يواجه راهنا الرئيس السوداني الفريق عمر حسن البشير ما لا يحسد عليه جراء تحرش المحكمة الجنائية به، و الحديث في هذه القضية قد يتشعب لينحني عدة منحنيات يجب التطرق إليها كل على حدة ومن عدة منطلقات. وإن كان بينهما مالا يهم نقاشه من باب أنه مصنف تحت مفهوم المعلوم بالضرورة. خاصة فيما يتعلق بوظيفة هذه الهيئة الظالمة المسماة "محكمة جنائية دولية". حيث لا دور لها غير التحرش برافضي دخول بيت الطاعة الأبيض الأمريكي أو "المارقين" القاصين عن القطيع الأممي الذي يرعاه كبير الرعاة العالمي "كوبوي" واشنطن. بحيث تتكاثف وتتناغم نشاطاتها مع توأمها الثاني المتمثل في مجلس الأمن. فكلاهما يصنف الأنظمة ويشرع العدوان على من لم يمكن تدجينها. ولكن جديد هاتين الهيئتين راهنا أنهما قامتا بما يشبه التغيير التكتيكي. ذلك أن ما حدث للعراق في عدوان 1991 أولا ثم في عدوان 2003 وما أنجر عنه ثانيا، دفع بمجلس الأمن إلى التنحي عن الريادة العدوانية وترك مكانة ومنصب رأس الحربة للمحكمة الجنائية وذلك لإضفاء أكبر قدر من رماد الشرعية الدولية في أعين السذج على الجرائم التي تقترف ضد شعوب العالم تحت ذرائع واهية تغلف بغلاف الإنسانية والديمقراطية ورفع المظالم كما يحدث هذه الأيام مع الفريق البشير وفريقه الحاكم في الخرطوم، آخدين البشير بجريرة الجرائم ضد الإنسانية في حق أبناء دارفور. والحقيقة أنه حتى لو صدقت مزاعم هذه المحكمة فإن التهمة لا تخرج عن دائرة "كلمة الحق التي يراد بها الباطل".

نقاش قضية المحكمة الجنائية مع البشير يجب أن ينظر إليه بعين سليمة من داء الحول السياسي الذي كثيرا ما أنتج كوارث لا يمكن احتواؤها. وحتى توضع هذه القضية في إطار واقعي لاستخلاص الدروس والعظات لابد أن تكون إحداثياتها ماض عراقي ومستقبل سوري. وإذا كنا دائما نقول أن من المستحيل حجب عين الشمس بالغربال ولا رد الأمس بالحبال. فإن ما يهمنا هنا هو الدعوة إلى السوريين شعبا وحكومة ومعارضة إلى التروي والحيطة حتى لا يمكنوا العدو من أرضهم وعرضهم ودمائهم.

فالعراق هو التجربة الملآنة بالدروس للسودانيين حكومة ومعارضة وشعبا والسودان نفسه يمثل لسورية ما يمثله واقع العراق له، بمعنى أدق يمكن القول بأن في الثلاثة المذكورين (العراق، السودان،سورية) نموذج يشبه نظرية التطور لكن ليس حسب وجهة داروين القائلة بأن هذه النظرية حولت القرد إلى حيوان بتطورها بل هي إستراتيجية، تحول الواقع القائم إلى ذكرى!!

وإذا لم تستفد السودان من مأساة العراق الذي تحول إلى ذكرى وخرج من التاريخ والجغرافية فإنه ماض إلى "عرقنة" حقيقية.

وكذلك سورية إذا أخطأ نظامها قيد أنملة في تعاطيه مع خصومه الأجانب ومعارضيه من السوريين حل به ما يحل بالسودان هذه الأيام من"السودنة"ومنها إلى "العرقنة".

إن هذا الأسلوب الامبريالي العنصري هو أشبه ما يكــون بفـيروس الـ"hiv" المفقد للمناعة المكتسبة…. لم يعد بحث سبل العلاج الناجع في حق العراق ذا أهمية تذكر باعتبار العراق الذي عرفناه، عراق العروبة، و الصمود، و القوة والاستبسال، غدا أثرا بعد عين وليس بعد العين أين!! فالعراق الآن ليس عراق ما قبل 9 أبريل 2003، ولن يكون. ولهذا فبالأحرى أن نتحدث عن عراق آخر صنع على أعين المنظرين والمخبرين في مخابر الاستخبارات الصهيوصليبة. وهو يكاد يكون لا يعنينا. عراق تتقاسمه "الصهيوصليبوصفوية". أسهم شماله خالصة لتل أبيب وأسهم جنوبه وشرقه لطهران. ووسطه من نصيب واشنطن. وعلى حسابه وحساب ثرواته وتاريخه ومستقبله وعلى حساب دماء أبنائه تصفى الحسابات الثلاثية بين تل أبيب وطهران أو واشنطن وطهران.

إذا عرفنا السبب المفضي إلى هذا الواقع كان فيه دليل على تصورنا بأن الفيروس تمكّن من جسد السودان ولم يعد بوسع الأطباء إذا حسنت نواياهم غير إيجاد ترياق يخفف الألم ويطيل العمر الافتراضي للسودان وزدنا يقينا بأن سورية – صحيح أنها أحسن حالا من السودان – لكن التحليل يثبت ايجابية المصل. وتلافي انهيار جهازها المناعي مرهون بمدى فض النزاع بين نظام الأسد ومعارضيه وبوجه أخص جماعة أخوان البيانوني وجماعة العم رفعت. حل يكون داخليا في البيت السوري وبعيدا عن المؤثرات الخارجية. وكما أن الظرف المكاني مهم (داخل سورية) فإن الظرف الزمني أهم. فمصالحة اليوم أجدى من مصالحة غدا صباحا.

إذ ها هو البشير رضي بالتفاوض والتصالح واقتسام الثروة والسلطة (وما أدراك ما الثروة والسلطة لدى الحاكم العربي). ولكن ذلك جاء بعد فوات الأوان ودنو أجل خراب السودان. لأن القضية دولت ودخل خصوم البشير على الخط فلم تعد القضية سودانية-سودانية. بل تحولت إلى ذريعة لتصفية حسابات الماضي بين الغرب الصهيوصليبي ونظام الخرطوم.

إن عثرات نظام البشير لم تكن أخطاء قابلة للتصحيح بل كانت خطايا اقترفت في لحظة طيش سياسي وعنفوان أحمق دشنه بانقلاب على النظام الحاكم. فلما تملك زمام الأمور وأراد تبييض صحيفة سلوكه لدى إدارات الغرب صحح هذه الخطيئة بما هو أفظع منها. فقام بإسداء خدمات جمة للغرب لم يجن منها نظام الخرطوم إلا الحشف وسوء الكيل. وصحا بعد ذلك على كابوس أهول مما نام عليه. فقد خسر الحلفاء وفي مقدمتهم رفيق دربه الدكتور حسن ترابي الذي زج به ومن والاه في غياهب الاعتقال وطرد أسامة بن لادن من بلاده وسلم كارلوس (اليتش شانزيز راميراز) لفرنسا على طبق من ذهب في وقت كانت الحكمة فيه تقتضي أن يستثمر هؤلاء كأوراق ضغط لصالحه. لكنه باعهم بثمن بخس وكان فيهم من الزاهدين. ولم يتحلحل قيد أنملة عن مربع العدو لأمريكا خاصة وللغرب عامة.

دكتاتورية عمر حسن البشير العمياء لم تكن لترمي بالسودان في أتون هذه المعضلة لولا أن تضافرت مع حمق وغباء وعمالة الأقليات التائهة والمعارضة العملية، حيث وضعتا بيضهما كله في سلال أعداء السودان طلبا للعون منهم للاستقواء على النظام الحاكم من جهة ونكاية فيه من جهة أخرى. وارتبطوا بحبال سرية مع الصليبية الأمريكية والصهيونية الإسرائيلية على الترتيب. فتحولت الأقليات التائهة إلى أدوات تافهة والمعارضة العملية إلى مخبر (بضم الميم) أو قواد سياسي لصالح العدو. والمحصلة أن سلطة السودان ومعارضته وأقلياته سلمت لحاها للعدو إما طلبا للاستقواء على الخصم (المعارضة) أو طلبا لتحقيق استقلالها أو انفصالها (الأقليات) وإما لسقوطها في فخ الخطيئة (السلطة).

ولهذه الأسباب لم يكن هناك بد من أن نتحدث عن السودان وما يواجهه رئيسه في معزل عن نموذج سبق له أن تلبسه وهو النموذج السوري. ولا عن آخر مقبل على الوقوع فيه وهو النموذج العراقي. وإذا كان في هذا من يمكن أن تنفعه هذه الذكرى فهو بلا ريب نظام الأسد السوري ومن خلاله معارضيه. مع التركيز على النظام السوري أكثر من المعارضة لأن أوراق السلطة وسبل تحقيق الحلول بيدها أكثر مما هي بيد المعارضين. فلا مفر لنظام دمشق من التعاطي الايجابي مع معارضيه على نحو قد سبق شرحه لحلول توافقية تراعى فيها وحدة الوطن وصالح البلاد والعباد والقفز على الأنانية والذاتية والنرجسية الهدامة. مع التركيز على ظرفي الزمان والمكان. اليوم قبل غد وفي سورية لا خارجها. وعدم الاغترار بالأطراف الخارجية وأجنداتها فكما هو خطير أن تراهن المعارضة على أعداء سورية فمثله خطر عنت النظام وتصلبه أمام مطالب المعارضة وأخطر منهما أن يكون عربون حسن النية السورية تقديم القرابين للآلهة الصهيوصليبية،فإذا كان الخرطوم استفاد شيئا من اعتقال الترابي أو طرد بن لادن أو تسليم كارلوس. فهو ما ستستفيد منه دمشق في حال انقلبت على كوادر حماس وحزب الله وغيرهم من المعارضين والمقاومين الذين تؤويهم وتحميهم.

نقول هذا وقد بدأت بوادر ذلك تلوح في الأفق وقد شرعت كل من دمشق والرياض في تفعيل مقتضيات مصالحتهما. لأن الثمن الذي يرضي السعودية لن يكون إلا ما يرضي أمريكا وهو ليس أقل من إعادة النظر في علاقة سورية بإيران وحزب الله وحماس.

عبد الله الرافعي
4 مارس 2009

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version