في كثير من الأحيان تستبد بي الدهشة، ويكاد الحزن يفطر قلبي من فرط ما تلتقطه أذني من فم المسؤولين عندنا في الجزائر وهم يتحدثون عن الوضع الاقتصادي العام وكيف أن هذا الوضع الاقتصادي الذي يتأزم يوما بعد يوم أصبح رهن الشروط الخارجية التي تفرضها المؤسسات المالية العالمية، مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، ومن هذا المنطلق فإن أي تعامل مع هذا الوضع الاقتصادي الذي لم يعد في منأى عما تفرضه النمطية العالمية، وما تقتضيه الظروف الاقتصادية العالمية المحيطة، يقتضي الحذر والحيطة، وإن اقتضى الأمر فليكن تعامل كله انصياع وتسليم.

لأنه من المغامرة بمكان أن تكون هناك انطلاقة اقتصادية حقيقية، في غياب رقابة ملاك القرار المالي العالمي، ومن المغامرة بمكان أن يكون هناك انعاش اقتصادي دون الرضوخ للمصطلح الاقتصادي الذي يخرج من المخبر الغربي، وبالخصوص الأمريكي وربائبها.

في واقع الأمر هذا ما نظل نسمعه من كثير من رجال الدولة عندنا في الجزائر، ومن منظريهم الأشاوس الذين يوسوسون لهم بأن الفلتة الاقتصادية الحقيقية قد فات قطارها، ويجب الانتظار ريثما تتغير الظروف المحيطة لعل وعسى يحدث الله أمرا يكون في صالح الاقتصاد الجزائري.

الوفرة المالية التي تتمتع بها الموازنة العمومية في الجزائر، وهي نعمة ربانية بفضل سائل البترول الذي ارتفع سعره في الآونة الأخيرة، ما انعكس بإيجابية كبيرة على منسوب هذه الموازنة وأعطى فرصة لا يمكن أن تعوض للدولة الجزائرية لتفي بالتزاماتها اتجاه نادي باريس ونادي لندن، وصراحة قد انخفضت الديون الجزائرية وخدمة هذه الديون بشكل لافت.

لكن رغم هذه الوفرة المالية الكبيرة نسبيا، فإن ما يفترض أن يكون مصاحبا لهذه الوفرة التي هي فعلا- فجائية- هو أن يكون للحكومة شيء من الطمأنينة النفسية، وأن يخلق لديها جانبا من الحس الاقتصادي في المستقبل القريب، لاسيما وأن هذه الوفرة المالية لا يمكن أن تتكرر في أي ظرف من الظروف، ضف إلى ذلك أن هذه الوفرة مهددة بالنقصان مع مر الأيام، والتفسير بسيط جدا، لأن معظم هذه الأموال سيدفع في فاتورة استيراد المواد الغذائية، والدواء.

عندما انتخب الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة عام 1999، جاء بعد عامين بفكرة مشروع مارشال الجزائر، وخصص نسبة كبيرة من الأموال لهذا المشروع، لكن للأسف الشديد معظم هذه الأموال جرفتها السيول في حملة باب الواد، ولم تقدر الميزانية على الوفاء بما قدمه الرئيس عبد العزيز بوتفليقة من مشروع كان الجميع ينتظر منه أن يكون بلسما للواقع المزري.

وفكرة بعث مشروع الانعاش الاقتصادي لا تزال قائمة إلى حد كتابة هذه السطور، والحكومة بكل مجنديها تتحدث عن هذا المشروع الذي بات موّالا كثير التداول من غير أن تجد له أثرا على أرض الواقع. والأدهى والأمر كما أسلفنا ذكره أنه رغم هذه الوفرة المالية الكبيرة جدا، فإن عجلة الاقتصاد الوطني هي في دوران عكسي، فحالة الفقر تزداد يوما بعد يوم، وفقدان الأمل في أي تحسن على المستوى المتوسط منحناه البياني في ارتفاع مطرد، وحدث ولا حرج عن الميوعة السياسية التي باتت السمة البارزة في الجزائر.

مناقشة موضوع الانعاش الاقتصادي في الجزائر يأخذني على عجل إلى ما كنت أقرأه عن المفكر الجزائري مالك بن نبي رحمه الله، هذا الأخير الذي أسس منظومة فكرية قيمية، لم ينتبه إليها في الوقت الحاضر الكثيرون لا سيما من جانب السلطة الجزائرية، ومن جانب صناع القرار.

لقد تطرق بن نبي بصفة إجمالية للحالة الاقتصادية وهي تكاد تتشابه لدى أغلب الدول العربية، بل هي صورة كربونية عند أغلب هذه الدول العربية التي فهمت الاقتصاد على أنه مجرد أصول وخصوم دون أخذ بعين الاعتبار عوامل كثيرة، و يقول مالك بن نبي عن حالة الدول العربية (من بينها الجزائر) في تعاملها مع مفهوم الاقتصاد: «لو تدبروا (…) بعض الدراسات المتعمقة في البحث عن جذور الاقتصاد لوصلوا إلى النتيجة النظرية نفسها، أي أن الاقتصاد ليس قضية إنشاء بنك وتشييد مصنع فحسب، بل هو قبل ذلك تشييد الإنسان وإنشاء سلوكه الجديد أمام المشكلات» إذن فالإنسان عند مالك بن نبي يسبق تكديس الأموال، كما هو حاصل عندنا في الجزائر، وهو محور العملية الاقتصادية التي هي الخميرة الأساسية لتشكيل ما يسمى حضارة التي يتفرع عنها بعد ذلك الرواج الاقتصادي، لكن مع عدم إغفال عنصر الزمن الذي له نفس القيمة الإنسانية. ويؤكد مالك في هذه النقطة بالذات وهناك عنصر آخر يتمتع بالطابع النفسي نفسه، ويجب أن نحسب له حسابه في هذا التنافي، ذلك العنصر هو فكرة الزمن التي تعد أساسية جداً في تنظيم العمل في العالم الحديث تبعاً لنظرية تايلور، فقد سيطرت هذه النظرية على مفاهيم المقدرة الإنتاجية، فساعة (الكرونومتر) التي تستخدم في حساب الثواني تستخدم في الوقت نفسه في تسعير الإنتاج، وليس قولهم – الوقت عملة TIME IS MONEY من قبل اللعب بالكلمات، بل هو تعبير دقيق عن الواقع المادي في نظر (الإنجليز).

والوصول إلى تحقيق أعلى نسبة إنتاجية من خلال التوظيف الكامل لكل قوى الأمة، لا يعني تقديم الوهم الاقتصادي على الحقيقة الاقتصادية المطلقة؛ لأن العبرة دائماً بالنتيجة، وكما بينت التجربة الإندونيسية رغم إحاطتها بكل أسباب النجاح بيد أنها لم تكن تجربة ناجحة بكل مقاييس الاقتصاد الحقيقي الذي كان الشعب الإندونيسي الخارج تواً من حالة استعمار، يأمل أن يراه، فضلاً لو أن المشرف على العملية الاقتصادية ليس هدفه هو النجاح، بل ترسيخ الصبيانية الاقتصادية كما يسميها مالك ECONOMISME وفي هذا السياق يقول «والاقتصادانية إنما هي فقاعة غاز لا تحوي أي واقع اقتصادي، بل هو أسوأ إنها ظرف يبدي ألوان قوس قزح لألاءة براقة، إنه يحوي أوهاماً خلابة ضائعة وتناقضات تدعو للسخرية. إن الاقتصدانية أو المعاشية لم ينزل بها قرآن من السماء، بل أفرزتها كائنات أميبية جسدت القابلية للاستعمار وتجسد التخلف اليوم، وهي عموماً تعني بادئ ذي بدء استبداداً أي تقييداً جديداً لحرية التصرف، فيه يلتهم المشرع الاقتصادي القيم الأخلاقية والمدنية كلها لأبناء الشعوب المستعمرة حتى يعززوا كما يزعمون، الاستقلال السياسي الذي اكتسبه الشعب»، ويضيف أيضاً «وإن ابتغت الاقتصادانية أن تفعل خيراً فإنها تتصور شؤون المجتمع الإنساني تصور تسيير لمطعم حقير يتم حسابه بعمليتين اثنتين: جمع لما يدخل من مال، وطرح للنفقات».

عند التأمل فيما طرحه بن نبي نصل إلى فكرة واحدة مؤداها أن مشروع الانعاش الاقتصادي في الجزائر الذي سخرت لأجله أموال باهظة ما يربو على 60 مليار دولار، لم ينتبه في واقع الأمر إلى عامل الإنسان، وإن كان هذا العامل أهمل منذ سنين طويلة منذ الاستقلال أو قبل الاستقلال.

ولهذا السبب نجد ظاهرة السرقات الكبرى للمليارات من البنوك كل يوم في تزايد، لأنه لو كانت هناك سياسة اجتماعية حقيقية تهتم بالفرد لما وصلت حالة الجزائر إلى هذا البؤس، وهذا الانحطاط الشامل. وعليه فإن إشكالية الخروج من قوقعة التخلف، واستعمال هذه الأموال في ما يمكن أن ينفع الناس، لا يتم عن طريق الاقتصادانية كما يسميها بن نبي، أو عن طريق الدجل الاقتصادي المفضي إلى الخسران المبين. وما تعاني منه صراحة الطبقة السياسية في الجزائر، ويجب أن نجاهر بها ولا نسكت، هو التصور الحقيقي، والفكرة الصائبة، والدراسة الاستشرافية للمستقبل البعيد. لأنه من غير المنطقي أن توضع الأموال الكبيرة في اليد المشلولة، أو تعطى البرامج الجبارة للعقول الكليلة.

والجزائر والحمد لله غنية بثرواتها وبشعبها، غنية بموقعها وغنية بكل ما تتطلبه القفزة الاقتصادية، والدليل هو هذا الفائض من الأموال الذي يملأ الخزانة العمومية، ولم يجد بعد طريقه نحو النماء الحقيقي عبر مشاريع مثمرة، وليس عبر مشاريع المطاعم الحقيرة كما يسميها بن نبي، وعلى الطبقة السياسية التي تشرف على مشروع الانعاش الاقتصادي أن تعترف وتقر بأن العلة في خلاياهم، وفي أفكارهم الجامدة، ولو أردناها بعبارة شاملة مصيبة الفقر في الأفكار وليس في الدولار!

عبدالباقي صلاي
جريدة الشرق
23 مايو 2007

المصدر
http://www.al-sharq.com/DisplayArticle.aspx?xf=2007,May,article_20070523_4&id=columnist&sid=abdulbakisalae

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version