ليست كل اللحظات متساوية في الأهمية ولا كل الأفعال متساوية في التأثير وإن كانت متعادلة في القيمة المطلقة. فهناك لحظات في التاريخ فاصلة وأفعال ملازمة لها فارقة مغيَرة للتاريخ مؤثرة في حركية ولو كانت بميزان القوةَ البحت غير ذي بال، إلاَ أنها تفصل بين فعلين كبيرين متعادلين في الوزن ومتضادين في الاتجاه، فتفرق بينهما وتسمح لأحدهما أن يطغى على الآخر فيحدث التغير على مدى واسع بعمق غائر ولأمد بعيد.

إنَ ما يحدث الآن في العالم العربي لحري بأن يوصف بالمفصلي، إمَا أن ينقل الأمة نقلة نوعية تُفتح به آفاق جديدة يتيح لهذا الجزء من العالم أن يلعب دور المحَرك بعد أن حاد أو حيَد عنه لخمسة قرون ونيف في وقت أصبحت العبقريات السياسية والأيديولوجية في العالم أقرب للتهالك والإفلاس، وإما أن تعدو هذه الحركة مجرَد حركة انسحاب لحركة ارتدادية لما جرى ويجري في العالم و تستهلك طاقة الشعوب في تكريس المزيد من اليأس والتسليم بفرضية عدم جدوى التغير ولزمن لا يعلمه إلاَ الله.

فحركة الأحياء تختلف عن حركة الأشياء. الأولى مصدرها إرادة ذاتية والثانية إرادتها خارجية منفصلة عن وجودها. هذا في إطار ظرف ومحيط طبيعيين، أما إن كان هناك ضغط كبير فحتى الأشياء الجامدة تنفجر كالبركان و تهتز كالزلزال.

إذا كان دافع الكائنات الحية عدى الإنسان هو السعي إلى الأكل والشرب والتوليد فللإنسان دوافع وإرادة تتجاوز هذه الحاجيات شرط وجود الوعي بالذات الإنسانية.

إذا كان الزمن هو البعد التاريخي للحضارة من جهة يقابله البعد المسافي الذي يعبَر عن الجغرافيا من جهة أخرى، تراءى لنا التداخل الوثيق بين الجغرافيا والتاريخ. فالعالم العربي وحدة جغرافية على تعدد شعوبها، يحكمها زمن واحد وبالتالي مصير واحد.

لا يمكن قراءة التاريخ كأحداث متفرقة بمعزل عن الجغرافيا بل يجب إرجاعه لأصوله كعلم يجد جذوره في القوانين العلمية التي هي سنن الله في الخلق.

فالنظرية النسبية أثبتت التزاوج بين الزمن والمسافات والجيولوجيا أثبتت نظرية تدافع القارات.

إنَ ما يفرَق بين المُطالب بالتغير في طرف والعازف عنه والواقف ضدَه في الطرف الثاني ليست الحاجة المادية الصرفة بل الوعي بصيرورة التاريخ وعلاقتها بسمو الذات الإنسانية. قد تتحقق بعض المصالح المادية لبعض الأفراد أو لشرائح من الشعب في مجتمع يحكمه مستبَد ولكن على حساب أشياء مهمة كثيرة. فهذه المكاسب لن تكون إلاَ لزمن قصير وقد تضَر بأصحابها، وأثرها على المجتمع أغلبه سلبي.

فهي غير شرعية في أغلبها لِأن قانون المسَتبد لا يوضع لِخدمة الجميع وإن وضَع كذالك فهو مشروط بتطبيقات سيئة لِأن البطانة التي تحيط بمن له مقاليد الحكم تبنى على الولاءات وليست على الكفاءات عدا على أن الحاكم نفسه مغتصب للسلطة.

من أجل استمرار المنتفعين تتفنن البطانة عن طريق إعلام كاذب وشبه مثقفين ورجال دين مأجورين إلى تأليه الحاكم وتسليط آلة البطش على المواطنين فتسحر عيون المغفلين وتصم آذان السامعين وتخرس ألسن الناطقين وتشَل أيدي الفاعلين وتعطل عقول المفكرين.

ففي المجتمع المستبد تهن الروابط الاجتماعية وتختفي علاقات الثقة وتطغى عقلية الانتفاع والانتهازية بعد طمس قدرات الفرد الإبداعية التي لم يعد لها أرضية اجتماعية تتفاعل معها أخذا وعطاء. فالخيال يصبح وهماً والعقل كفراً والدين حمداً وتسبيحاً للحاكم وتصبح بذالك نعم الله نقمة.

أما المجتمع الحر فعلى العكس من هذا كله، لأن الأصل في الحرية والنشاز في عبودية الإنسان للإنسان ولذالك أتت شرائع الله في كل الأزمنة مبدؤها الأساسي العبودية للخالق وحده والتآخي بين الناس.

إن الشعب الحر يبني دولته على مبادئ طبيعية تتوافق مع الإيمان والعلم. الإيمان بأنه لا خضوع لمخلوق مهما كان والإيمان بأن للحياة غاية عظيمة، والإنسان الذي هو على رأس هرم المخلوقات عليه الأمانة الكبرى في إدراك معانيها السامية. فبإعماره الأرض على أساس التآخي والعدل بين الجميع يحس كل فرد بأهميته وحريته فتتحرر قواه وعبقريته فيجتهد ويبدع ويسعى إلى معرفة الحقيقة، فتشع ثقافة الخيال والعلم والعمل مقابل الوهم والتواكل والتكاسل في المجتمع المستبَد.

تتحقق بذالك حياة الرخاء للجميع ويزيد ويشمل المهاجر عوض تصدير العامل والعالِم.

يصبح للمجتمع قوَة جاذبة توحد ويصبح البناء تراكمياً في صعود وليس قوة طاردة أفقية مفككة لكل شيء كما في نضيره المستبد.

إن الثورة العربية ليست ثورة غضب عبثية بل هي لحظة وعي وانبعاث عميق تأتي من تراكم تجارب التاريخ وبعد عناء وبحث كبيرين تشبه في ملامحها وطياتها جهد الباحث العالم المفكر وبقدر معاناة البحث تخرج لحظة الانكشاف وتجبّ نشوة النصر ما سبقها من آلام.

نعم إنها بداية البداية فما تحقق لحد الآن رغم التضحيات الغالية لا يعدو كونه بداية لمشروع كبير وطويل الأمد لا بد من رسم ملامحه وتحديد أهدافه والسعي في كل لحظة لبنائه والحفاظ عليه.

إن التغير قائم وسيعم كل المنطقة فرغبة الشعوب الجامحة في التغير متزامنة ومصائرها مشتركة وعليه العمل ومن الآن لبسط جسور العمل المشترك لأن الوحدة مهما كان شكلها فهي الضامن الوحيد لأن لا تعود هذه الشعوب لما كانت عليه وأن تستدرك ما فاتها.

العربي الحكيم
1 أفريل 2011

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version