من نكبات الدهر أن يتحول عيد الأضحى أو العيد الأكبر بتعبير العامة إلى مناسبة لا يتذكر فيها المسلمون التضحية الغالية لجدهم إسماعيل عليه السلام بقدر ما يتذكرون تضحية أخيهم البطل صدام حسين الذي أسلم الروح في موقف بطولي منقطع النظير وكأنه يضحي فداء للأمة ليغسل عنها أدرانا ألصقها بها حكامها الأذلاء. فكانت طريقة التضحية إسماعيلية وأهدافها تشبه إلى حد كبير ما يعتقده النصارى عن تضحية سيدنا المسيح الذي تحمل وزر ذنوب البشرية حسبما يعتقدون. لقد كانت مشاهد الإعدام أو بالأحرى الإغتيال الجبان الذي تعرض له أسد بابل فجر عيد الأضحى دليلا قاطعا على فظاعة وجرائمية الأمريكان وخسة وغدر فئران المنطقة السوداء بزعامة المملوك الأمريكي ونفاق وابتذال العمائم السوداء، التي جعل الله كيدها في نحرها وعمد سبحانه إلى ما عملوا من عمل فجعله هباء منثورا. ففيما حاولوا الإساءة إلى صدام صنعوا له من حيث لا يحتسبون نهاية بل حسن خاتمة يرجوها كل بطل وشهادة يطلبها كل مسلم.

من منا لا يتذكر ذلك البطل الملتحي الذي تقدم إلى عود المشنقة كأنه عريس يسره ما يدخل إليه. بل إن العريس كثيرا ما يوجس في نفسه خيفة من العجز ليلة الدخلة بينما كان صدام في قمة البطولة والشموخ والرضا لسان حاله:
أشنقوني فلست أخشى حبالا  *  واصلبوني فلست أخشى حديدا
وامتثل سافرا محياك جلادي  *  ولا تتلثم فلست حقودا
واقض يا موت في ما أنت قاض  *  أنا راض إن عاش شعبي سعيدا

ولئن كانت الكلاب رقصت بهجة في مشاهد عار على جثة الأسد تنكل بها، فإنّ ذلك كان يعكس ما ألحقه صدام بأعدائه ببطولته وتحديه للموت لأن تمثيلها بجسده الميت يعكس جلد روحه لتلك الضمائر الميتة التي أجمعت أمرها على ألا يبقى بين العرب من يرفع رأسه ويقول "لا" بملء الفم ويأبى الركوع للبيت الأبغض. قرروا أن يزيلوا النوتة النشاز في معزوفة الذل والانبطاح الشامل، ولكن ما حدث خلال مشاهد العار التي خرجت خلسة – بقصد أو بدونه – لتنغص على المعيدين عيدهم كانت في الواقع صفعة لأمريكا وعملائها. لأنها أنزلت الناس منازلهم وكشفت عن معادنهم ومنحت كل ذي حق حقه. فمن عاش بطلا صنديدا لا شك يموت صامدا شهيدا. ومن خان الدين والطين وأهان العرض والأرض لا شك يكون أحرص الناس على حياة الذل والهوان. إن مسلسل عار العرب والعجم في العراق أخزى من عار فرنسا في الجزائر الذي ضمن المؤرخ الفرنسي ميشال هابار مقتطفات منه في كتابه "عارنا في الجزائر". لأن العار في العراق ليس كمثله عار وسقوط بغداد ليلة المؤامرة الكبرى في 9 أبريل 2003 وما انجر عنه من إفرازات هذه الجريمة الإنسانية والأخلاقية والحضارية لا تبدو أمامه سقطة بغداد الأولى على يد هولاكو في القرون الوسطى شيئا مذكورا. ذلك أنّ العار في هذه المرة تجاوز كل عار تعرضت له أمة يعرب منذ وجدت على وجه اليابسة. لأن ضعفها اليوم كضعف دولة الخلافة العباسية أيام المستعصم وسلوكيات العروش وملوك الطوائف الحاكمة هو كسلوك ملوك طوائف الأندلس التي انهارت أمام فيرناندو وايزابيلا مع فارق بسيط انه يوم جبن وهان آخر حكام بني الأحمر عبد الله الخليع وجد في أمه عائشة الحرة ما لم يجده في قواده ومستشاريه فراحت تجلده وتؤنبه ببيت شعر ليس بين العرب اليوم من يقول مثله من ذكر أو أنثى. تلك الحرة لم تواس الخائن الخنيع ولم تهادنه أو تطيب خاطره تحت تأثير عاطفة الأمومة ولا زيّنت له سوء عمله كما يفعل الإعلام العربي اليوم. بل قالت له بيتا خالدا خلود هذه الأمة وخلود رسالتها :

إبك مثل النساء ملكا مضاعا  *  لم تحافظ عليه مثل الرجال

وعلى الأقل وعلى ما كان عليه ذلك الملك الخليع من ذل وهوان فقد ذرفت مقلتيه دموع ندم وحسرة لا تعرف إلى أعين حكامنا اليوم طريقا. وأمتهم تنكب في انهيار بوابتها الشرقية فعلاوة على الهجمة الإرهابية لهولاكو الغرب اللعين الألعن جورج بوش التي تشبه هجمة هولاكو خان ملك التتار فإن وجود ابن العلقمي الخائن تكرر في تاريخ العرب حينما حلت روحه النجسة في أجساد بعض المثقفين والإعلاميين والمثقفين المتصهينين المتأمركين المستغربين من حملة لواء القوادة السياسية. أما حكام العرب فحالهم وسلوكهم يذكر بحال والي عكا إبان الحروب الصليبية. إنّ التاريخ لا يعيد نفسه بل إنه كتاب طويت صفحاته وجف حبره ورفع القلم عنه وليس به أوراق بيضاء عذراء جديدة يمكن تدوين جديد جد فيها. إنها دولة الأيام التي تكرر في كل حقبة يوميات وسلوكيات وأحداث وشخصيات حقبة ما استولت على مساحة من تاريخ البشر. و هذا في الحقيقة ما نستبشر به خيرا نحن المستضعفين في الأرض. فإذا كان ابن العلقمي اللعين تكرر وجوده راهنا. وإذا كانت رقاب العباد وشؤون البلاد تسلط عليها ولاة عكا. وإذا كانت بغداد سقطت مرة ثانية فهذه كلها وإن كانت نكبات فإنّ نصرنا ودولة أيامنا عائدة لا محالة بعز عزيز أو بذل ذليل طال الزمن أو قصر. لأنّ دوام الحال من المحال وستلد أرحام الماجدات العربيات المسلمات خالد والقعقاع وصلاح الدين وقطز و عكرمة وسعد وبيبرس وغيرهم…

ما بقي فقط هو أن يغيّر المسلمون ما بأنفسهم حتى يغير الله ما بهم من ذل وهوان. وهذه الفصول التاريخية هي ما لا يعيه العرب ولا يسعون إليه بخلاف أعدائهم من عبدة الصليب وآل صهيون وحتى آل صفيون الذين اقتسموا بلاد وعباد العراق بينهم مناصفة فأجهزوا بعون وبتواطؤ حكام العرب السادة العبيد على الإجهاز على رمز البطولة والصمود العربي في شخص صدام ونظام صدام ودولة صدام. ذلك القائد الذي ذكرهم انتماؤه لبلاد الرافدين بما فعله ابني الرافدين من قبل "نبوخذ نصر" الذي دك قلاع اليهود في أرض الأنبياء وأعاد الكرة بعد زمن طويل الناصر صلاح الدين ابن مدينة تكريت مسقط رأس صدام حسين مع الصليبيين حينما هزم جبروت رتشارد قلب الأسد. وأعاد أسلمة وتعريب ما تفرنج وتصلب في قدس الأقداس، مدينة السماء والصلاة، مسرى محمد ومهد المسيح عليهما السلام.

وإذا كان ما حدث كله مثبط للعزائم فإنّ ما يشحذ الهمم حقا ويبشر بنصر آت لا محالة هو التشظي الإيجابي للمقاومة. فأمريكا وأذنابها من عرب وعجم خالوا أنّ نهاية صدام هي تكسير للشوكة والصمود وتحطيم للبوابة الشرقية للأمة وبقائها مشرعة بلا حارس. ولكنهم مخطئون لأن روح صدام وفكر صدام وشموخ صدام هو ما يحمله كل مقاتل آثر الموت في سبيل دحر العدو وتكسير سيف الظلم. وها قد أدرك الأمريكان لتوّهم مدى قوة ذلك الرجل الذي لو لم يعدم لأعيد بتوسل منهم إلى حكم بلاده لتخليصهم من الهزيمة و انتشالهم من المستنقع العراقي الذي أنساهم مستنقع الفيتنام. و لصنعوا معه ما صنعوا من قبل مع الملك سيهانوك الكمبودي.

واكتشف أخيرا عرب الجوار من دويلات البترودولار المجهرية أنهم أكلوا يوم أكل الثور الأسود. أو بمعنى أدق يوم أكل الأسد الجسور حامي الحمى الخليجي. واكتشفوا أن صدام لم يكن كبش ذلك العيد إنما كانوا هم كباش العيد على مائدة ضمت إيران الصفوية وإسرائيل الصهيونية وأمريكا الصليبية. فباتوا رهائنا بين بني صهيون وبني صفيون، يستجدون حماية الأمريكان بتملق كالجواري الحسان في طقوس تشبه عقيدة لها ركنان فقط. أولهما "حب إسرائيل من الإيمان" وثانيهما "الجنة تحت اقدام المارينز"!

وسيأتي على شيعة العراق أصحاب مظلومية البعث يوم يقيمون فيه لصدام كل عام أربعينية كأربعينية الحسين الذي صنعوا به ما صنعوا بالحسين. أما العرب فآن لهم أن ينشدوا قائلين لصدام رثاء وللمقاومة تهليلا:

لقد باعك الأعراب أوباش يعرب  *  فكافح الأعراب يا من تكافح
أجساد لئام في ثوب صلاح  *  وأشرف شيخ في قراهم طالح

عبد الله الرافعي
1 ديسمبر 2008

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version