هل يجب إسقاط الجزيرة؟ تلك أمنية غالية على جلّ، إن لم نقل كل، الحكومات العربية. أمنية لم تبقها السنون طي الكتمان بل خرجت من ألسنة عدد من قادة العرب على شكل عبارات استياء وانتقادات حتى وصل الأمر بحاكم عربي من جيل (الشباب المثقف) أن نقل تمنياته في خبث إلى الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الابن الذي سأل الحاكم الشاب بعد أن استمع إليه وهو يعبر له عن مخاوف وقوف فضائية الجزيرة حاجزا أمام أحد المشاريع المشتركة، وماذا تقترح أن نفعل لها؟ فرد بعبارة واحدة جافة (صاروخ واحد!). اقتراح اهتم به السفاح بوش كثيرا وذهب إلى حد اقتراحه على رفيقه في حروب الدمار الوزير الأول الأسبق توني بلير. وعندما يتحالف أو يتفق قادة عرب مع بوش وبلير فلا بد أن نعترف أن الأمر لن يكون أبدا في صالح شعوب المنطقة. لكن ما الذي يجعل الحكام العرب يجتمعون على دخول حرب غير متكافئة والتآمر ضد قناة فضائية؟

أكيد أن الجزيرة ليست دولة ولا منظمة مسلحة، لكن مفعولها وهي تمارس نشاطها الإعلامي يوازي مفعول أسلحة الدمار الشامل عند الحكام المتجبرين الذين ظنوا لوقت طويل أنهم قادرون على تكميم الأفواه وشراء الذمم ترغيبا وترهيبا. وما الاهتمام الكبير الذي يوليه هؤلاء لما تقوله الجزيرة عنهم وعن بلدانهم إلا دليل بيّن على يقينهم أن عروشهم باتت مهددة بالسقوط في أية لحظة. الجزيرة لا تحارب الدول ولا الحكومات ولا أعتقد أن في نيتها قلب هذا النظام أو ذاك، بل كل ما تجتهد فيه هو أن تكشف مستور الفساد المستشري داخل الجسد الرسمي العربي. والرسميون العرب يدركون جيدا أن الفساد إذا صار مهددا فإن ذلك يعني أن كراسيهم عرضة للانهيار. وقد حاولوا مرارا وما زالوا يعملون فرادى وجماعات من أجل إسكات هذا السلاح المدوي الذي يقض مضاجعهم، حاولوا ذلك أولا بالتملق ثم بالتوسط تارة والضغط تارة أخرى على القيادة السياسية القطرية، وعندما لم يكن ذلك يجدي نفعا فإنهم يمنعون القناة من العمل داخل دولهم ظنا منهم أن الرياح لن تعصف بهم عندما يسدّون ذلك الباب. حتى جاءت ثورة تونس وما حملته من بشائر وآمال لتكون دليلا قاطعا على أن سهام الجزيرة لم يعد ينفع معها منع ولا غلق ولا حصار.

يروي أهل الجزيرة كيف أنهم كانوا يجدون صعوبة كبيرة في إسماع مشاهديهم أصوات التونسيين، ما عدا منصف المرزوقي والقلة القليلة من المعارضين البارزين، كان عشرات المثقفين التوانسة يتحاشون الظهور على قناة الجزيرة بسبب القمع الأسود الذي كان مسلطا عليهم، حتى في الشؤون الثقافية أو الرياضية البحتة كانوا يخافون الخوض فيها على تلك القناة، ومع ذلك يشهد الجميع الآن أن الجزيرة أدت دورا أساسيا في النهاية السعيدة لثورة الياسمين، فقد نجحت في كسر الحصار الذي فرضه نظام بن علي على بلاده ونقل ما كان يجري من أحداث دامية داخل تونس للعرب عامة ولملايين التونسيين المشردين في أصقاع العالم أيضا.

نشرات أخبار الجزيرة تحولت طيلة أيام وأيام إلى تغطية شاملة للشأن التونسي وبدأت مع ذلك تتحرر الألسنة خارج تونس ثم بدأ الداخل يسمع صوته للعالم وبدأت أركان النظام تهتز شيئا فشيئا حتى سقط الصنم من عرشه وطار.

فهم المشرفون على الجزيرة أن الجماهير قد تفلت منهم إذا لم يواكبوا التطورات المتسارعة لتكنولوجيا وسائط الإعلام والاتصال، فسارعوا إلى استغلال مئات الصور والفيديوهات التي يهربها التونسيون عبر هذه الوسائط إلى العالم الخارجي ولم يعد مهما أن تحافظ الشاشة على معايير جودة الصوت والصورة أمام أهمية أن يطلع الرأي العام على أحداث ثورة تجري في بلد أراد حكامه أن يبقوه في عصر الجاهلية السياسية والإعلامية.

ومثلما يقول أحد الخبراء فإن الجزيرة استطاعت بما فعلته في ثورة الياسمين أن تنقذ نفسها من الزوال الذي بات يهدد كثيرا من وسائل الإعلام التقليدية بسبب التطور التكنولوجي الهائل للوسائط الإعلامية الجديدة. كما أن الخطر الأكبر الذي رفع الجزيرة إلى مصاف الأعداء الواجب تصفيتهم جاء من كون هذه الفضائية تنطق بلسان قومهم والأهم أنها تبث من داخل أرض عربية مما يبعد أي مجال لاتهامها بالعمالة وتنفيذ أجندات غربية مع أن البعض يجرؤ على قول ذلك. أما الأغرب في أمر القادة العرب مع الجزيرة هو أنهم يجمعون على أمنية إسقاطها أنهم لا يتمنعون من التحدث إليها وهم يدركون تماما أن الجزيرة أحسن وسيلة يمكن أن يعتمدوا عليها لإبلاغ ما يريدون من رسائل لرأيهم العام المحلي أو للرأي العام العربي، أحسن حتى من التلفزيونات التي يسكنونها بأجسادهم وأرواحهم على مدار العام.

لا أحد يمكنه أن ينكر دور الجزيرة في جمع الصف الشعبي العربي وتشكيل الرأي العام في هذه البقعة المقهورة من الأرض، لكن يمكن القول إنها بعد دورها المتألق في إنجاح ثورة تونس انتقلت بالعرب من مرحلة تشكيل الوعي القومي إلى مرحلة تثبيت هذا الوعي وتغليبه على الواقع المزري الذي صنعه حكام متجبرون فاسدون لا يهمهم من بلدانهم شيء إلا الكراسي التي يجلسون عليها والثروات التي يؤثرون بها أنفسهم وأقاربهم وأزلامهم بينما مشاكل الشعوب واهتماماتهم وكرامتهم وسيادة بلدانهم هي آخر ما يفكرون فيه. لذا لا نبالغ إذا قلنا إن الجزيرة يليق بها أن تكون الدبابة التي تحمل الشعوب من ظلمات الجبروت إلى أشعة الديمقراطية والكرامة. حكامنا تولوا الحكم على ظهر دبابات جيوش داخلية وخارجية وعليهم الآن أن يواجهوا الجزيرة بسلاحها الخارق الذي عجزت راداراتهم وقواتهم على صده فدخل البيوت وحمل معه تأييدا شعبيا واسعا وبعث روحا جديدة في نفوس شباب ورجال ونساء كاد اليأس أن يبيدهم. والمطلوب الآن من كل شعوب العرب أن يتجندوا للدفاع عن هذا المكسب وأن لا يدعوا العابثين ينالون منه، لأن الظلاميين الذين أخفقوا في استعمال اليد الخارجية لضربها هم الآن يحاولون استغلال مشاعر رأي عام محلي ساذج لتنفيذ المهمة.. المستحيلة!

خضير بوقايلة
25 يناير 2011

المصدر: يومية القدس العربي

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version