لم تعد ظاهرة الانتحار بالحزام الناسف لاسيما في العالم العربي تحتاج في أغلب الحالات إلى تفسير مدقق، أو إلى توضيح للملابسات التي تحيط بأصحابها، فكل ما في الأمر أن هذه الظاهرة في ظل شيوع اليأس في أي حل سياسي واقتصادي على المدى القريب، أمست تشكل عنوانا بارزا للتفاعل مع هذا اليأس المفروض على كل مناحي الحياة.

هناك من يرى في هذه الظاهرة الغريبة على مجتمع مسلم، يعرف قيمة الحياة، ويدرك مدلول ما تعنيه لفظة إسلام، كدين وضع كل شيء ضمن أطره الصحيحة، إنها مجرد موجة عابرة سرعان ما تتقلص لو أن هناك تعاملا أمنيا حازما حيالها.

لكن يتناسى البعض – خصوصا الجانب الرسمي من هذه الأنظمة العربية – أن الظاهرة لم تعد منفصلة كلية عن فكرة أن أفضل رد على الأوضاع المتردية التي يعيشها العالمان العربي والإسلامي هي بطريقة نسف كل ما تبنيه هذه الأنظمة العربية التي بحسب إجماع الجميع من قاصيه إلى دانيه، لم تعد أنظمة يصطلح على أنها فاسدة فقط بل انتقلت إلى مرحلة جديدة وهي مرحلة الإفساد.

وكي نفهم الأسباب التي دفعت هؤلاء الشباب إلى قتل أنفسهم عن طريق الانتحار رغم أنهم لم يعرفوا الحياة على حقيقتها، فضلا عن معرفتهم لعلاقة الموت بالإسلام، وبما يحيط بهم، فإنه يتوجب البحث في الفكر الذي يسيطر على عقول هؤلاء الشباب.

صحيح أن الأوضاع المزرية التي تطرقنا لها سلفا هي العامل الأكبر في تغذية هذه الظاهرة، لكن المشكلة الكبرى هي في جوهر تفكير هذا الشباب اليائس من أي حل آخر سوى قتل نفسه وقتل الناس معه. زاد من غضبي على ما جرى لأبناء بلدي الجزائر في الانفجار الأخير الذي مس قصر الحكومة، ومركزاً للشرطة، ما قاله أحد المنتمين للحركة الإسلامية أبو جرة سلطاني، عندما سألته لينا زهر الدين من قناة الجزيرة عن مغزى هذا الانفجار، أن التفجير لم يمس شيئا سوى الطوب والاسمنت. ونسي هذا الوزير الذي كان يقول إن مكتبه كسر زجاجه أن أشلاء الأبرياء في الخارج كانت متناثرة تحت الطوب والأسمنت.

للأسف هذا التفسير الساذج لما حدث هو الذي مازال يدلل على أن كل شيء على ما يرام، وأن ماحدث هو مجرد لعب عيال، أو بشرح أوفى أن الشاب مروان بودينة الملقب بمعاذ بن جبل الذي قاد السيارة ليفجرها في مبنى قصر الحكومة، هو مجرد شاب مخبول لم يكن يدرك مغزى فعلته، أو لم يكن يعرف ماذا يريد.

بل نسي أبو جرة سلطاني أن الانفجار الانتحاري هو مجرد نتيجة لكثير من المقدمات التي لا تزال معلقة لم يتم التطرق إليها بالدراسة والتحليل الموضوعي. من قبل كل الأنظمة العربية. الذين يموتون عن طريق الانتحار لا أحسبهم يحبون هذا الموت إلا من أجل شيء يرونه ذا قيمة، وما حدث في المغرب والجزائر هو من قبيل أن الموت لابد منه لتحقيق مأرب يبدو عظيما.ولو أن هذه الأعمال الانتحارية هي مفصلة على مقاس تنظيم قد يكون أكبر بكثير مما يطمح إليه هؤلاء الانتحاريون، حتى لو وعدوا بالفردوس الأعلى يوم القيامة.

عندما نحاول مدارسة فعل انتحار هؤلاء الشباب الذين أعمارهم هي بين 18 عاما و22 عاما نجد أنه إلى جانب عامل الأوضاع، وعامل الفكرة نفسها هناك عامل الفئة المقصودة وهي الفئة الشبانية التي تقوم بهذا الإثم.

والخوف الكبير أن تتحول هذه العمليات الانتحارية من مجرد ظاهرة إلى عقيدة راسخة في عقول الشباب الصاعد. والخوف الأكبر أن تبقى هذه الأنظمة العربية في منأى عن التفكير الصائب الذي يظل يبحث في النتائج بدلا من البحث في المقدمات، معتبرة أن القضية برمتها هي قضية أمنية لا علاقة لها بالأوضاع العامة التي تسير شؤون الناس.

الشباب الذين فجروا أنفسهم سواء في المغرب وهما من أسرة واحدة ، أو في الجزائر كلهم ينحدرون من بيئة مجتمعية بائسة، وهي البيئة الخصبة لإنتاج الصنف الجديد الذي سيكون وقودا لمرحلة دموية أخرى تعرفها سواء المغرب أو الجزائر.

وهذه الفئة العمرية مقصودة بدقة متناهية من قبل سواء القاعدة أو غير القاعدة، وكما قال حسان حطاب زعيم" الجماعة السلفية للدعوة والقتال" الذي تبرأ من كل هذه الأعمال الإجرامية، إن ما حدث في الجزائر – وطبيعي ما حدث أيضا في المغرب – هو من صنع الداخل بأوامر خارجية.

وهذا في حد ذاته جيد لفهم ملابسات ما يجري على الساحة، والوقوف على أول خيوط هذه الأحداث من أجل تفكيك الشيفرة التي تسير هذه الفئة الشبانية أولا، وما هي الأهداف العامة المرجوة ثانيا، وكيف محاربة هذا التفكير ثالثا.

ورغم أن من يقف وراء هذه التفجيرات لن يتوقفوا عن تنفيذ مشروعهم الذي بدأوه، وإن كان مشروعا محاطا بعلامات استفهام كثيرة، استنادا لما نراه من استعمالهم لمراهقين في عمر الزهور لايفقهون شيئا من ألاعيب الكبار سوى تنفيذ ما يملى عليهم بدعوى أنهم يحققون أغراضا جليلة للدين، وللأمة.

وحسب كثير من المراقبين فإنه إذا كانت هذه التفجيرات هي من ترتيبات القاعدة، فهذا يعني أن القاعدة قد خسرت نفسها وخسرت مشروعها الذي ربما كانت أغلب الشعوب العربية الإسلامية تساندها فيه، وهو محاربة أمريكا والوجود الأمريكي في بلاد المسلمين، كما أنها في ذات الوقت فقدت ذاك التعاطف الذي كانت تحظى به من طرف الأمة على أن قضيتها عادلة، بل ألبت عليها المجتمعات العربية مادام قد تبين أنها لا تفرق بين ما هو أمريكي وغير أمريكي.

وكثير من الناس من بدأوا يراجعون أنفسهم ويراجعون حتى عواطفهم التي كانت متعلقة بهذا التنظيم، لاسيما بعد أن تحول هذا التنظيم إلى وحش كاسر يقتل بالجملة والمفرّق. وفي أغلب الأحوال فإن هذه التفجيرات ساهمت بقسط كبير في ضرب بورصة أسهم القاعدة خاصة في بلاد المغرب العربي بحيث جعلتها – أي الأسهم – تنزل إلى الحضيض لدى كل فئات الناس من مختلف الأطياف.

وإذا كانت هذه التفجيرات هي لعبة خارجية كما عبر عنها حطاب – الذي لم يبن جنس هذه التفجيرات بشكل صريح – فإن المسألة أصبحت تتسمى باسم القاعدة كتبرير من أجل التدخل الأمريكي، وقد جاء الخبر اليقين من قبل واشنطن عقب الانفجارات في الجزائر ربما بساعات قليلة.

وكانت الرسالة تحمل عبارات الود والتعاطف والتعاون من أجل كسر هذا الأخطبوط الخطير الذي يسمونه القاعدة. إن هذه التفجيرات قد تسهم في بلورة الفكرة أكثر لدى الرأي العام في ما تعلق بمسألة التعاون الأمني الذي تدعو إليه واشنطن، وهذا جانب من معركة أمريكا في العالم، ليس فقط من أجل محاربة القاعدة – وهي حجة واهية – ولكن من أجل تفكيك الخطاب الإسلامي كلية وجعله خطابا متماهيا مع مخططها الرامي إلى احتواء العالم من الخليج إلى المحيط.

وإنني أحسب أمريكا نجحت بعد تفجيرات المغرب والجزائر إلى حد بعيد في الوصول إلى مراميها، بعد الرسالة التي أرسلها البيت الأبيض إلى المسؤولين في الجزائر، لكن أحسب أيضا أن المغرب وكذا الجزائر – ولو أن تونس تريد أن تتخفى بعد الأحداث التي جرت على أراضيها هي أيضا بأن من قام بالعمليات الإرهابية حسب وصف النظام التونسي هم جزائريون – سوف يخسران معركة الإرهاب نفسه لو انساقا مع طلب واشنطن، وحاولا التعامل مع الظاهرة على أنها مجرد انتقال الفكر القاعدي من المشرق نحو المغرب العربي، وأن العمليات الانتحارية هي عمليات أمنية بالدرجة الأولى، لا تتعلق البتة بالمسألة الفكرية، وبقضية الهروب من التشخيص السليم للظاهرة.

ولو أنني لم أعد أخشى من الظاهرة ذاتها قدر خشيتي من أن تتحول أي هذه الظاهرة الغريبة فعلا عن مجتمعنا – ولو أن عدد الانتحارات العادية هو في تزايد لمن أراد أن يعرف – إن في المغرب الشقيق أو في الجزائر إلى عقيدة يتمسك بها الشباب الذين لم يعد يهمهم من الحياة سوى نسف أجسادهم، وقتل الأبرياء.

عبدالباقي صلاي
جريدة الشرق
18 أبريل 2007

المصدر: جريدة الشرق  

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version