبي، لم تجد من مخرج لها من “المستنقع الليبي”، يحفظ لها ولو الجزء اليسير من كرامتها، ويتيح لها الخروج ليس من باب المنهزم أو المُنسحب، سوى تغيير إستراتيجيتها باستهداف المدنيين الليبيين، وفي الوقت نفسه، تحريك بيادقها من أمثال عمرو موسى، الذي شَرعَن في البداية للعدوان الصليبي على ليبيا، ليخرج علينا اليوم، داعيا إلى وقف الحرب في ليبيا، حيث قال لصحيفة الغارديان “عندما أرى أطفالا يقتلون، ينبغي أن تنتابني هواجس. لذلك حذرت من خطر وقوع ضحايا مدنيين”، فوالله إنّني لأعجب لشخص كعمرو موسى، كانت أوراق الأزمة الليبية بيده منذ البداية، وفضّل تمريرها إلى مجلس الأمن، مع تجميد عضوية ليبيا في الجامعة العربية، وتجميد بالتالي حقّها في الدفاع عن نفسها، أعجب كيف يتحوّل اليوم من “صقر من صقور” الحرب وعميل بامتياز لأمريكا والغرب، إلى حمامة سلام!؟ الجواب بكلّ تأكيد لن نجده في قناعات وفكر هذا الشخص الذي باع ذمّته وكرامته، وتاجَر بالقضايا العربية في صالونات وبورصات الصليبيين، وإنّما نجده بكلّ تأكيد في اختلاط أوراق القوى الصليبية وحلفائها من أمراء الخبث والخيانة في دُويلتي قطر والإمارات، فالعدوان على ليبيا بات يُكلّف غاليا، ودول حلف الناتو باتت غير قادرة على مزيد من المُغامرة، التي ستكلّفها غاليا في اقتصادياتها وسياساتها الداخلية، فها هو وزير الخارجية الإيطالي فرانكو فراتينى، يدعو صراحة حلف الناتو إلى وقف الحرب في ليبيا، لكن، بعد أن انتكس حزب رئيس حكومته برلسكوني، وهوَت شعبيته إلى الحضيض، بفعل العدوان على ليبيا، كما أن الرئيس الأمريكي باراك أوباما الذي تحصّل على جائزة نوبل للسلام، أصبح اليوم وسط كمّاشة الكونغرس الأمريكي، الذي بات يُسائله عن السند الشرعي الذي ارتكز عليه للمشاركة في الحرب على ليبيا وتمويلها، وهو الآخر بدأت شعبيته في الانهيار، وقد يُشكل برأيي أسوأ نموذج لرئيس أمريكي من أصول إفريقية، وصل إلى هذا المنصب بدعوى نشر السلام والأمن في العالم، وتحسين صورة أمريكا في العالم العربي والإسلامي، لكنّه كان أقبح من سابقيه، وانخرط في حرب ضدّ الشعب الليبي المسلم، دونما أن يتحصل على ترخيص من الكونغرس الأمريكي، ولا أظن أنه سيقوى على الظفر بعهدة رئاسية ثانية.

ولن أتحدّث هنا عن تأثيرات العدوان في ليبيا على بريطانيا وفرنسا، لأن دورهما آت، بل سأقول بأن التأثيرات ستطال أوروبا كلّها في حال تواصل هذه الحرب الظالمة، فأوروبا بدأت أركانها تتزلزل بفعل الأزمة المالية الخانقة التي ضربت اليونان، وامتدت إلى إسبانيا والبرتغال، وهي مؤهلة للانتشار بقوة وبسرعة كبيرة لباقي الدول الأخرى، ويكفي أن أقول هنا، بأن دولة كاليونان، تستجدي حكومتها الاتحاد الأوروبي والبنك الدولي، لإقراضها كدفعة أولى، حوالي 14 مليار أورو، لتفادي إعلان الإفلاس، وهذا في الوقت الذي نجد فيه بأن احتياطات ليبيا من العملة الصعبة تناهز 180 مليار دولار، واستقراء هذه الأرقام يوضح بجلاء سرّ التكالب الغربي على ليبيا، لكن الظاهر أن الغرب، الذي فكّر فقط في الاستيلاء على الودائع الليبية في بادئ الأمر، اصطدم بحقيقة أخرى أكثر خطورة وتأثير من قضية الاستيلاء على الأموال الليبية، وهي أن العديد من الدول التي كانت تُودع أموالها في البنوك والخزائن الغربية، ستضرب الأخماس في الأسداس مستقبلا، قبل أن تُحوّل أي جزء من أموالها لإيداعها بإحدى الدول الغربية، لأنه تأكّد اليوم، أن هذا الغرب، بات وتحت غطاء الشرعية الدولية، والعقوبات، يجمّد أموال كل الدول التي لا تمشي في الفضاء الذي أراده لها، وبالتالي فإن كل ودائع الدول العربية والنامية، باتت عُرضة للقرصنة في أي وقت، وهذا برأيي ما سيؤدي إلى أزمة ائتمان دولية كبرى، سيدفع الغرب وعلى رأسه أمريكا بالأخص ثمنها باهظا في المستقبل، ممّا سينعكس سلبا على الاقتصاد العالمي ككل، وسيُعجّل بانهيار اقتصاديات الدول الغربية، التي تعتمد بالأساس على الودائع المالية في بنوكها وخزائنها العمومية، وقد سردت هذه المعطيات، لأوضح أن العدوان على ليبيا، سيقلب كلّ الموازين في العالم ككل، وقد سمعنا، كيف أن وزير الخارجية السوري وليد المعلم، قال بأن على السوريين، أن لا يضعوا من اليوم أوروبا في الخريطة، وأن يتوجهوا إلى بلدان آسيا كروسيا والصين وغيرها، ما يعني، أن أوروبا وأمريكا، سيفقدان عنصر الاستقطاب، ممّا سيُؤهل قوى أخرى لاحتلال مواقعهما، وهنا بيت القصيد..

وسأعود لمن باع ذمّته وكرامته، وأعني به عمرو موسى، لأقول أن الغرب وأمريكا وحلفائهما في الدُّويلتين القطرية والإماراتية، قد حرّكوه، وحرّكوا وزير خارجية إيطاليا فرانتيني، لصنع أعذار جديدة، تُمكّن من وقف هذه الحرب الغبية على ليبيا، بدعوى أن “أخطاء الناتو” تسبّبت في مقتل مدنيين ليبيين، -علما هنا أن عملية التقتيل والاغتيال بحق المدنيين كان عن قد وسبق إصرار وهي تشكل جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية-، فالصليبيون اقتنعوا اليوم، بأن قوّتهم العسكرية، لن تُمكّنهم من فرض استعمار جديد على الشعوب، وأن أزماتهم المالية الراهنية ستزداد حدّتها بفعل هذه الحروب العُدوانية، لكن رغم ذلك تظل دول مارقة كفرنسا على وجه الخصوص، تُراهن على صلاحية أداة العُدوان لتطويع الشعوب وسلب ثرواتها، لكن الذي ينساه ساركوزي “المعتوه سياسيا”، أن العالم تغيّر، وأنه حتى في قلب فرنسا هنالك الملايين من العرب والمسلمين، وبمقدور هؤلاء فقط، أن يقلبوا المُعادلة في أي وقت….

جمال الدين حبيبي
22 جوان 2011

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version