طرحت تساؤلات عديدة ولاتزال حول التوجه الفلسفي والأيديولوجي لحزب العدالة والتنمية التركي لاسيما في ما تعلق بالخلفية الفكرية التي يمتلكها كل من القائدين البارزين في الحزب رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان ووزير خارجيته عبد الله غول.

ومع أسف شديد – ونكرر مع أسف شديد- وعلى الرغم من التصريحات غير الغامضة التي ما فتئ حزب العدالة والتنمية يطلقها على لسان رجب طيب أردوغان في كل مناسبة أنه علماني، وأن نشاطه لم يخرج ولن يخرج عن المسلمات العلمانية التي وضعتها الثورة الكمالية، فإن هناك من لا يزال على نغمة أن رئيس الحكومة التركي إسلامي والدليل على ذلك زوجته المحجبة، إضافة إلى منطلقاته الفكرية الأولى التي نشأ عليها، والتربة السياسية التي أنبتته عقائديا، وهي نفس التربة التي أنبتت قبله زعيم التيار الإسلامي التجديدي في تركيا البروفيسور نجم الدين أربكان.

الصراع الدائر في تركيا وفي كل بلاد المسلمين هو صراع من أجل النفوذ السياسي له أبعاده الأيديولوجية ولو أن المسألة برمتها ليست مرتبطة أحيانا بالتوجه الأيديولوجي أكثر ما هي مرتبطة بالمصالح الاقتصادية والنفوذ داخل دواليب السلطة.

وتركيا الدولة المعاصرة ومنذ تأسيسها على يد كمال أتاتورك وفق المبادئ العلمانية المحاربة لكل ما له صلة بالدين و رموزه، وهي تنافح من أجل أن لا يكون لسلطان الدين أي مكان داخل المجتمع التركي الهادئ.
ما انعكس ذلك ليس فقط على المستوى الاجتماعي بمنع ظهور المظاهر الإسلامية كالحجاب على سبيل المثال، ولكن على المستوى السياسي حتى أضحى كل من يظهر عليه التدين، إلا وحوصر من قبل المؤسسة العسكرية حامية العلمانية، وأرغم على التنازل عن كل ما كان يفكر فيه.

وهذا الذي حدث لنجم الدين أربكان أواخر التسعينيات عندما فاز بالانتخابات التشريعية، ورغم تنازله غير المحدود لصالح العلمانية، لكن لم يشفع ذلك له لدى المؤسسة العسكرية التي أخرجته عنوة من رئاسة الحكومة، ومن ممارسة السياسة نفسها إلى أجل غير محدود.

حزب العدالة والتنمية بزعامة رجب طيب أردوغان، وإن فهم اللعبة بتصحيحه للأخطاء التي وقع في محظورها سابقه نجم الدين أربكان، بيد أن تجريده من الصبغة الإسلامية لم يهضمها الكثيرون داخل أروقة النظام التركي العسكري، بل هناك من يرفض مجرد أن يقال له إن حزب العدالة والتنمية ليس نسخة طبق الأصل لحزب السعادة الحالي الذي يقوده المحامي رجائي قوطاني.

ويدللون على ذلك أنه امتداد لحزب السعادة، وأنه يخفي أوراقا كثيرة في تعامله مع السياسة العامة التركية، خصوصا ما تعلق منها بالنظام العلماني ومستقبله ضمن الفلك الأوروبي، وحرص أردوغان على أن تظهر زوجته بالحجاب وهذا في حد ذاته مخالف لما هو معمول به سياسيا، وبالتوجهات الكبرى للدولة الأتاتوركية العصرية.

ما كان يخشى منه قد وقع عشية إعلان مرشح حزب العدالة والتنمية للرئاسيات، والكثيرون كانوا يتصورون أن رجب طيب أردوغان سيكون مرشحا لكن فاجأهم بأن اختار وزير الخارجية عبدالله غول للمنصب ذاته.
وهذا ما اعتبرته أوساط سياسية في تركيا بالمباغتة السياسية التي يتقنها جيدا حزب العدالة والتنمية، وإذا ما اعتبر أنه تمكن من بسط ثقته على المجتمع التركي برمته رغم حداثة عهده بالوسط السياسي، كما تمكن من فرض رؤيته المتعلقة بحلحلة المشاكل الاقتصادية والاجتماعية، وإعطاء الفرد التركي ما يستحقه من كريم العيش.

فإلى حزب العدالة والتنمية يعود الفضل في تقليص المديونية العمومية التي أرهقت الاقتصاد التركي من أكثر من تسعين بالمائة إلى أقل من ستين بالمائة، وهذا في حد ذاته جيد إذا ما قورن بالإكراهات التي يعاني منها الحزب نفسه، والعراقيل التي يلاقيها أينما حل وأرتحل، كما يعود إليه الفضل في ترسيخ قاعدة اقتصادية متينة ورفع من معدل النمو، وقطع شوطا كبيرا من أجل الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.

يقول رجب طيب أردوغان " لقد تولينا مقاليد الحكم كحكومة تتحلى بالحماس والعزم وكنا نعرف مشاكل تركيا وقضاياها وتعاملنا معها بحسم وأهم هذه الأمور البطالة والفقر والفساد وعلاقات تركيا بالبلدان الأخرى ومسيرة انضمامها للاتحاد الأوروبي، نحن قمنا بخطوات مهمة جدا في معظم هذه القضايا" ويشرح هذه القضايا على النحو التالي:" نجحنا في مسيرة الاتحاد الأوروبي، أي نجحنا في مرحلة السابع عشر من ديسمبر ومن ثم حققنا النجاح في مرحلة الثالثة من أكتوبر، أما الآن فوصلنا مرحلة التمشيط والمفاوضات التي تسمى شراكه الانضمام للاتحاد وحول هذه الشراكة يواصل الزملاء القيام بأعمال موّفقة جدا ونحن نؤمن بأننا وبشكل تضامني مع مؤسساتنا سنحقق النجاح بالشكل المثالي وسنتبوأ مكانتنا داخل عائلة الاتحاد الأوروبي".

النجاح الذي حققه حزب العدالة والتنمية خلال الفترة التي ترأس فيها الحكومة هو الذي دفع الكثيرين من الخصوم السياسيين كي يعلنوا تخوفاتهم من أن يستمر هذا النجاح ويمس الركن الركين في الدولة العلمانية وهي كرسي الرئاسة.
والوصول إلى كرسي الرئاسة معناه أن أدوات الحكم المطلق قد أصبحت في قبضة اليد، وبالإمكان إحداث أي تغيير في جوهر فلسفة الحكم ما يعني أوتوماتيكيا ضرب بيد من حديد كل من كان يتمسح باسم العلمانية ويأكل باسمها.
وإلى جانب اتهام حزب العدالة والتنمية بالتوجه الإسلامي المخالف علمانيا، هناك من يتهمه عندما بدأ يقترب بتركيا من حدود الاتحاد الأوروبي، بأنه يريد بيع تركيا للاتحاد الأوروبي لكن أردوغان كانت إجابته كالعادة متزنة وعميقة"أنا لا أبيع بل أسوّق وسأواصل التسويق، هؤلاء جهلاء في الموضوع ولا يعرفون معنى التسويق، نقول لهم تعلّموا وادرسوا الإدارة، يتم تسويق السياسة والحياة الاجتماعية والاقتصاد، عليكم القيام بذلك، لا أحد منهم يعرف معنى التسويق، يعتقدون أن التسويق يعني تسويق الماشية والأغنام فقط، الصحيح أن السياسة تسوّق والحياة الاجتماعية تسوّق وبالإمكان تسويق إمكانيات البلد بأفضل شكل وتسويق اسم بلدكم في الأسواق العالمية بأفضل أسلوب وتُعرفون به".

هذه هي المفاهيم التي يريد تسويقها الرجل التقنوقراطي الذي يعترف بأنه مسلم لكن يطبق العلمانية في الرواق الحكومي، ويعرف أن المصطلحات مهما تضخمت فهي لن تؤتي ثمارها إلا إذا كان هناك عمل ومتابعة ميدانية.
لكن هناك من خارج تركيا وتحديدا من قبل الحركات الإسلامية من يؤكد دائما أن حزب العدالة والتنمية توجهه إسلامي، وكأن الإشكالية هي في التسمية فقط!
بل ذهب العديد من المنظرين الإسلاميين إلى التعمق في تشريح أفكار هذا الحزب وإلصاق به عنوة اسم الحزب الإسلامي، على تأكيدات أصحابه بأنهم غير إسلاميين، وأنهم علمانيون.

صحيح أن التجربة ناجحة بامتياز ليس لأن حزب العدالة والتنمية حزب إسلامي، ولكن لأن الحزب رغم جذوره المفاهيمية التي غرفت من معين الحركة الإسلامية الواعية بقيادة البروفيسور في الميكانيك نجم الدين أربكان، استطاع أن يتحايل على الواقع التركي الملغوم، واستطاع أن يهرب من المصطلحات الإسلامية الفضفاضة إلى ساحة العمل الحقيقي الجاد، ويطمئن بذلك القيادة العسكرية على أنه حام أمين للصرح العلماني الكبير.

فاهتماماته لم تكن أبدا اهتمامات هامشية تقتصر على اللغط الذي يريد بعض الإسلاميين عندنا تسويقه على أنه من صلب الثقافة السياسية، والدخول في متاهة التصادم مع القوة العسكرية.
وقد حدث للجبهة الإسلامية للإنقاذ – رغم تعرضها للظلم فعليا- أن تصادمت مع السلطة العسكرية قبل أن تصل للحكم رغم أن الحكاية في كليتها لم تكن تحتاج لذاك التصادم الذي خلق جرحا غائرا من الصعب أن يندمل، وقد رأى العالم كيف أن أرواحا سقطت من أجل شعار بلدية إسلامية، بدلا من شعار من الشعب وإلى الشعب الذي اعتبره شيوخ الجبهة الإسلامية حينذاك أنه شعار غير إسلامي.

وعلى هذا الأساس وعلى تأكيد أردوغان وغول أنهما ينتميان إلى حزب علماني قلبا وقالبا، فإن الواحد لا يسعه إلا أن يحترم هذا الحزب العلماني الذي آمن بالعمل الميداني مصحوبا بالسلوك الإسلامي الحقيقي، ولهذا ما انفك أردوغان يردد موجها كلماته لمن يريد قطع الطريق عن الوصول إلى سدة الرئاسة "إن هذه الأمة دفعت ثمنا غاليا ومؤلما عندما فقدت أسس الاستقرار والثقة لكنها لم تعد تسمح ولن تسمح أبدا للوصوليين الذين ينتظرون ويفتحون الطريق أمام الكارثة أن يشقوا طريقهم" فلماذا إذن التباكي على إسلامية حزب العدالة والتنمية، وهو يؤكد علمانيته، وما الضير في علمانيته إذا كانت هذه العلمانية استطاعت أن تحل مشاكل الأتراك، واستطاعت أن تحافظ على لقمة عيشهم، إذا فاتركوا هذا الحزب يعمل في صمت.

المصدر: جريدة الشرق  

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version