ليس الغرض من هذه المداخلة انتقاد السيد قسنطيني، رئيس اللجنة الاستشارية لحماية وترقية حقوق الإنسان في الجزائر، ولا حتى محاولة إقناعه بحقائق لا يملك جرأة ولا خيار الاقتناع بها، لسبب بسيط وهو أنّ مثل هذا الاقتناع سوف يكلفه منصبه لا محالة، بل وحتى أشياء أخرى، أخطر بكثير.

مناسبة هذه الكلمة ترتبط أساسا بما صرّح به السيد قسنطيني مؤخّرا، حيث فاجأ الكثير بما أضافه إلى سجله من مفاهيم خارقة للعادة، حيث حلّق بعيدا، وقد ابتزّ حتى سلفه بارة في استماتته دفاعا وتمجيدا لسجلّ مُشغّله، مبتكرا مفاهيم لم يسقه إليها أحد، منها على سبيل المثال وصفه ميثاق السلم والمصالحة، باعتباره إنجازا ضخما لا يضاهيه سوى استقلال البلاد! ليس هذا فحسب، حيث اعتبر الرجل أنّ “المهمة الرئيسية لذاكرة الإنسان تتمثل في النسيان، على أن لا تعود هذه الذاكرة بصاحبها إلى الخلف!”، وإلى من يتساءل مَن المستهدف من وراء مثل هذه الرؤية الثاقبة، نُجيب دون خشية مجانبة الحقيقة، أنهم ذوو المفقودين الذين يلحّون على حقّهم في معرفة ما جرى لفلذات أكبادهن.

قد يشكّل هذا التفكير السريالي منه أحد أوجه التيْه الذي يتخبّط فيه السيد قسنطيني، يوما بعد يوم، بحثا عن السبل الكفيلة بتبرير القمع المسلّط على عائلات المختفين لثنيهم عن مواصلة نضالهم في المطالبة بالحقيقة حول أبنائهم. وبينما يفترض أنّ مهمته تتمثّل في تعزيز وترقية حقوق الإنسان كما يدلّ على ذلك اسم منظمته، نجده عكس ذلك يستميت كل مرة في تبرير ما تقترفه الجهات التنفيذية المتمثّلة في مختلف أجهزة الأمن من أعمال وحشية ضد العزّل ممن يفترض فيه أنه يدافع عن حقوقهم، هذا إلى جانب الدفاع بل وتمجيد ميثاق السلم والمصالحة الذي يحتوي صراحة على بنود تكرّس الإفلات من العقاب وتفرض النسيان وتعاقب المطالبين بالحقيقة.
 
ومن خلال تعريفه للذاكرة التي يعتبر أنّ مهمتها الأساسية تتمثّل في النسيان، فلا شك أنه يريد بجرّة قلم أن تنسى آلاف الأمهات والأزواج والأخوات ذويهم من المختطَفين المفقدين دون معرفة مصيرهم، باعتبار النسيان هو الحل الشافي؛ لكنه لا يقول لنا، الحلّ بالنسبة لمن؟ للمجرمين الذين يريدون الإفلات من العقاب وطيّ الصفحة بلا رجعة أم بالنسبة للأسر التي لن تقبل بأقلّ من معرفة مصير ذويهن مهما طال الزمن ومهما كلفها ذلك، هذا بالإضافة إلى ما أثبتته التجارب على مرّ الأزمان، التي برهنت في كل مرة أنّ أيّ مشروع مصالحة لا يقوم على واجب الحقيقة والعدالة والتعويض مآله الفشل ولو بعد حين بل وقد يتفاقم الوضع بحيث يزداد تعفنا، ولنا في تجربة جنوب إفريقيا من جهة وتجارب أمريكا اللاتينية خير دليل على ضرورة توافر ركن الحقيقة كوسيلة لالتئام الجراح وعودة الأمور إلى مجراها.

ولا يتوقّف السيد قسنطيني عند هذا الحدّ حيث يضيف مغالطة أخرى بزعمه أنّ ذوي المفقودين الذين يطالبون بالحقيقة والعدالة لا يشكّلون سوى أقلّية إذ أنّ أغلبية ذوي المفقودين بحسبه قد قبلن بالتعويض في إطار ميثاق السلم والمصالحة متعمّدا الخلط بين الحقّ في التعويض الذي لا ينفي الحق في مطالبة الحقيقة، وهو حقّ للأُسر، خاصة إذا علمنا أنّ أغلب ذوي المفقودين انقلبوا بين عشية وضحاها بلا عائل، الأمر الذي حتّم عليهم قبول التعويض، لكن جوهر الأمر الذي يتعمّد قسنطيني تجاوزه هو أنّ الدساتير الدولية، في الوقت الذي تفرض فيه حقّ التعويض، لا تُسقط حقّ المطالبة بالحقيقة والعدالة بل وتجرّم الجهات التي تُلغي ذلك الحقّ. أما السيد قسنطيني، ومن خلفه الجهة الموظِّفة، فقد اتخذوا من التعويض وسيلة قسرية للابتزاز مع علمها بما تقاسيه هذه الأُسر من ضائقة مادية خانقة، سبيلا لتفرض على ذوي المفقودين طيّ الملف بلا رجعة. وإمعانا في قمع هذه الأُسر المكلومة، سنّت هذه السلطة قوانين تتعارض مع المواثيق الدولية بحيث أدرجت بنودا يتمّ بموجبها ملاحقة قضائيا كل من يستمرّ في المطالبة بالحقيقة، فجعلت ذوي المفقودين بين سيف القمع والملاحقة القضائية وجزرة التعويضات كشكل من أشكال الرشاوى.

ويذهب السيد قسنطيني في تخبّطه بعيدا، إلى حدّ الشطط حيث يتّهم ذوي المفقودين باستغلال شعار الحقيقة والعدالة، مشكّكا في مقاصدهن، ومتذرّعا في نفس الوقت باستحالة الوصول إلى الحقيقة نظرا لغياب الأرشيف والشهود، يقول ذلك رغم عشرات شهادات الأمهات وزملاء العمل التي تلقّتها منظّمته والتي تثبت تورّط أشخاص بعينهم من مختلف أجهزة الأمن (وهو قد أقرّ بذلك في مناسبات عدّة) في عمليات الاختطاف، ناهيك عن شهادة العميل السابق كريم مولاي الأخيرة الموثّقة التي يبيّن فيها تورط جهاز “الدي آر آس”(1) كجهاز وليس كأفراد، في عملية اختطاف الطالب بدران محمد الذي اختطف من أمام المدرج “م” في جامعة باب الزوار، مثال واحد فحسب على زيف ما يذهب إليه قسنطيني.

وانتقلُ الآن إلى جوهر المسألة التي أردتُ الإشارة إليها، أي تلك القفزة النوعية التي لجأ إليها قسنطيني هذه المرّة، في محاولة منه التخلّص من ملف المفقودين المستعصي عليه والذي أضحى بمثابة كابوس يقلق الجهة المُوظّفة له، فخرج السيد قسنطيني لأوّل مرّة باعتراف من العيار الثقيل وملفت للغاية (وأريدَ له ذلك أصلا)، حيث أقرّ رسميا بالحيف الذي وقع بمعتقلي الصحراء عقب انقلاب يناير 1992. إنها نقطة تحوّل بلا شك (لها ما بعدها)، ومن العبث الاعتقاد أنّ ذلك يعود لاستفاقة ضميره أو ضمير مُشغّليه؛ فما السبب إذن وراء هذه التحوّل؟ شيء مؤكد، ما كان ليصرّح هو بهذا التصريح الخطير من تلقاء نفسه، فمثل هذا الموقف الخطير، لا بدّ وأن يصدر من جهات عليا صاحبة القرار. والمتتبّع لهذا الملف، يُرجع سبب ذلك إلى محاولة هذه السلطة تخفيف الضغط الممارس عليها بفعل ملف المفقودين الذي أخذ يتّسع صداه خارج حدود البلد (ولنتذكّر أنّ سبب منع اعتصام ذوي المفقودين عبر استعمال العنف، ثلاثة مرات على التوالي في هذا الشهر، جاء بحجة مشاركة أجنبيات معنيات بحقوق الإنسان إلى جانب ذوي المفقودين). فجاء إذن هذا “الاعتراف” المتأخّر، الذي يقرّ بما لحق من ظلم بمعتقلي الصحراء لتوجيه الأنظار بعيدا عن المفقودين وتسليط الأضواء بدل ذلك (شكل من أشكال صدّ الأنظار) في اتجاه ملف يكتسي هو الآخر أهمية بالنسبة لأصحابه. ومن هذا المنطلق يجب فهم تصريح قسنطيني ووضعه في سياقه!

والملفت للنظر أنه من خلال طريقة قسنطيني في الإعلان بهذا الشأن، يبدو وكأنه يريد من خلال هذا التصريح “الكريم” أن نثمّنه ونشكره عليه ونشكر صاحب نعمته، كونه قد “أقرّ”، في حواره مع صحيفة الوطن، إحدى أدوات “الدي آر آس”، “أنّ معتقلات الصحراء التي غيّبت عشرين ألف مواطن دون جرم ولا حتى اتّهام بعد انقلاب يناير 1992، كانت خطأ ومن حق ضحاياها التعويض”. وهنا يتوقّف رجل القانون دون تحديد من هو المسؤول عن هذا “الخطأ”، وقد أسقط ما يترتّب عن ذلك، من ضرورة المحاسبة على تلك الجريمة الجسيمة في حقّ آلاف المواطنين وعائلاتهم الأبرياء، الجريمة التي يستصغرها فيسميها خطأ! وهل مطلوب مقابل هذا السخاء الحاتمي من صاحب نعمته، أن ينسى الشعب الجزائري، وعشرات الآلاف المعنيين بصفة أخص، هذه الجريمة وما كلّفتهم، ولا تزال إلى يومنا هذا، من مآسي، ومن ثمّ وجب مسحها بجرة قلم بمجرد إقراره بذلك، مقابل تعويض مادي خسيس. أما من جانبنا، ألا يحق لنا أن نتساءل ما معنى هذا الاعتراف دون أن تتحمّل الجهة (السلطة صاحبة القرار) مسؤوليتها علنًا ومتابعة المسؤولين عنها؟ هل هنا أيضا سيحدّثنا عن التزام الدولة وعدم مسؤوليتها (مصطلحات تكاد تنفرد بها دولة “الدي آر آس” دون سواها من الدول، على لسان الناطقين باسمها؟ أم هنا أيضا، يكون الذي أصدر أوامره بفتح معتقلات الصحراء والزج بآلاف الأبرياء، مجرّد عناصر معزولين تصرّفوا بمحض إرادتهم دون علم السلطة، مما يُعفي هذه الأخيرة من تحمل المسؤولية؟ أعتقد أنه لن يستطيع هذه المرّة التذرّع بهذا الزعم لأنه غير خاف على أحد، مَن هي الجهة التي شرّدت آلاف المواطنين في فيافي الصحراء واقتلعتهم من أحضان ذويهم طيلة سنين، فقضى من قضى واعتلت صحة البعض فيما فقد الجزء آخر عقله.

وهنا نجد أنفسنا أمام تساؤل آخر يطرح نفسه، هل بعد أن أدركت دولة “الدي آر آس” عقب محاولتها العديدة والمتنوعة، أنّ عائلات المختطفين المفقودين، لن تطوي الصفحة ولن تتوقّف عن المطالبة بحقها في معرفة الحقيقة وإحقاق العدالة كما صرّحت به السيدة يوس وشرفي ولكحل نيابة عن المنظّمتين المعنيّتين بالدفاع عن ذوي المفقودين، أوعزت الجهة الوصية إلى الناطق غير الرسمي باسمها لشؤون ترقية حقوق الإنسان، الخروج بذلك التصريح المباغت والمخادع، الذي قال فيه أنّ المعتقلات كانت خطأ (رغم أنه ليس من تقاليد الساسة عندنا الاعتراف بالخطأ، ناهيك عن الاعتراف بارتكاب جرائم)، وذلك للحدّ من الضغوط التي تتعاظم كل يوم، خاصة بعد تواتر شهادات العملاء الذين قدّموا إفادات دقيقة وموثّقة تصف طريقة تنفيذ عمليات الاختطاف، من تدبير وتنفيذ جهاز “الدي آر آس”، أي من تدبير وتنفيذ الدولة.

وهكذا تثبت الأيام، أنه لا معتقلات الصحراء ولا ملف المختطفين ولا المجازر ولا حواجز “الدي آر آس” المزيّفة ولا غيرها من الجرائم التي أدمت البلاد خلال العقدين المنصرمين، يمكن لقسنطيني أو غيره التمويه والتستر عليها، لأنه بصفته رجل قانون، حري به أن يتذكّر أنّ هذه الجرائم لا تسقط بالتقادم ولا بالتعويض ولا حتى من خلال إصدار الطرف المجرم مواثيق سلم وعفو انتقائية تبيّض صفحته عن طريق دفن ملفات هذه الجرائم، على شاكلة ما حاول فعله نظراء “الدي آر آس” في دول أمريكا اللاتينية وغيرها من دول الاستبداد في العالم.

وفي الختام، يجب أن لا يغيب عنا، كلّما سمعنا الرجل ينبري في الدفاع عن دولة “الدي آر آس” وما ارتكبته من جرائم وحشية واسعة النطاق، أنّ الرجل يفعل ذلك ببساطة باعتباره مُعيَّن ومكلف بمهمة، أي موظف عميل يضطلع بمهمة محورها توفير الواجهة الحقوقية لدولة “الدي آر آس”، أي أداة ضمن مجموعة الأدوات التي تستخدمها زمرته لتكريس استمراريتها، وهو بذلك يقوم بنفس المهمة التي يقوم بها غلام الله باعتباره الواجهة الدينية وسلطاني ممثلا للواجهة السياسية الإسلاموية، وخليدة تومي الواجهة العلمانية الحدثية، أي كلٌّ يقوم بدوره في إطار التعدّدية الوظيفية التي تسعى دولة “الدي آر آس” من خلالها ارتداء عباءة مقبولة ولو ظاهريا. ومن هذا المنطلق، فلا مجال للعجب ولا للعتاب على ما اعتاد الرجل التصريح به في كل مرّة يرتكب فيه مُشغِّله جرائم في حق المطالبين بالإنصاف، من أمهات وزوجات المفقودين أو من ضحايا المجازر أو معتقلي الصحراء. وإذا كان الجميع يعلم هذه الحقائق، بحكم الواقع المعيش والمشاهدة العينية، ويستشفّ آليات توزيع الوظائف والمناصب وفق معايير جد خاصة، فقد أوضح لنا مؤخرا العميل كريم مولاي، وقبله سمراوي وسويدية وغيرهم، الوصفة التقنية المعتمدة لدى دولة “الدي آر آس” في شراء الذمم وتوريط الأشخاص وسيلة لتوظيف العملاء على كافة المستويات وفي جميع المجالات، في الصحافة، والوزارات، والجامعات، والمؤسسات التجارية، والسفارات، وما إلى ذلك، الكلّ يقبض الثمن لقاء استماتته في أداء المهمة المكلّف بها فحسب. معادلة… جد نتنة.

د. رشيد زياني شريف
عضو مجلس الشورى للجبهة الإسلامية للإنقاذ (الجزائر)
22 أوت 2010

(1) جهاز الاستخبارات في الجزائر الذي أضحى يشكّل القيادة الفعلية للسلطة مع توظيف واجهة مدنية.

تعليق واحد

  1. محمد بتاريخ

    طلب مساعدة
    ممكن تسالوا لنا عن ملف معتقلى الصحراء
    اين وصل
    واين حقوقهم
    التى ضاعت
    نرجوا الرد

Exit mobile version