الحمد لله الذي حذر من بعض مسالك أهل الشقاق والنفاق، فقال عز وجل "فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة، فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده، فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين" والصلاة والسلام على أشرف المرسلين الذي عدّ إتباع مناهج اليهود والنصارى والروم من أشراط الساعة "لتتبعن سنن الذين من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه، قالوا اليهود والنصارى؟ قال، فمن؟ وفي رواية "قيل يا رسول الله، كفارس والروم؟ قال: ومن الناس إلا أولئك" وعلى آله وصحبه أجمعين الذين كانوا رحماء بينهم أشداء على الكفار.

لقد شعر الكثير من الجزائريين الأحرار بالخزي والعار عندما أعلن رئيس فرنسا ساركوزي في سابقة إعلامية فريدة من نوعها في تاريخ الدبلوماسية والعلاقات بين الدول، من أن رئيس الجزائر بوتفليقة طلب منه الإعلان عن قراره بالمشاركة وبصفة شخصية في قمة باريس يوم 13 جويلية، بعد تردد دام لعدة أشهر، ظن الكثير من السذج أن الجزائر ستقاطع قمة باريس التي ستضع حجر الأساس لتأسيس الإتحاد المتوسطي والذي يضمّ دولة الإرهاب إسرائيل، وأن الطريقة السمجة المقززة التي تم بها الإعلان عن المشاركة جعلت من ساركوزي الذي يعاني من مشاكل داخلية وتراجع في الشعبية، ناطقا رسميا باسم الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية! فهل الدبلوماسية تصل بصانعها إلى هذا الدرك من الإسفاف والمس بمشاعر الشعب الجزائري، ألم يعترض الكثير من الجزائريين عندما زار رئيس فرنسا السابق شيراك، وألقى خطابا أمام رئيس الجزائر جاء فيه أن رئيس فرنسا سوف يكون خير محامي عن الجزائر في المحافل الدولية وكلنا يعلم أن المحامي لا يدافع إلا عن مظلوم مقهور، أو ضعيف فاقد الحجة، أو مجرم ضليع في الإجرام متابع قضائيا، ورغم ذلك لم يجد من يرد عليه قوله الأرعن هذا في جزائر العزة والكرامة!

ليكن في علم الرأي العام أننا لم نكن نتوقع مقاطعة الجزائر لقمة باريس فقد صرحنا في بيان بتاريخ 24 جوان 2008 أن "هناك عدة قرائن تدل على أن الجزائر سوف تشارك في القمة تحت مبررات شتى…" فها هو رئيس الجمهورية بعد تردد وتمنع دام لعدة أشهر يرتمي في أحضان ساركوزي تاركا له "شرف" الإعلان عن المشاركة، فهل يعقل سياسيا ودبلوماسيا وأخلاقيا أن يعلن عن تلك المشاركة خارج أرض الوطن وعلى هامش قمة الـ 8 الذين أفقروا العالم واستحوذوا على خيراته بشتى الوسائل والسبل في استعمار اقتصادي مكشوف لا يقل خطورة عن أي استعمار عسكري؟ وهل يعقل أن يعلن عن المشاركة بعد لقاء دام أقل من ساعة بين رئيس الجمهورية وساركوزي؟ ومن حق الشعب الجزائري والرأي العام أن يعرف ماذا دار في ذلك اللقاء القصير لينقلب التردد والتحفظ والشد والجذب إلى مسارعة بسرعة البرق لإعلان تلك المشاركة. ما الذي حدث بالضبط في ذلك اللقاء وتلك الجلسة؟ وهل نواب المجلس الوطني الشعبي ورئيس الحكومة والوزراء ورؤساء الأحزاب لاسيما التحالف الوطني على علم بما حدث في ذلك اللقاء المثير للاستغراب؟ والسؤال الملح الذي يطرح نفسه لماذا لم يخص رئيس الجمهورية رئيس الحكومة القديم الجديد أو ممثله الشخصي المعزول من رئاسة الحكومة دون سبق إنذار أو حتى وزير الخارجية كما تقتضي الأعراف الدبلوماسية "شرف" الإعلان عن المشاركة من خلال عقد مؤتمر صحفي على أرض الوطن يشرح فيها الأسباب والدواعي التي دفعت إلى المشاركة بعد طول تردد وتحفظ وما هو الجديد الذي جدّ ليعلن رئيس الجمهورية عن طريق ناطقه الرسمي ساركوزي المشاركة الشخصية في قمة باريس؟

والظاهر – والله أعلم – أن رئيس الجمهورية من طينة الحكام الذين لا يؤمنون لا بالبرلمان ونوابه ولا برئيس الحكومة ووزرائه ولا بالأحزاب وزعمائها ولا بالشعب وشرائحه وربما يرى أن الجميع مجرد خدم أو موظفين مهمتهم الوحيدة الطاعة والتنفيذ وكيل المديح، وهو غير مدين لأحد منهم بأي شيء وإنما هو مدين لجهة واحدة وهي التي جاءت به إلى سدة الحكم بعد تيه دام 20 سنة، والمتابع لطريقته في الحكم منذ 1999 يعلم أنه يكره المعارضة حتى من أقرب الناس إليه وكلنا يعلم ماذا فعل برئيس مجلس الأمة بومعزة وكيف أزاحه من منصبه وكيف خطط لإزاحة رئيس المجلس الوطني الشعبي كريم يونس لأنه ساند رئيس حملته الانتخابية بن فليس في 1999 وكيف عزل الفقيه الدستوري بوشعير وجاء بزميله القديم محمد بجاوي ثم بصديقه بوعلام بن سايح وكلنا يعلم كيف صنع برئيس الحكومة بن فليس الذي كان من أقرب الناس إليه عندما عبر عن طموحه المشروع في الترشح لرئاسيات 2004، وأين هو بين بيتور الاقتصادي المتخصص الذي أراد أن يستحوذ على صلاحياته الدستورية كرئيس حكومة مما دفعه إلى تقديم استقالته بكل شجاعة وحتى رئيس الحكومة بلخادم أنهيت مهامه وهو في غفلة من أمره، فهل بمثل هذه العقلية الانفرادية المزاجية المستبدة تساس الجزائر يا عباد الله؟ ونحن بصدد نقد السياسة وليس الشخص بحد ذاته.

والأعجب أنه ما إن أعلن الناطق الرسمي باسم الجمهورية الجزائرية الشعبية ساركوزي عن المشاركة الشخصية لرئيس الجمهورية وكال له بعض المديح المفتعل "والغواني يغرهن الثناء" كما يقول الشاعر، حتى سارعت بعض أبواق النظام المأجورة هنا وهناك لتبرير المشاركة والإعلاء من شأنها.

فهذا يزعم أن رسم السياسة الخارجية وإدارتها من اختصاص رئيس الجمهورية دستوريا متجاهلا أن هذا استغلال سيّئ لحق دستوري، فليس من حق رئيس الجمهورية مهما كان ألمعيا أن ينفرد بقرارات خطيرة على مستقبل البلاد متجاهلا سائر مؤسسات الدولة ودون مراعاة مشاعر الشعب. ولكن طبيعة النظام الفاسد أنه لا يعدم نطقاء باسمه وهل يعقل أن يزول الغموض الذي دام طويلا بمجرد جلسة مجاملة ودية قصيرة؟ وهل تؤسس العلاقات بين الدول بمثل هذا المنطق؟

وهناك من يزعم أن سياسة الكرسي الشاغر عديمة الجدوى لاسيما أن معظم حكام العرب الذين تطل بلادهم عن المتوسط سوف يشاركون، وكل واحد منهم سوف يأخذ حقه من الكعكة، فلماذا تتخلف الجزائر، والرد على هذا الزعم المتهافت من وجوه:

1) هؤلاء الحكام لا يمثلون شعوبهم حق التمثيل، وأغلبهم وصل إلى السلطة، إما بالانقلاب أو بالوراثة الملكية أو الجمهورية أو الاغتصاب والتزوير وقمع الحقوق السياسية والمدنية للشعوب.

2) هؤلاء الحكام يمثلون أنظمة نخرها الفساد بشتى ألوانه إلى النخاع وأنظمة فاسدة مثل هذه لا تملك إلا المشاركة الصورية وشتان بين المشاركة والشراكة الحقيقية، فهي تشارك لأخذ الصور وتبادل المجاملات والقبلات.

3) هؤلاء الحكام أضعف من أن يعلنوا المقاطعة لأن ذلك يوقعهم تحت ضغوط تزعزع كراسيهم، وتشهر في وجوههم ملفات الإجرام والفساد وتهريب الأموال إلى الخارج وعقد الصفقات المشبوهة من وراء شعوبهم والضعيف لا يملك أن يقول "لا".

4) هؤلاء الحكام فشلوا في إقامة تجمعات إقليمية فاعلة تحقق مطالب شعوبهم، فاتحاد المغرب العربي أكبر دليل على هذا الفشل، ففي الوقت الذي يمتنع ملك المغرب عن حضور قمة مصغرة في طرابلس نراه يسارع إلى قمة باريس ليفوز بحصته من الكعكة والرابط الوحيد بين بلدان المغرب العربي هو التنسيق الأمني للقضاء على الإرهاب المزعوم، فالحدود بين الجزائر والمغرب مغلقة ولكن التنسيق الأمني وتبادل المعلومات على قدم وساق.

5) هؤلاء الحكام يتجاهلون حقيقة مرة وهي أن شعوبهم لم تعد تثق في جميع المحافل الدولية والإقليمية وأنهم في واد والشعوب في واد آخر.

وهناك من يزعم أن مشاركة الجزائر في مؤتمر القمة بباريس يحقق مصلحة عليا للبلاد ونحن نقول أن مصطلح المصلحة العليا رغم أنه أكثر المصطلحات استخداما من طرف الحكام إلا أنه أكثر المصطلحات غموضا، فمن هي الجهة المخولة بتحديد المصلحة العليا للبلاد، أهي الرئيس بمفرده أم جماعات الضغط النافذة عسكريا واقتصاديا أم… أم… وما هو السبيل للتفريق بين المصلحة والمفسدة، فقد تعلمنا من التاريخ القديم والحديث أن هناك أمورا كان يعدها الحكام مصالح عليا فإذا هي مفاسد عظمى وما هو السبيل للتفريق بين مصلحة الشعوب ومصلحة النظام الذي يتخذ كل الوسائل للبقاء في الحكم ولو ببيع مصالح الشعوب في سوق النخاسة العالمية بثمن بخس وهل الأنظمة الاستبدادية القامعة لحقوق الناس مخولة لتحديد المصلحة العليا؟

وهناك من يزعم أن مشاركة الجزائر في قمة باريس لا ضرر فيها ولو بحضور إسرائيل، لأن إسرائيل مشاركة في مسار برشلونة الفاشل ومشاركة في الأمم المتحدة وحلف الناتو فما المانع من حضور قمة باريس بحضور إسرائيل وقبل هذا وبعد هذا أليست السلطة الفلسطينية ممثلة في عباس سوف تشارك في القمة وهل نحن ملكين أكثر من الملك؟، أليست سوريا وهي التي تعد من دول محور الشر والداعمة للإرهاب سوف تكون حاضرة، فلماذا تتخلف الجزائر، ونحن نرد على هذا الزعم البارد الذي لا يصدر إلا من منهزم نفسيا أو تابع ذليل لا يملك من أمره شيئا أن الجزائر بماضيها الثوري ورصيدها التاريخي وموقعها الجغرافي ومواردها المادية والبشرية الهائلة لا يمكن أن تكون مجرد كبش أو نعجة في قطيع يساق إلى المذبح وهو لا يدري والجلوس إلى طاولة فيها رئيس دولة إسرائيل المحتلة سبة ما بعدها سبة وأعجب العجب أن الأمين العام لمنظمة المجاهدين سعيد عبادو الذي كان في يوم ما من أقرب المقربين للعقيد شعباني يوافق على حضور الجزائر للقمة منسجما تماما مع طرح رئيس الحكومة أويحي، وكأن منظمة المجاهدين تابعة لحزب أويحي وليست منظمة وطنية مستقلة؟

أما الذي غاب صوته في هذه المعمعة هو وزير المجاهدين شريف عباس الذي تعرض للإهانة من ساركوزي وكوشنار ولم يقف رئيس الجمهورية مدافعا عنه، فأين هو شعار الجزائر العزة والكرامة؟

وهناك مزاعم أخرى نطقت بها أبواق النظام الفاسد، نضرب عنها صفحا الآن.

مما لا شك فيه، أن قمة باريس ترمي إلى تحقيق عدة غايات منها:

1) التطبيع مع إسرائيل بطريقة غير مباشرة بالنسبة للدول التي لا تربطها بإسرائيل معاهدات صلح.

2) التصدي للمقاومة المشروعة في فلسطين والمتمثلة في حماس والجهاد وكتائب الأقصى والجبهة الشعبية، تحت عنوان مكافحة الإرهاب الدولي.

3) إعطاء الشرعية الدولية لتوجهات السلطة الفلسطينية متجاهلين حقيقة ناصعة أن فلسطين ليست ملكا لعباس يتصرف فيها كيفما يشاء وأن فلسطين أمانة في أعناق جميع المسلمين في العالم، وما دامت لم تتحرر فسوف تظل ألوية الجهاد مرفوعة إلى أن يتحقق وعد الله عز وجل، وأن هذه الحقيقة الشرعية لن تستطيع لا أمريكا ولا إسرائيل ولا حكام العرب الأذلاء الخاضعين طمسها أو انتزاعها من صدور المسلمين في جميع أنحاء العالم مهما قتلوا أو سجنوا، أو ناوروا أو دجلوا سياسيا أو لبّسوا على شعوبهم.

4) إن الدول الأوروبية وفي مقدمتهم فرنسا تعمل على جعل حكام العرب مجرد كلاب حراسة على أمنها وابتزاز خيراتها وجعلها درعا في مواجهة الإرهاب المزعوم رغم أن الثورة الفرنسية التي سوف يحتفل بها في اليوم الموالي 14 جويلية، قامت على العنف والإرهاب في سبيل القضاء على الاستبداد والطغيان الداخلي وحلفاء الإستبداد، ألم يقل ميرابو "إلى السلاح، إلى السلاح واشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس"، ألم تعلن الثورة الفرنسية "إن مقاومة الظلم من أقدس واجبات الشعب" ألم يقل فيلسوف الثورة الفرنسية والذي أصبح كتابه العقد الاجتماعي إنجيل الثورة جان جاك روسو "إذا حاولت الحكومة أن تتصرف بطريقة استبدادية فقد توافرت للشعب عندئذ المبررات الشرعية لإسقاط هذه السلطة …" ولذلك القانون عندهم تصنعه الإرادة العامة الحرة الحقيقية أما عندنا فتصنعه عصابات المافيا السياسية والمالية المحتكرة للسلطة، وهذا ما جعل شقيقة معطوب الوناس تقول عن العدالة في الجزائر أنها غير مستقلة لأنها تخضع للسلطة السياسية، فغاية الدول الأوروبية تركيز على تبادل المعلومات الأمنية وبيع الأسلحة القديمة وتحويل بلادنا إلى مجرد أسواق لمنتجاتهم المختلفة وانتقاء المهاجرين الذين يحق لهم البقاء على الأراضي الأوروبية ورد البقية إلى بلدانهم الأصلية بمبررات شتى.

5) إن الدول الأوروبية تعمل على الإتحاد بينها ومحاربة الحركات الانفصالية بينما تشجع الحركات الانفصالية في الدول العربية، تارة باسم الفرعونية وتارة باسم حماية المسيحيين وتارة باسم حماية الأمازيغية وتوجه لهم دعوات الحضور في محافلهم الأوروبية وآخرها بروكسل وبعضهم سوف يحضر احتفالات 14 جويلية مع رؤساء الدول المختلفة، وتلك قمة الإهانة.

وقبل الختام نقول وهذا من حقنا وحق كل الشعب الجزائري، كيف اتخذ قرار المشاركة، هل هو قرار من رئيس الجمهورية بمفرده؟ أم هو قرار السلطة الفعلية؟ أم أن الجزائر وقعت تحت ضغط خارجي؟ أو كانت فريسة ابتزاز سياسي رهيب وإذا لم تحضر القمة فإن ذلك يعرضها للويل والثبور وعظائم الأمور؟ فلا بد من تجلية الأمر للرأي العام الجزائري.

وعلى حكام العرب المشاركين في القمة أن يتدبروا في قوله تعالى "ويوم يعض الظالم على يديه، يقول يليتني اتخذت مع الرسول سبيلا، يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا * لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا".

نائب رئيس الجبهة الإسلامية للإنقاذ
بن حاج علي
الجمعة: 8 رجب 1429 هـ
الموافق لـ: 11 جويلية 2008 م

المصدر: www.ali-benhadj.net

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version