من يمعن النظر في الكم الهائل من القنوات الفضائية ذات الجنسية العربية، أو يحصي الأعداد الهائلة من الصحف والمجلات التي تملأ الساحة في العالم العربي لربما يستخلص أن ما كان هذا التنامي سواء في القنوات الفضائية أو الصحف والمجلات وحتى الإذاعات، إلا دليلاً على أن هناك دينامكية اجتماعية، ويقظة فكرية، و إحاطة كبيرة بالواقع الجديد الذي أفرزته الثورة المعلوماتية الهائلة، وقننته العولمة ومترادفاتها.

الإعلام بمسمياته في العالم العربي لم يعد فقط خبز المواطن العربي المهووس بالصورة والأخبار، بل أصبح وأضحى وأمسى الهواء الذي يستنشقه، وحتى الطفل الصغير في ظل هذا الزخم الإعلامي وجد من يتحدث باسمه ويكون له النصيب الكافي من هذا الإعلام.

ونتذكر جميعا تلك الهيصة والزيطة التي ملأت دنيا العرب عن الرسومات المتحركة ” البوكيمون” التي بثتها تقريبا أغلب القنوات العربية، وكثرة كاثرة من الشيوخ تحدثوا عنها في خطبهم يوم الجمعة مع علمي أن قليلا من هؤلاء الخطباء من شاهدوا هذه الرسومات المتحركة التي قيل أنها تبطن الشر للجيل الصاعد، وتطعن في مقدسات الإسلام الحنيف.

هذه الرسومات المتحركة والذين لهم اليد الطولى في هذه الصناعة وجدوا ضالتهم عبر هذه القنوات العربية التي لم تتحرج أكثريتها من هذا البث، بل ساهمت بشكل أو بآخر في إخراج هذا الصنف من الرسومات المتحركة إلى الحياة الكبيرة في الأسواق العربية، بعد أن تفطن بعضهم إلى اختراع أنواع وأصناف من هذه البوكيمونات، على أشكال دمى، وعلى أشكال حلوى ولبان، موجهة كلية إلى الطفل العربي الذي يتفرج على البوكيمون في المساء عبر القنوات الفضائية، ويشتري لعب ولبان، وحلوى هذا البوكيمون صباحا من الأسواق بنقود الأب الذي سمع كثيرا خطب الشيوخ في المساجد وهي تحذر من كفر البوكيمون.

عندما نتذكر هذه الحادثة، وما أكثر الحوادث التي تنساق وراءها الأمة العربية إما باللعن أو بالشجب والتنديد، أو بالتفاعل السلبي وحتى الإيجابي، يجول بخاطرنا دور الإعلام العربي في كل هذه الأحداث، وهل فعلا بات هذا الإعلام يلعب الدور المميز الذي يستطيع أن يقف على الغث والسمين، أم أنه مجرد ناقل لما تجود به الشركات الإعلامية الكبرى في الدول الأخرى، وهل حقا هذا الإعلام يعرف ماذا يريد وماذا ينبغي أن يكون؟.

الإجابة بالإمكان أن نلمسها في الواقع الحياتي لهذه الأمة ولا شيء آخر، وكما يقال عندنا في الجزائر” الخط الذي ينبث الحشيش يظهر عليه الأمر من أول نظرة” إضافة إلى أن النتائج الصحيحة دائما هي من المقدمات الصحيحة، والعكس الصحيح، فلا يمكن البتة أن تكون هناك مقدمات خاطئة تتخلق منها نتائج صحيحة، وهذه حال الإعلام العربي اليوم، فكل ما يقدمه من مادة لا يعكس بالضرورة ما هو مرغوب فيه من أجل أن تنهض هذه الأمة.

عندما نبحث عن العلة وعن السبب الذي جعل هذا الإعلام لا يرقى إلى ما هو مطلوب منه، نجد أن الأسباب صراحة عديدة، فمنها أن هذا الإعلام ليس قائما على دراسة علمية، وعلى أسس وقواعد إعلامية متينة، زد على هذا توجهات القائمين على هذا الإعلام ليس بنفس طموحات هذه الأمة، وبنفس رغباتها.

ولا أدري من وسوس لهؤلاء القائمين على توجهات هذا الإعلام أن المجتمع العربي يريد الإعلام الراقص، وإعلام الفن الهابط، لكن يجب ألاَّ ننسى أن هذا النوع من الإعلام هو المسموح به، وهو المطلوب من قبل كثير من الحكومات العربية، والسبب يعرفه الصغير قبل الكبير، إن هذا النوع من الإعلام هو الذي يطمئن هذه الحكومات على وضعها السياسي، وعلى مكانتها في الديمومة في الحكم، ولو أنني لن أخترع البارود في ما أقوله لكن يجب الإقرار أن هذه الحكومات، لا تتوخى إعلاما راقيا يرقى بالناس إلى مستوى التفكير القويم، لمعرفة جوانب الصحيح من الخطأ، وإدراك الحقائق كما هي، لكنها تبحث دائما عن الإعلام الذي يجعل المجتمع سكارى وماهم بسكارى، والنتيجة يا إخواني تجدونها في حياة الناس، وفي ما تقوله هذه الحكومات وتصوراتها عن إعلام هذا العصر.

وجميعنا يعلم مدى الذعر الذي مس كثيرا من السلط العربية عندما انطلقت قناة الجزيرة الفضائية عام 96، لاسيما وأنها انطلقت بمعايير غير متعارف عليها في الفكر الإعلامي العربي، وبمعايير لم تألفها آذان الحكومات العربية، فالجزيرة غسلت آذان هذه الأمة من أخبار فخامة الرئيس، ومشاريع صاحب المعالي، بل أصبحت الجزيرة خلال عشرية من الزمن قطبا إعلاميا عالميا، ومدرسة للأجيال العربية، لما استطاعت أن تقوم به من عمل احترافي متوازن.

وعلى الرغم من أن قناة الجزيرة الفضائية وجدت حسدا من قبل بعض الجهات فراحوا يؤسسون إعلاما على شاكلتها بيد أن ما وضعته الجزيرة من مقومات إعلامية أساسية، لم يستطع الإعلام الموازي الذي خلق من أجل منافسة الجزيرة حسب ما قيل، لكن الحقيقة أنه خلق من أجل إنهاء ظاهرة الجزيرة متناسين، أو غافلين عن أن قناة الجزيرة لم تعد فقط ظاهرة بل أضحت مع مرور الأيام مدرسة إعلامية، وتاريخا من الصعوبة بمكان أن يمحوه بمجرد إنشاء قناة فضائية أخرى لها نفس المواصفات، ولها نفس آليات العمل الاحترافي.

في الواقع وضمن هذا التطور الهائل الذي يعرفه المجتمع العربي، من حيث مستوى التعليم والثقافة ولو بشكل نسبي مقارنة بالدول الأخرى، فإن الإعلام العربي لا يزال في أغلبيته مبتذلا، لا يمكن الاطمئنان إليه، والوثوق فيه، وقد يقول قائل وهذه القنوات الفضائية الإسلامية أو ذات التوجه الإسلامي، فهي قنوات بإمكانها أن تخلق التوازن الذي تستطيع هذه الأمة أن تعتمد عليه.وهذا صحيح من وجهة نظر إعلامية بحيث بإمكانه أن يكون بديلا لتلك القنوات التي تشرح الرقص والغناء، لكنها لن تكون البديل الكامل لمشروع الإعلامي العربي الذي يستطيع مجابهة الإعلام الغربي المارد، أو يكون الإعلام الحقيقي المتوازن.

وهذا لعدة اعتبارات موضوعية تخص المهنة بحد ذاتها، كغياب كما أسلفنا المنهج والتصور، إحكام قبضة السلطة الرسمية على كل شاردة وواردة تخص هذا الإعلام، زيادة على كل هذا غياب الكفاءات المحترفة التي تمتلك تصورات مستقبلية- ولا أتحدث عن الكفاءات التي تملك الشهادات مطرزة بالإمضاءات فهذا أمر آخر- ولها القدرة على قيادة السفينة في هذا البحر اللجي.

ولا تغرنا هذه الجحافل من الإعلاميين الذين يملأون شاشات التلفزيونات من كل الأقطاب، فأغلبهم – إلا من رحم رب- جاءوا عبر بوابة خاصة يمتلكها ابن جنسيته، أو ابن عشيرته من أقرب المقربين.وأكثر من هذا أن الإعلام قبل كل شيء أخلاق، فإذا ذهبت هذه الخصلة، أو هذه الشعبة ضاع الإعلام وأصبح مجرد مهنة للاسترزاق، وما أكثر المرتزقة في الإعلام والصحافة!

فهل كثير من الإعلاميين والصحفيين يحترمون الأخلاق في مهنة الإعلام، ويمارسونها وفق موضوعية، دون إدخال عامل الشخصانية، وعامل الأنانية؟.

لقد حدثني أحد الدكاترة عن شخصية إعلامية- أو هكذا نستطيع تسميتها- لم تكن تصدق في يوم من الأيام أنها وصلت إلى ذاك المركز الذي وصلته، فوصولها إلى مركز محاصرة الشخصيات المهمة بالأسئلة جعلته مع أسف شديد ينظر إلى نفسه أنه أقوى رجل إعلامي في الدنيا، بل كما قال لي هذا الدكتور أن هذا الإعلامي لم يعد يشعر فقط أنه فوق الناس ولكن أصبح يشعر بأنه فوق المهنة وكأنه خالقها.

ومثل هذا الإعلامي الذي جاء صدفة وأدخل بواسطات يعلم الله عنها كيف كان شكلها، أمثاله كثيرون من يقودون المسيرة الإعلامية، وينظّرون للإعلام.

وأحيانا نلقي باللائمة على الحكومات العربية لكن ننسى أن هذه الحكومات ما تغوّلت إلا من خلال هذا الصنف من أشباه الإعلاميين، وكما عبّر أحد المواطنين البسطاء الذين عاشروا بعض الإعلاميين والصحفيين قائلا:لو كنت أعرف هؤلاء الإعلاميين والصحفيين من قبل عن قرب، وعن نفاقهم وكذبهم، لكان تعاملي مع هذا الإعلام مغايرا، فحسبه لا يمكن أن أصدق الإعلامي أو الصحفي الكذّاب وهو يعيش معي، فكيف أصدّقه وهو يكتب أو يذيع خبرا،، لعمري لهي المفارقة الكبرى والمصيبة العظيمة،، وهؤلاء هم أشباه الإعلاميين والصحفيين الذين أبدا لن ينهض بهم إعلام أو ترقى صحافة،، فهل فهتم لماذا إعلامنا فاشل ومبتذل؟

عبدالباقي صلاي
جريدة الشرق
6 يونيو 2007

المصدر
http://www.al-sharq.com/DisplayArticle.aspx?xf=2007,June,article_20070606_1&id=columnist&sid=abdulbakisalae

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version