دوما أحب التحدث عن الواقع بعيدا عن الشعارات المزركشة والرنانة، وبعيدا عن تزييف الحقائق لحساب أمور يراد منها غالبا الاستمرار في التعفن والتخلف والبلادة والمستقبل المجهول، لأن القفز على الوضع الذي نعيشه نحو أفق غالبا ما يكون عبارة عن أحلام تدغدغ المستضعفين والمغلوب على أمرهم، بل هو ديدن المنهزمين بلا شك، لا زيد الأمر إلا تعفنا وسقوطا في الحضيض والسفاسف… قد حاول البعض أن يجعلني ممن يتمسك بالفلسفة الوجودية وآخر تساءل عن كيفية إيماني بالله عز وجل وأنا لا أراه، وذاك تحامل علي بحجة أنني أروج للهزيمة والاستسلام للأمر الواقع والانبطاح يرشح من خطابي، وبين هذا وذاك جاء آخر وراح يتهمني بخدمة أجندة أجنبية، لأننا نكشف عيوب أوطاننا للعالم، وكأن هذا العالم لا يعرف حقيقة ما يجري في الكواليس السياسية والإعلامية والثقافية وحتى الدينية منها، بل أنني تفاجأت مرات متعددة بأوروبيين جمعني الحديث بهم وهم يكشفون لي أشياء تحدث في غرف نوم زعمائنا وحماماتهم الشخصية التي لا تصل إليها إلا زوجاتهم أو عشيقاتهم، وآخرون تحدثوا لنا عن سياسات ستحدث مستقبلا ووقفنا عليها، حتى صرنا نحتار في هوية هؤلاء، مرة نشك أنهم عملاء لأجهزة استخباراتية قوية، وأخرى – برغم من يقيننا انه كذب المنجمون ولو صدقوا – أنهم محترفون في قراءة الكف والتنبؤ بظهر الغيب.

إن معالجة المرض تحتاج إلى التشخيص الصحيح والدقيق، فلا يمكن أن تعالج السرطان وأنت تتعامل معه بأنه حمى الزكام، ولا يمكن أن تجتث ورما خطيرا وأنت تتعامل معه كوشم زين زند العليل أو أنه حك عابر، فالأمر كذلك يتعلق بواقعنا العربي والإسلامي الذي وجب أن نشخص العلل الكثيرة والمتعددة قبل أن نتحدث عن الأدوية، فإن أردنا أن نعالج قضايا الفقر والحرقة والإرهاب والعنف والانتحار يجب أن نعرف الأسباب الحقيقية التي أوصلت شبابنا إلى هذا الوضع، وقبل أن نحرر أوطاننا من الاحتلال الأجنبي يجب أن نعرف الكيفية والعلل وجذور القابلية التي أوصلتنا إلى هذا الحال المزري، وصرنا الشعوب الوحيدة التي تعيش الظاهرة الاستعمارية من دون الشعوب والملل الأخرى التي تقاسمنا الحياة من على هذا الكوكب، وقبل أن نحمل المسؤولية للأنظمة التي ترفس صدورنا وتسرق رزقنا وحريتنا وتضطهد أبناءنا وتقتل علماءنا، يجب أن نعرف السبل التي أوصلت هؤلاء اللصوص والمرتزقة إلى سدة الحكم، وهل الخلل يكمن فيهم لأنهم تسللوا بطرق غير شرعية إلى القيادة أم فينا نحن لما تحولنا إلى ماعز أو نعاج كل من هب ودب يرعانا ويسرح بنا في التلال والهضبات والحقول الجرداء.

نعود إلى الموضوع الذي نحن بصدد التحدث فيه، فقد قلنا أن واقعنا مزري للغاية، فلا نحن في مستوى تطلعات شعوبنا ولا في مستوى يصل بنا إل درجة تحرير أراضينا من الغزاة والمحتلين، ولكن أليس من العيب بمكان أن تظل تحكمنا عقليات عفا عنها الزمن وغالبا ما تزيدنا إلا تخلفا وسقوطا في بئر الهزيمة والتخلف الذي لا قرار له، فحكامنا استطاعوا وفي غفلة من شعوبنا التسويق لبضاعات سياسية مزجاة بلا شك، ولا يمكن أن تصلح لا للعادة ولا للعبادة لو أحكمنا النظر فيها بعين الحصافة وحللناها بلسان الفصاحة وروجنا لها بنبل الصحافة وليس بالحمق والغباء والسخافة… فعندما نتحدث نحن عن الفساد والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان والظلم والاضطهاد الممارس على شعوبنا، تجد هذه الأنظمة وبواسطة أبواقها تروج بأننا عملاء للأجانب وأننا نتلقى الدعم من طرف جهات مشبوهة، بل أكثر من ذلك أننا نعيش ونرتع في قصور فاخرة ونتلقى أجورا خيالية، وكأننا امتطينا دبابات وهممنا بغزو بلادنا، والحمد لله أننا لسنا من طينة المالكي أو الجلبي أو… ولن نكون من طينة أولئك الذين يتغنون بالغرب على حساب حضارتهم وقيمهم لأجل ضمان العيش الرغيد في كنف هؤلاء وان كانوا يصفونهم دوما بالمرتزقة، وأمر آخر أن أي فشل أو عنف أو فساد كبير يحدث داخل البلاد العربية فالأنظمة هي التي تتحمل المسؤولية بلا شك وبلا أدنى ارتياب، ولكن للأسف تجدهم يجعلون ذلك من المؤامرات الأجنبية التي تستهدف أوطاننا وأن غزاة الأمس هم من يقفون وراء كل ما يحدث لشعوبنا، لأن علقم الهزيمة التي تلقوه من طرف ثورانا بالأمس لم يتركهم ينامون الليل للانتقام من الحرية التي ننعم بها، وهكذا يخرج النظام المتورط والمتهم الذي وجب أن يحاكم من هذه الجريمة النكراء كأنه شعرة من العجين، ويزداد أسفي أكثر عندما يخرج الفقراء والعراة والحفاة إلى الأرصفة يصفقون لهم، ولا أحد نظر لحاله ومستوى عيشه في الأكواخ والبيوت القصديرية، ويقارنه مع هؤلاء الذين يمتطون السيارات الفاخرة ويسكنون القصور.

الانتفاضة بسبب الجوع والفقر وقلة التغذية وندرة الخبز والعجائن والزيوت والسكر… في اي بلاد عربية، هي بسبب فشل الحكومات وفسادها، وليس كما يحاول الأبواق دوما تفسيرها على أن جهات مشبوهة وأخرى ملثمة تقف وراء هذه الفوضى والفتنة وما إلى ذلك من المصطلحات التي يجيدونها، وعندما تتحرك المنظمات الحقوقية لرفع الظلم عن مساجين يتعرضون للتنكيل أو تكشف حقائق مثيرة عما يجري بسجوننا ومخافر الأمن عندنا، فيلجأ النظام إلى تجنيد جهات تريد تحويل ذلك التحرك على أنه مؤامرة تستهدف استقلال الوطن وسيادته وتقويض أركان بنيانه، وكأنه بالفعل بقي للشعوب شيء اسمه الوطن.

وهنا وجب أن نعطي نموذجا مما يحدث في كثير من أقطارنا العربية، حتى تكون الحقائق أقرب للفهم والوضوح ونبتعد عن التحاليل الجاهزة التي ألفناها من قبل، واستطاعت الأنظمة بأبواقها الإعلامية والجمعوية والحزبية أن ترسخها في العقول، على أساس معطيات أخرى تبتعد عن الحقيقة بعد السماء عن الأرض.

فتنة بريان وتسويق الغباء

ففي الجزائر مثلا سجلنا مؤخرا فتنة بريان وأحرقت البيوت وقتل وجرح الناس، ليخرج علينا متباهيا رئيس ما يسمى بالحكومة في الجزائر ويزعم أن القضية طويت نهائيا، ولكن بعد اقل من شهرين عادت المواجهات الدامية من جديد، وسقط ضحايا آخرون، ليتعالى صوت التحذير من الفتنة الدينية والمذهبية في المنطقة، وأصوات أخرى واقعية ذهبت إلى أن ما حدث كان نتيجة التردي الاجتماعي والفقر والتهميش والبطالة والجوع والمرض الذي يعانيه أبناء المنطقة على غرار باقي الجزائر، وهي الحقيقة التي لا يختلف فيها عاقلان، ولكن أزلام الطغمة الحاكمة يتهربون منها لأنها تدينهم بإطلاق.

الأمر نفسه أشتعل في الشلف صارت بسببه منطقة منكوبة غير رسمية، وتجلى أيضا في العاصمة ووهران وتبسة… الخ، حتى وان كانت كرة القدم هي التي فتحت شهية الشباب المهمش في وهران والحراش إلى إعلان الحرب والحرق لمؤسسات الدولة المختلفة، وكما نلاحظ أن البنوك هي المتضررة مما يطرح علامات استفهام مختلفة ومشبوهة، بل أن في وهران هب الشباب بحرق الباهية قبل حتى انطلاق المقابلة التي كانت فتيلا آخرا في تصعيد غضب الثائرين، بل أمر آخر أن موضوع الملثمين الذي صار يتخذ من أنه دليل على المؤامرة الأجنبية هو بلا شك غباء يراد منه استغباء الناس، فالشاب الذي يحرق مؤسسات عمومية ويسرق بنوك ويستولي على مجوهرات وأشياء ثمينة، ويسطو على المحلات ويقوم بتخريبها، لا أعتقد أنه لا يكون ملثما حتى لا يقع فريسة المتابعة القضائية التي هي الحل الوحيد والسحري الذي تبتدع فيه الحكومة دوما.

وزير ما يسمى ظلما الداخلية استبعد الفقر والوضع الاجتماعي المتردي وحلب في إناءه الكثيرون، وذهب وهو ينصب والي الشلف إلى اتهام "أطراف أجنبية" تريد أن تضرب استقرار البلد، وكشف أن مصالحه اعتقلت أربعة أشخاص وبحوزتهم ستة أجهزة كمبيوتر بها مناشير تحريضية تدعو إلى ما سماه "التطهير العرقي" في المنطقة، وطبعا كعادته من دون أن يسمي أي جهة بعينها ولا أعطى معنا لهذا التطهير الذي يتبجح به بلا أدنى حياء يذكر، وكأن الجزائر هي كمبوديا أو البلقان… وبقي كلامه جاهزا وعاما لا يفيد شيئا، وهنا من حق كل العالم أن يقف وقفة واحدة لأن الجميع متهما في نظر هذا الزرهوني، الذي من المفروض أن يودع مصحة عقلية – ولو كانت في باريس كما يحب – للعلاج بدل أن يتولى داخلية بلد مثل الجزائر.

أيضا حل أسطوري جديد لما هب البرلمان الأعرج الأعوج الذي لا شرعية له إلى إيفاد لجنة تحقيق إلى المنطقة، بدل أن يحاسب الحكومة الفاشلة والفاشية التي يقودها حزب جبهة التحرير الوطني الذي خرب البلاد على مدار حكمه منذ الاستقلال، وبدل من ذلك وهو عمل البرلمانات التي تحترم نفسها نزل هؤلاء إلى بريان في ما يسمى بلجنة تحقيق والتي لن تختلف عن اللجان التي شكلت من قبل، وكل قضية تشكل لها لجنة مصيرها سلات المهملات بلا شك، وطبعا سيقضون أياما في ضيافة الولاية وتملأ بطونهم بالخرفان والولائم والصفقات وربما الرشاوى لتجاوز الاتهام لجهات نافذة في المنطقة.

أيضا نجد قضية ما عرف بالتنصير والتي أسبابها الحقيقية اجتماعية وان استغل البروتستانت هذا الوضع بلا شك للترويج لدينهم، وليس جديدا هذا الأمر عليهم عبر التاريخ والحملات الصليبية ليست ببعيدة عن الخاطر، ولكن ان تفسر على أنها مؤامرة تستهدف الأمة فقط من دون النظر الحقيقي في أسبابها، هو عين الغباء والبلادة التي تتصف بها أنظمتنا.

السلطة الجزائرية هبت لصناعة ترسانة من القوانين التي لن تفيد شيئا بل ترهن البلد تحت رحمة قوى عظمى تتخذ من بنود قوانين حماية الأقليات شعار لها، واعتقد أن هؤلاء الذين يعالجون الظاهرة بهذه الطريقة يعرفون جيدا تداعياتها دوليا، فالشباب الذي رمى نفسه في البحر حراقا وهاربا من الوطن الذي يغتالهم، لا أعتقد انه سيتأخر لحظة في دخول أي دين من أجل الضفة الأخرى التي يراها جنة تنقذه من جحيم بلده، فضلا من كل ذلك أن السلطات لجأت للقضاء حتى ترعب المتنصرين لأنهم ارتدوا عن الإسلام، ولو تعلق الأمر بالردة لوجدنا أن حكام البلد كلهم بلا استثناء يجوز فيهم حكم الردة وبناء على نصوص صريحة وواضحة، لذلك الأفضل لهم الصمت وترك موضوع الإسلام في يد أهله وليس بأيديهم التي لطخت بدم الأبرياء والخمر والمال الحرام والأعراض، بل أن ما يقومون به يجعل الشباب يقدم بلهفة على أديان أخرى نكاية فيهم وفي كل شيء يدافعون عنه، وبين هذا وذاك أن الممنوع مرغوب فيه وهؤلاء يشجعون التنصير بطريقة هم على دراية بأهدافها.

طبعا ظلت الجزائر تسوق للغباء والأسف يصدقه الشعب أو ربما يتجاوزه وهو أقرب ولكن ما باليد حيلة، فالدولة تبذر الملايير من الدولارات على مصالح المخابرات والدرك والشرطة وكان بوسع تلك الملايير أن تفتح مؤسسات وشركات وتحل الأزمة الأمنية التي يساهم الوضع الاجتماعي في إشعال فتيلها، ولكن ماذا عسانا أن نفعل مع رئيسها الذي استورد طائرة بقيمة 300 مليون دولار لأجل تنقلاته التي لم تقدم شيئا ولا جلبت مستثمرا واحدا يمكن أن نراها ناجحة، وطبعا هذا المبلغ الخرافي يحل مشاكل البطالة والفقر في الجزائر، الغريب المخزي انهم يسوقون لإنجازات الجزائر العظيمة في زمن الفساد والغباء والاستخفاف بالشعب… إنها عين العبثية التي ستحول الجزائر إلى جزر أو ركام رماد!

نعم… هناك شيء آخر عن تلك التي قيل أنها محاولة اغتيال عبدالعزيز بوتفليقة في باتنة سوق لها الرئيس نفسه على أن أعداء المصالحة في الخارج هم من يقفون وراء العملية، وطبعا اتهام فضفاض من دون الإشارة إلى أي جهة، وأعتقد أن رئيس دولة ويتبعه وزير داخليته في الاتهام ومن دون أن يحدد جهة واحدة يستطيع هذا الشعب أن يحذر منها، هو في حد ذاته تسويق للاستغباء المعلن والرسمي وتحت رعاية فخامة الرئيس بوتفليقة، بل أراه نوع من استمناء الحلول التي تخرب أكثر مما تصلح.

بعدها جاءت فتنة بريان – قد اشرنا إليها من قبل – والتي سوق من خلالها أن جهات ما مجهولة تريد الفتنة في البلد، وكأن الشباب البطال الذي لا يجد ما يسد به رمقه، قد يصدق مثل هذا التسويق الأحمق الذي يمارسه النظام الجزائري بعدما صارت بضاعته مزجاة ولم يعد له شيء يمكن أن يقدمه بسبب غباء هؤلاء الذين يتولون أمرها، إلى جانب فسادهم وتورطهم في جرائم أخلاقية واجتماعية وسياسية ودينية… فالأمة التي لا تجد لدى شبانها حلم بأن يكون يوما ما رئيسا للبلاد أو وزير فتأكد أن مصيرها الزوال، وشباب بلادنا الذين يعرفون تمام المعرفة أنه لا مكان لهم في دنيا بلد يتبارى عليها مفسدون وجنرالات لا هم لهم إلا بطونهم المنتفخة وفروجهم وحتى فروج بناتهم وأبنائهم، فترى كيف يكون الحال لما يفقد أغلب الناس الأمل حتى في الحياة؟

هل من الممكن أن نصدق حكومة تعالج المشاكل بطريقة فجة وتافهة وحمقاء؟ فان كانت كرة القدم أحرقت وهران فالمسؤولية تتحملها السياسة الرياضية في البلاد التي هي من سياسة الحكومة وبرنامج الرئيس بوتفليقة الذي يطمح لعهدة ثالثة لإتمام برامج الحرق والفساد، وقبل كل ذلك أن الضحية هي المرافق العمومية والشعب الغلبان، وأظن الحكومة بل أجزم لا يهمها سوى المناطق الآمنة الخضراء من نادي الصنوبر وموريتي إلى حيدرة وسطوالي، أما البقية فلتذهب للجحيم لأنها سيتم ترميمها من عرق الناس وشقائهم، وربما الاقتصاص من رواتبهم وغلاء الأسعار والضرائب التي تلهب حياة الجزائريين.

شهادات عمالة بالتزوير والمجان

الغريب انني في بعض الأحيان أتفاجأ بتعاليق كثيرة تكتب على ما أنشر في مواقع مختلفة، بل حتى مقالات ناقدة لتوجهاتنا ظلت تصنفنا في دائرة العمالة للأجنبي، وأكثر من ذلك أن عقدة التحدث عن شؤون البلاد من باريس أو لندن أو جنيف قد تمكن بلا شك من قلوب شعبنا، الذي وقع ضحية المفسدين والمرتشين واللصوص والمحتالين وصار الآن ضحية لمن يوزعون بضاعة عفا عنها الزمن، فلم أجد وأنا أعيش في أوروبا أن ساركوزي اتهم خصومه بالعمالة لأي جهة ومهما كانت حدة نقدهم له، والتي وصلت إلى شؤونه الخاصة وحياته الزوجية… لم أجد أي دولة أوروبية تتابع كاتبا أو صحفيا نشر مقالا وهو في بلد أخرى حتى ولو كانت عربية، تتهمه أن صار مجندا وعميلا، لأن مثل هذا الأمر لديه جهات أمنية تتكفل به، وفي حالة ثبوت التهمة عليه وبأدلة لأنهم لا يوزعونها جزافا كما هو حال أقطارنا، سيجد نفسه بلا شك في موضع لن يحسد عليه أبدا.

يعني انه عندما تنتقد سياسة النظام وتعطي حقائق يعيشها كل الناس ويدركونها، فإنك هنا تتآمر مع البلد الذي أنت منفي فيه، ولا أحد تساءل يوما عن الأسباب الحقيقية التي أوصلتك إلى حياة المنفى والغربة، ولا أحد تساءل وهو يعلم حال المعارضة في الداخل بل يلومها كثيرا على أنها لم تهتم به وبشؤونه وقصرت في حقه، هل من الممكن أن يتحدث أحدهم في الداخل وبمثل طريقتنا وصراحتنا؟

ما العيب أن تحمل مشاق شعبك إلى كل العالم وتستغل الظرف الذي أنت فيه من الحرية والديمقراطية لتبليغ رسائل المستضعفين والمغلوب على أمرهم؟

كان بوسعنا أن نعيش ولن يخصنا أي شيء أبدا، كان بوسع المعارضة التي تعيش في المنفى أن ترتمي في أحضان النظام وتسوق هي أيضا للغباء والاستخفاف والحمق والعهر، ويحققون مكاسب تسيل اللعاب، ولكن لم يفعلوا ذلك بل حملوا أرواحهم بين أيديهم وهم يجابهون طغمة فاسدة ومجرمة تستطيع أن تفعل كل شيء لأجل خلودها من على رقاب شعوبنا.

بلا شك أن نموذج معارضة العراق التي عادت للبلاد وهي تمتطي الدبابات والطائرات التي دكت بغداد بأسلحة محرمة دوليا، قد لطخت صورة كل من يعارض بلاده من الخارج، ولكن لا أحد يعرف أن هؤلاء ليسوا عراقيين بل يحملون الجنسيات الأجنبية ويعملون في دوائر استخبارات أمريكية وبريطانية وحتى صهيونية، وما يقومون به هو مهمة موكلة إليهم، ويكفي أن أغلبهم لا يعيش في المنطقة الخضراء إلا لساعات قليلة وكل وقتهم بين لندن وواشنطن وطهران… وأمر آخر من أي ملة هم حتى يشوهون الشرفاء؟ الإجابة تعرفونها كلها ويكفي أنهم من مدارس صفوية تعلم تلاميذها كيفية إبادة العرب مهما كلفهم الأمر، والانتقام من التاريخ كما يعتقدون عندما ركع الفرس تحت إقدام العرب في الفتوحات الإسلامية، وهو نفسه الذي يجري مع الغرب وجعل بوش يعلن الحرب الصليبية وان اعتذر عن اللفظ فالفعل والمعنى ظل مستمرا وبصورة متطرفة للغاية.

عندما نؤكد أن العرب كأمة وليس كجنس لأن العربية باللسان وليست بالسلالة، إن لم يتداركوا أمرهم سينسفون من الخريطة ومن الوجود، ذلك لأننا نراهم بين مطرقة صهيونية غاشمة وسندان صفوية خبيثة تمارس التقية، فلسنا من دعاة الطائفية كما يحاول بعضهم اتهامنا ولسنا عملاء لأحد عندما أكدنا أن ما جرى في لبنان وسيجري هو مؤامرة مزدوجة بين طهران وتل أبيب، لذلك ان توزيع العمالة للأجنبي أو المؤامرة الخارجية من دون تحقق في المنهج والمعتقد والسياسة، هو عين الغباء الذي سوقت له الأنظمة والآن تسوقه حتى تيارات تحسب نفسها عدوة للصهيونية وأمريكا، وفي الأصل هي تنفذ أجندة بعيدة الأمد لن نرى نتائجها إلا لما نجد شعوبنا العربية وهي تباد على طريقة التتار التي ليست ببعيد عن ناظرنا الآن.

من العميل ومن المتآمر؟

ان الأنظمة التي تعذب شعبها وتسرق لقمة عيشه وتجعل الفقراء يزدادون ويتضاعفون، والأغنياء يتطور غناءهم حد الفحش، وصرنا نراهم يموتون بسبب قلة التغذية أو انعدام العلاج أو بسبب تلك الأطعمة المسمومة التي يقتاتونها من المزابل العمومية… الأنظمة التي تصادر الحريات وتحول شعوبها إلى أسرى حيث صار العرب في أوطانهم من لم يكن نزيل السجون فهو في إفراج مؤقت، الأنظمة التي تهرب الأموال إلى الخارج وتدك البنوك العالمية بأرصدة خيالية وخرافية وتترك شعبها لا يستطيع أن يسدد فاتورة الماء أو الغاز أو الكهرباء، الأنظمة التي تهرب غازها إلى إسرائيل وبثمن أقل من سعر التكلفة، وشعب غزة يغرق في الظلام… الأنظمة التي تركع للبيت الأبيض ولا يهمها غير رضا جورج بوش، أما قضايا الدول العربية الأخرى التي تعاني الأمرين وعلى رأسها العراق وفلسطين فلم تكن سوى شعارات جوفاء في خطابات سياسية مهزومة واحتيالية.

الزعماء الذين يفضلون العلاج والعيش لأبنائهم وامتلاك عقارات فاخرة في كبرى العواصم العالمية وتحت رعاية الأجهزة الاستخباراتية الأجنبية، وتخيلوا أن الرؤساء والملوك يبجلون أطباء أجانب وفي مستشفيات عسكرية أجنبية يبقرون بطونهم ويطلعون على أخطر "أسرار الدول العربية" والمتمثلة في "الحالة الصحية للزعيم" التي تفوق أهمية الجانب العسكري والأمن الدفاعي، ويحتقرون أطباء بلدهم الذين يسهرون ليل نهار في المستشفيات بعد سنوات الكد والاجتهاد ومقابل أجور زهيدة لا تصل لأجر بواب في شركة بترولية مملوكة لطبقة محظوظة، بلا شك أنهم يخافون منهم لأن لا خير قدمه هؤلاء الحكام حتى لا يخشى اغتيالهم أو تصفيتهم ولو بحقنة الموت الرحيم… الزعماء الذين يستقبلون بوش بعدما خطب في الكنيست وجرد العرب حتى من حق الحياة ونفى عنهم الآدمية، ليعود مكرما بالنفط والصفقات الضخمة… لو بقيت أحصي جرائم هذه الأنظمة لكتبت مجلدات كبيرة، ولكن الغريب في أمر شعوبنا أنهم يصدقون أبواق هؤلاء الحكام، وقد تعجبت وأنا أشاهد الجزائريين يخرجون في مسيرات قيل أنها عفوية ويتقدمها الوزراء، منددين بـ "الأجانب" الذين يريدون تقويض مسار المصالحة الوطنية التي منيت بالخيبة المطلقة، ولا أحد تجرأ سائلا الرئيس عن هذه الجهة، ولو أوقفت شخصا وسألته عن هذا الأجنبي الذي يتآمر على البلد، لأخبرك أنه لا يدري عنه ولا عن تواجده في هذا البعبع، وأغلبهم يتهم فرنسا لحسابات معروفة، فكيف أن كانت هي بالضبط تجد بوتفليقة يفرش السجاد الأحمر لساركوزي في زيارة استثنائية؟… ولو تأملنا في كل الدول الأوروبية الأخرى لوجدناها كلها نالت رضا الرئيس وتحصلت على امتيازات في بلدنا المستباح والمحتل، فترى ماذا بقي منها حتى نصنفه في دائرة العدو المتآمر؟

هل هي إسرائيل التي تتآمر على المصالحة؟ أعتقد أن طرح السؤال غبيا والإجابة عنه أغبى بكثير، أما ان كان يقصد به المنظمات الحقوقية التي ظلت تتهم بالمؤامرة، فأعتقد أن هذه المنظمات هي التي تواجه أمريكا وتنتقدها واستطاعت ان تحرر الكثيرين من مساجين غوانتانامو، والذي سبب عدم غلقه هو الأنظمة العربية كما صرح بذلك وزير الدفاع الأمريكي غيتس… لم يبق إذن سوى وسائل الإعلام من صحف وانترنيت وعلى رأسهم قناة الجزيرة القطرية، والتي ظل دمها مستباحا في كثير من الدول العربية وعلى رأسها الجزائر طبعا، وبعد غلق مكتبها ومنع مراسلها جاءت قضية الاستفتاء الأخير حول العمليات الإرهابية التي يقوم بها ما يسمى تنظيم القاعدة، وقد حملت حينها مسؤوليته لجهات ربما من داخل الجزيرة أرادت إركاعها لهذا النظام الأرعن، وأخير الخرجات التي تثير الاشمئزاز أن أحدهم ممن استفاد من المصالحة وتصفه الدوائر الرسمية بالتائب، حيث تمكن من العودة لأهله بعد سنوات في الحرب والقتل والدمار، دفعته غيرته ووطنيته التي لا يشك فيها النظام ولا حتى فاروق قسنطيني إلى رفض دعوة من قناة الجزيرة لكي يتحدث في أشياء مضادة لمسعى المصالحة ومقابل اجر كبير، وراح المحامي فاروق قسنطيني صاحب دكان المرصد الوطني لحقوق الإنسان يروج لها على أساس أنها وحي نزل من السماء، وهو عار وعيب التسويق لمثل هذه الترهات الحمقاء، وغدا ربما يخرجون علينا أن للجزيرة تنظيما مسلحا ينشط في المغرب العربي، أو أنها تسعى لأن ترشح احد صحفييها في الانتخابات الرئاسية القادمة، ربما أنها تعد جيشا لغزو شمال إفريقيا.

أحس بالقرف وأنا أتحدث عن هؤلاء الذين يسوقون دوما للمؤامرات الأجنبية وأنهم أبطال يقفون في وجهها، ولكن لا أحد تجرأ وذكر جهة بالاسم سوى قناة الجزيرة التي قميصها يقد من دبر وظلت تتحمل الاتهام… وأؤكد من أن عقلية حرب التحرير تولت والتي ظل كل من يريد أن يصفي حساباته مع شخص ما، يتهمه بأنه حركي وقومي وغير ذلك، بالرغم من أن الجنرالات هم كبار عملاء الجيش الفرنسي الذي ذبحوا الجزائريين في الثورة وواصلوا تقتيل أبناء وأحفاد الشهداء بعد الاستقلال، هم الذين يحكمون البلاد ويسيرون العباد، وكم كان رائعا الكاتب الصحفي هشام عبود عندما وصفهم بالمافيا في كتابه الشهير "مافيا الجنرالات"، وعرى حقيقتهم الثورية بالأدلة الملموسة ولا أحد تجرأ من أن يتابعه أو يرد عليه.

المهم الآن: من هو العميل نحن الذين هربنا من الموت وندافع عن شعب تحت الحصار والاحتلال ونرى يوميا ماله العام وهو يصرف في أرقى المحلات والكباريهات والعقارات والصفقات المشبوهة في الخارج من طرف المسؤولين وبطانتهم وأبنائهم وبناتهم؟

من هو العميل نحن الذين رفضنا أن نضع أيدينا في يد حكام العار والفساد أم هؤلاء الذين نراهم يوميا وهم يحجون إلى الإليزيه أو مستشفياته العسكرية، ويقدمون فروض الطاعة لدى أسيادهم؟

من العميل نحن أم أولئك الذين يشترون الشقق الفاخرة لعشيقاتهم ويمضون الصفقات على حساب سيادة البلد ويرهنون المؤسسات الخاصة وبأثمان بخسة ومقابل رشاوى تصرف في حساباتهم بين سويسرا وباريس ولندن؟

من المتآمر الأجانب الذين يخدمون مصالح بلادهم ليل نهار أم حكامنا الذين يفتحون البلاد على مصراعيها لهم ويدخلونهم في شؤون الحكم ويتلقون الأوامر عبر برقيات لا تتجاوز الخمسة سطور؟

من المتآمر الأجانب الذين يهمهم راحة شعوبهم في التغذية والنفط أم حكامنا الذين يقدمون الآبار كهدايا لزوجات الملوك وبناتهم؟

من المتآمر بوش الذي يعلن صراحة مساندته المطلقة لإسرائيل في عيدها الستين أم حسني مبارك – لا بارك الله فيه – الذي أرسل رسالة تهنئة لشمعون بيريز بمناسبة ما سماه عيد الاستقلال؟

من المتآمر نحن الذين نندد بهذا الفعل وعلى ترابهم ام حكامنا الذين يطاردوننا عبر مذكرات توقيف دولية؟

من المتآمر نحن الذين نطالب بوحدة شعوبنا أو دعاة الانفصال والتجزئة من أمثال فرحات مهني والذي يصول ويجول في البلد من دون أن يوجه له حتى عتاب، بالرغم من أن القوانين المحلية تجرمه؟

من المتآمر نحن الذين نكتب بدمنا ونصرخ بالصوت العالي في وجه النظام وحتى حلفائه الغربيين أم أولئك الذين يطالبون الدول الأجنبية بالتدخل في شؤون البلد ولا أحد تجرأ حتى على لومهم سوى بعض الصحف التي تنتقد على استحياء العروس في صباحها الأول؟

الأسئلة كثيرة جدا والمؤامرة حقيقة واقعة والعمالة موجودة ولكن توجه في غير محلها، ولو كنا نحن بالفعل عملاء ما تجرأ علينا أحد أبدا وما منعوا حتى الصحف من أن تشير لمآسينا ومواقفنا، أما المعارضة التي هي على شاكلة احمد الجلبي والمالكي فيمرحون في البلاد وينالون الصفقات الكبرى لمؤسساتهم.

أعتقد أن الإجابة واضحة والحقيقة ساطعة وسيظل الشعب العربي يسير نحو النهاية المشؤومة إن بقي حاله على هذا الحال، وان لم ينتفضوا بعصيان مدني شامل لإسقاط حكام العار فستكون النهاية في غاية البشاعة، وطبعا ستطال الفقراء والمساكين والمغلوب على أمرهم، أما الأثرياء والمسؤولين والأمراء والملوك والرؤساء والوزراء فقد امتصوا دمهم وضمنوا لهم أمكنة فارهة في أرقى العواصم وعلى حساب المال العام… لا أعتقد أنه بإمكانهم أن يفعلوا ذلك فهذا الجيل سقط في وحل الاتكال والهزيمة والخوف والوهن، ولكن لنا أمل كبير في أجيال أخرى تأتي متشبعة بقيم أمتها وحضارة الأجداد التي أنارت العالم بالحضارة وسطعت شمسها على الغرب… للموضوع وجوه مختلفة وكثيرة وعميقة وطويلة بلا شك سنعود إليها.

أنور مالك
29 ماي 2008

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version