بدأنا حديثنا في الجزء الأول من هذه السلسلة عن تلك الصورة الحقيقية القاتمة والمخزية عن وضع الشعب الجزائري، والتي يحاول النظام الحاكم إخفاءها بواسطة شعارات براقة وخطابات ساذجة وطرق احتيالية لا تنطل حتى على الحمقى والأغبياء، ولكن المستور لا يدوم وسيأتي اليوم الذي ينكشف فيه للعلن، غير أن أخوف ما نخافه هو ظهوره بعد فوات الأوان، وبعدما يتمكن الداء العضال من الجسد العليل…

نحاول مواصلة بسط أبجديات هذا الخراب الذي ينتظر بؤساء الجزائر، إن لم يتم تدارك الوضع مستعجلا وفي اقرب وقت ممكن، وإلا سيظل مؤشر البؤس في ارتفاع وواقع الشعب في تدهور، ومن دون أن يهتم بذلك أي أحد، لأن ما يظهر به المسؤولون في خرجات إعلامية معدة مسبقا أو مناسبات انتخابية مبرمجة ومتقنة في الإخراج، لا يتعد ما يقال وما يخطب به النفخ في الرماد، والكلام الفارغ الكاذب الذي يذهب أدراج الرياح لما يغادر هذا المسؤول منصته، ويعود لبيته في أرقى الأحياء وينعم بخيرات لا حد لها.

رجل المهمات القذرة أحمد اويحيى له أعمال ضخمة بالجزائر وفي كندا يشرف عليها شقيقه مراد العائد مؤخرا للبلاد قبل التغيير الحكومي، وذلك للإشراف على شركة حافلات النقل التي فيها أكثر من 200 حافلة بالعاصمة، ويقيم بفيلا فاخرة يملكها بحي راقي في ولاية تيبازة، هذا بغض النظر عن المشاريع الأخرى ببريطانيا التي لا يمكن الوصول لحيثياتها، بسبب حرصه الشديد على عدم تسرب ذلك إلى وسائل الإعلام ومنها إلى الشعب الجزائري البائس… لقد دعا أحمد أويحيى – لما عاد إلى مكتبه الذي غادره في إجازة مفتوحة كما ذكرنا من قبل – إلى ضرورة نسيان ما سماها "وهم البحبوحة المالية" التي تملكها الجزائر، وذلك بسبب أن مصاريف ونفقات الدولة أكثر من المداخيل، فترى ما هي هذه النفقات التي رهنت أكثر من 140 مليار دولار والمرشحة للارتفاع الخيالي مع الارتفاع الأسطوري المتواصل لأسعار النفط؟

كيف كان حال الجزائر في التسعينيات لما كان سعر برميل النفط متدنيا واليوم هو على أعتاب 150 دولارا؟ هل تستفيد الطبقات الشعبية المحرومة من هذه الثروة الطائلة؟

هل يمكن تصديق رئيس الحكومة وفي الوقت نفسه نكذب وزير الطاقة شكيب خليل – له جنسية أمريكية وبطاقة ائتمان في الولايات المتحدة- الذي دعا إلى ضرورة إيجاد صناديق سيادية لاحتواء الطفرة والتخمة المالية الكبيرة التي ما عاد في استطاعة 66 صندوق الحالية احتواءها؟

أين "نواب الشعب" الذين من المفروض لهم صلاحية مراقبة المال العام؟

هل للبرلمان معطيات حول الثروة الجزائرية الهائلة وطرق استعمالها وتبذيرها وفق أساليب غامضة، توحي بلا أدنى شك أو تردد أنها محل نهب منظم، وتحت إشراف هيئات عليا تدعي حفاظها وحرصها على مستقبل الأجيال القادمة؟

لماذا لا تكشف الحكومة للرأي العام مداخيل الغاز غلى غرار مداخيل النفط المقدرة بالملايير؟ أسئلة كثيرة ومهمة سنجيب عليها في محطاتنا المختلفة عبر هذه الحلقات، ونحن نغوص في أعماق هذه المأساة الجزائرية.

نعم… أموالنا وخيراتنا تذهب بين نهب علني وسري وصفقات مشبوهة تقدر بالملايير وتهريب للأموال ووضعها في بنوك عالمية تحت أسماء مستعارة، أغلبية هذه الأرصدة الخيالية موجودة في بنك كريدي ليوني بسويسرا، أو من خلال إمتلاك عقارات في كبرى عواصم العالم، وإقامة مصانع ضخمة في أرقى الأحياء العالمية…

لقد ضربت الفضائح قطاع البنوك في الجزائر، وكشفت بالفعل أنها كانت عملية منظمة تقف وراءها هذه الجهات التي هربت الأموال ثم أعادتها في إطار ما يعرف بالتبييض ولكن وفق طريقة خبيثة وماكرة، فالرشوة والميوعة المصرفية والقروض الخيالية من دون ضمانات أو بضمانات مزورة وملفقة، واختلاسات تضرب العمق المصرفي غالبا ما يتم التضحية قضائيا برأس صغيرة للغاية لم تتمكن إلا من الفتات، ويفرج عنها بعد نهاية الضجة الإعلامية إما بعارض صحي أو بالإفراج المشروط أو بالموت الغامض في الزنازين…

هذا الفساد نراه نحن وغيرنا يضرب القطاع البنكي، الذي هو صمام الأمان للثروة عند الدول التي تحترم نفسها، فإن تم التحكم فيه وفق قانون صارم ومسؤولية شرعية وأمانة خالصة ومراقبة شعبية واضحة، فإن ذلك يحقق حماية المال العام من التسيب والنهب والسرقة والاختلاس، أما إن كان محل ما ذكرنا من رشوة وميوعة وما إلى ذلك من أمراض مدمرة للاقتصاد، فإنه يجعل البلاد مهددة بالفقر والشعب مطارد بالمجاعة والبؤس القاتل، ربما هو الذي دفع بمنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية إلى جعل الجزائر ضمن قائمة الدول المهددة بالجوع وارتفاع أسعار الغذاء، وذلك في تقرير صدر في 29/05/2008 وبالتعاون مع منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة "فاو"… نذكر هنا على سبيل المثال لا الحصر بعض تلك الفضائح التي هبت بأعاصيرها لنسف مستقبل شباب الجزائر، الذي صار إما ينتحر بالزوارق في عمق المتوسط أو بأحزمة ناسفة أو بحبل مثبت في سقف بيته القصديري، ونترك للقارئ معرفة حجم الأرقام الهائلة والمروعة التي كانت ضحية هذا الاحتيال الممنهج والمنظم والرسمي…

نجد فضيحة سميت من طرف أحمد أويحيى وتحت قبة البرلمان بـ "فضيحة القرن" والمتهم الرئيسي فيها عبدالمومن خليفة الذي كان مجرد صيدلي، وتحول في ظرف قياسي مشبوه إلى رجل مهم يستقبله رئيس الجمهورية في المناسبات الرسمية والتاريخية، ويتسابق الوزراء الذين بينهم ممن لا يزالون في الحكومة الحالية لأخذ صور تذكارية معه، أو لنيل تذاكر سفر مجانية لأبنائهم وبناتهم وعشيقاتهم على متن شركة الطيران التي صنعت الاستثناء في الجزائر، وهذا الذي رأيته بنفسي لما كرمته شبيبة القبائل، وكم تفانى وزير التربية بوبكر بن بوزيد وغيره في التقرب منه والجلوس بمحاذاته؟!

لقد خلف عبدالمومن خليفة ثغرة ضخمة قدرت بـ 2.3 بليون دولار (320 مليون أورو)، واليوم تستميت الجزائر في تسلمه من قبل السلطات البريطانية، وهكذا بعدما حمل المسؤولية الكاملة عن ضياع الملايير وبفضل وزراء ومسؤولين بدأ من وزير الدولة بوقرة سلطاني ومرورا على عبدالمجيد سيدي السعيد زعيم ما يسمى بهتانا وزورا "نقابة العمال"، وانتهاء عند السعيد بوتفليقة شقيق الرئيس الجزائري ومستشاره الشخصي والرجل القوي في قصر المرادية، والغريب أن الخليفة المسجون حاليا منذ مارس 2007 بلندن لا يملك شيئا من العقارات التي تتناسب والثروة المهربة، نذكر ما يروج عن "قصر كان" بفرنسا، أو الأموال المودعة بالبنوك الأجنبية والمتمثلة في بعض المبالغ البسيطة، فترى أين ذهبت هذه الأرقام الخيالية التي هي ميزانية دول مع بعضها البعض في إفريقيا؟ هل الإفلاس الاحتيالي المفاجئ كان بيد من الخليفة أم بيد أخرى من طرف جنرالات الاستيراد والتصدير؟… ليس موضوعنا هذه الفضيحة التي فيها الكثير من نقاط الظل التي تحتاج لوقفات ووقفات.
أيضا نذكر مثلا فضيحة البنك الصناعي الجزائري وزعيمه احمد خروبي الذي كان مجرد بائع للحلوى، وخلفت قضيته ثغرة مالية قدرت بـ 11.6 مليار أي بما يعادل 1.32 مليون أورو، وينعم الآن الخروبي على الساحل الإسباني في قصره العاجي، وتحت أعين ضباط مخابرات الجزائر يسهرون على أمنه وسلامته…

كذلك الشركة الجزائرية للبنك ومديره عمر دشمي، والمتواجد حاليا بسجن الحراش وفي غرفة مكيفة بالعيادة وتحت رعاية استثنائية، أقل صورها انه يستفيد من زيارات خاصة سواء في عهد المدير حسين بومعيزة المسجون بتهم الفساد أو المدير عزوز الجيلالي المتوفى بسكتة قلبية بسبب ضغوطات عليا بعد تسريب تقرير حقوقي عن التعذيب… وبحوزتنا وثيقة حصوله عن قطعة ارض بحيدرة مساحتها 648 متر مربع وبثمن 114.972.00 دج، ومن الصدف الغريبة انه ثالث شخص في القائمة، الأول فيها هو الجنرال توفيق "محمد مدين" مدير المخابرات وأحد مهندسي انقلاب 1992 وصانع الحرب الأهلية الدموية، وقد تحصل هذا الأخير على مساحة 980 متر مربع وبثمن 153.069.20 دج، مع العلم أن ثمنها الحقيقي بمئات الأضعاف… لقد تسببت الشركة التي يديرها عمر دشمي في فضائح مالية تقدر بالملايير.

طبعا من دون أن ننسى حكاية الصندوق الجزائري الكويتي الذي خلف ثغرة قدرت بـ 30 مليار دولار، الخ.

الفضائح كثيرة جدا ولا يمكن حصرها، وما ذكرنا هي مجرد أمثلة بسيطة على سبيل الاستدلال ليس إلا، ففي كل القطاعات نسجل التبذير البشع للمال العام، فقد كانت حفلات بني مزغنة مثلا فرصة أخرى مواتية، تحت رعاية الوزير الحالي الشريف رحماني الذي كان من قبل وزيرا فوق العادة مكلفا بما كان يعرف بـ "محافظة الجزائر الكبرى"، والذي وقع تحت طائلة نقد لاذع من طرف الرئيس بوتفليقة شخصيا على الهواء في قناة فضائية لبنانية، وذلك بسبب الملايير التي بذرت على مظاهر فارغة لا تفيد شيئا، لو استغلت في مشاريع تنموية لعادت بالفوائد الجمة على اقتصاد البلاد وحتى بمناصب عمل تقدر بالآلاف، والعجب أن بوتفليقة رقاه إلى رتبة وزير كامل الصلاحيات، مباشرة بعد ذلك الهجوم الذي جعل الصحافة حينها تتنبأ بإقالته في أقل تقدير، وإن كانت جهات أخرى احتملت محاسبته ومحاكمته!

نجد أيضا ما عرف خلال السنة الماضية 2007 وعلى مدار عام كامل تحت شعار "الجزائر عاصمة الثقافة العربية"، والتي شهدت مختلف الفضائح التي لا تزال محل الستر من طرف جهات نافذة التي استفادت من الريع المستباح، فحسب المحافظ السابق للتظاهرة الأمين بشيشي أن الغلاف المالي هو 16 مليار دينار، ومن نماذج التبذير نسجل مثلا: أن العرض الخاص بالفنان التشكيلي "صلاح مالك" وصل إلى 13 مليار و899 مليون سنتيم، بالرغم من أنه تم اعتماد جدول خاص بتكاليف العروض والذي يحدد سعر 1.5 مليار سنتيم لكل عرض، وحقوق الفنان تصل إلى 40 مليون دينار، أيضا نجد تكاليف اقتناء السيارات الخاصة بالتظاهرة وصلت حد 39 مليار سنتيم، وتوجد بعض الأعمال الفنية أوكلت إلى معهد العالم العربي بباريس وبالعملة الصعبة، وتم تسجيل تكاليف العروض 490 مليار… فهذه الميزانية الضخمة لو خصصت في إطار التنمية والاستثمار لحققت ما لا يمكن وصفه، أو أنها استغلت في إطار بناء مؤسسات صناعية ومشاريع اقتصادية لامتصاص البطالة، التي قدرتها هيئة أوكسفورد بيزنس بأنها 30% وتخص فئة الشباب عكس ما تروج له الجهات الرسمية أنها تراجعت إلى 11%، أو حتى خصصت أجزاء منها كمعونات مالية للطبقات البائسة والمحرومة في الجزائر، وإن كان وزير التضامن ولد عباس قدم رقم 89 مليار دينار قد صرفت على الطبقات المحرومة ما بين 2000-2006، ولكن طالتها اختلاسات قدرت بالملايير حسب ما تناقلته الصحافة الجزائرية في 12/02/2008… ترى هل سيحاسب هؤلاء على تبذيرهم للمال العام وعلى سوء تسييرهم؟ هل نستيقظ يوما على خبر إحالة خليدة مسعودي على القضاء أم أنها ستظل وزيرة لا يجرؤ أي كان عليها ولو بالإقالة؟

نظامنا يقيم مثل هذه المهرجانات لأنها صارت فرصا ثمينة لنهب المال العام، هذا بغض النظر عن الملايير التي تدفع لمطربين وراقصات، حيث تقول بعض المصادر أن أجور المطربين تتراوح ما بين 120 ألف و60 ألف دولار للحفلة الواحدة، هذا بغض النظر عن الامتيازات الأخرى من النقل والإيواء والحماية والتكريم والهدايا، فمثلا أجر كاظم الساهر 30 ألف دولار، وجورج وسوف 60 ألف دولار، مصطفى قمر 30 ألف دولار، أصالة نصري 30 ألف دولار… الخ، وآخرهم تامر حسني الذي ذهبت مصادر مختلفة إلى أن حفله الأخير في ابريل 2008 بالجزائر، كلف ما يعادل 23 مليون دولار (مليار ونصف دينار جزائري)، فترى هل من الممكن أن ترقص البطن الجائعة؟ وما فائدة هذا المجون والشعب يقتات من المزابل والقمامة؟… طبعا ذكرني ذلك بالحفلات التي أقامها حمراوي حبيب شوقي لما كان وزيرا للثقافة في عز الحرب الأهلية، وقد كلفت بدورها خزينة الجزائر الفارغة الملايير من الدولارات…

حتى تلك الأموال التي خصصت لما يسمى بـ "الإنعاش الاقتصادي" التي قدرت بـ 60 مليار دولار ما بين 2004-2009، وكذلك دعم النمو… الخ، قد طالها اللصوص والمفسدون ونهبت بصفة علنية وبطرق ملتوية، ولم يتحقق من هذا "الإنعاش" سوى نعش نراه بعيوننا لوطننا المحتل ولشعبنا البائس، فترى أين ذهبت هذه الأموال؟ ولماذا لا يتم ترشيدها ومحاسبة المسؤولين المحليين عليها؟ ولماذا لا توجد مراقبة ميدانية للإنجازات ومن طرف مختصين حتى يعرفوا مدى التناسب بين الإنجاز والمصاريف الخيالية التي استهلكت؟ هل هذه هي النفقات التي يتحدث عنها أحمد أويحيى تجبر الجزائريين على نسيان "وهم البحبوحة المالية" المقدرة بأكثر من 140 مليار دولار؟

سنواصل في الحلقات القادمة حديثنا ونعطي نماذجا دقيقة وبلغة الأرقام عن هذا الخراب المتجلي في فساد، تحب وتعشق "السلطة" أن تتباهى به تحت عناوين مثيرة ومختلفة، تبدأ من إنجازات الرئيس وتنتهي عند شعار "ما أدراك ما الجزائر"، وهي بالفعل كذلك ما دام قد رفعها حمراوي حبيب شوقي الذي سنتحدث عما يفعله بمال شعبنا الجائع، سواء في مهرجانات "الفنك الذهبي" أو "الفيلم العربي" بوهران، أو حتى تحمله لرحلة علاج فلة عبابسة من "عرق النسا" على حساب التلفزيون الرسمي، بالرغم من أن لها وافر الحظ من ريع البلاد بفضل الجنرال محمد بتشين وغيره من عشاقها الكبار والنافذين…

يتبع

أنور مالك
9 جويلية 2008

1 2 3

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version