حلقة في كيماوية تغيير السلطة مع استمرار الحكم الفعلي

التغيير الذي لا يغير شيء: بين تغيير رجال المرحلة وثبات النظام الحاكم ، بلخادم رجل الساعة الراهنة أي تغيير نقصد؟

سألني صديق قبل أيام، عن مغزى وطبيعة تعيين السيد بلخادم رئيسا للحكومة مكان احمد اويحي، فكان جوابي أنه، قبل الحديث عن هذا المغزى وهل يمثل هذا التعيين تغييرا فعليا، لا بد بادئ ذي بدء من تعريف ما الذي نقصده بالتغيير، هل هو تغيير الوجوه أو تغيير النكهة السياسية التي ينتمي إليها الوافد الجديد سواء كان رئيسا للحكومة أو رئيسا للجمهورية، أيا كان لونه السياسي المشكل لجميع ألوان الطيف، إذا كان الأمر كذلك فيمكننا عندها الإقرار بأن الجزائر تمثل نموذجا طلائعيا يتصدر دول التغيير بامتياز، وهي التي شهدت تعاقب عشرات رؤساء الحكومة ورؤساء الجمهورية، ونظمت عددا لا يحصى من الانتخابات انتهت كلها ( أو تكاد…باستثناء واحدة) في جو احتفائي دون أن تتعرض أي منها لإيقاف مسارها ( مع الاستثناء الوارد أعلاه).

 

لكن إذا كنا نقصد بالتغيير، ذلك الذي ينجم عن اختيار الشعب، في جو من الحرية والنزاهة والمنافسة الشريفة، اختيار ليس لغير الشعب يدا فيه، اختيار يكرس سيادة تامة للشعب من أجل تقرير مصيره واختيار ممثليه والبرنامج الذي يحظى بتزكيته وثقته عن طريق صناديق شفافة ومراقبة تعددية ونزيهة، تعبيرا عن إرادة حقيقية غير مزيفة تخترق قاعدة " المعمول به" القائمة على حبك اللعبة قبل أجراءها، وعلى تشكيل الساحة السياسية وراء ظهر المعني الأول بالقضية، أي الشعب، بحيث تقرر أقلية مشكلة من جنرالات وأشيعهم، غرباء عن توجهات الشعب وطموحاته، مصير هذا الشعب، كما فعلت طيلة عقود انطلاقا من دهاليز المختبرات المظلمة التابعة للأجهزة الخاصة، أما والحالة هذه، فبوسعنا القول أن مجيء السيد بلخادم، ما هو إلا حلقة في كيماوية التغيير المعتمد إلى وقتنا هذا، ودليلنا في ذلك كما أسلفنا القول أن منذ استقلال البلاد ورغم عشرات الانتخابات التي تم تنظيمها، الوحيدة التي أجهضت، هي، للمفارقة ( بل وبسبب ذلك) الانتخابات التي توفرت على كافة شروط النزاهة والشفافية، ومن ثم حق لنا اعتبارها التعبير الصادق الأول والأخير على إرادة الشعب، وهي تلك التي جرت في ديسمبر 1991 وعرفت فوز الجبهة السلامية للإنقاذ وجبهة القوى الاشتراكية وجبهة التحرير الوطني. هذه المفارقة كفيلة بتوضيح وتقديم الدليل على سبب ومبرر إجهاضها دون سوها، لأنها تجرأت على ارتكاب المحظور الذي لا يغتفر، تجرأت على " حقها في ممارسة" التغيير الذي لا ينبغي أن يحدث.

تغيير الوجوه طبقا لمقتضيات المرحلة ضمن استمرارية ثبات الحكم الفعلي

هذا التغيير كنت أتوقعه، منذ مدة كسائر المتتبعين للشأن الجزائري، لا تنجيما ولا قراءة في الفنجان، كل ما في الأمر أن منذ بداية الحديث عن المصالحة، كان يفترض أن بالقدر الذي يحرص أصحابها على انتقاء نصوصها، يكون حرصهم على اختيار رجالها، ولا يعقل أن تكون مصالحة بواجهة تفوح  منها رائحة الاستئصال، يقودها رئيس حكومة، السيد احمد أويحية، المعروف باستئصالية أشد شراسة من استئصال شارون للفلسطينيين، وهذا في وقت يدور الحديث عن المصالحة والعمل ما في الإمكان لإقناع الداخل كما الخارج، بصدق التوجه والنية. وللأمانة يشهد للرجل أنه لم يخفي يوما توجهه الاستئصالي الذي ما برح يفتخر به، لكن مع تغيير وجهة رياح الفترة الراهنة، وجد السيد اويحي  نفسه مرغما على  التأقلم على مفردات لم يألفها واستعصى عليه النطق بها، ورغم محاولته العبثية في الاعتناق المتأخر لمنظومة غريبة عليه وركب القطار الجديد، بدا في صورة ذئب يحاول طمأنه الخراف، مما أقلق أركان الحكم، من خشية ما يشكل بقاء الرجل من تهديد على تسويق المشروع، وما يخدش في مصداقيته وهو ما حتم  الاستعاضة عن رجل تفوح منه رائحة الجريمة والكراهية. كان أويحيى مناسبا لمرحلة ومهمة انقضت ولم تعد صالحة، وجيء برجل على مقاس المرحلة الراهنة. ألسنا في عهد المصالحة؟ إذن فلا بد من وجه يبعث على الاطمئنان، لزيادة حظوظ التفاف الشعب حول مشروع المصالحة والعفو العام، ومن باب أولى إذا علمنا أنه بعد انقضاء نصف مدت صلاحيته لم يحقق هذا المشروع ما توقعه أصحابه.

هل كلامي هذا فيه تجني على السيد بلخادم، وانتقاص من قدرته أو حكما على نواياه، واستباق لأحداث لا يمكننا تقيمها ولما يمر عليها أياما معدودات؟ ليس الأمر كذلك بكل تأكيد، هذه القراءة تعتمد في المقام الأول على مجريات تاريخ مسار الحكم والسلطة في الجزائر طيلة عقود من الزمان، وخاصة بعد الانقلاب، كما سنبينه لاحقا. كما أن الأمر ليسا قدحا في الرجل بقدر ما هو استقراء لمحطات تاريخية وتشريحا لخصائص السياسة المتبعة منذ استقلال البلاد، بل وحتى قبله، القائمة على فعل "كل شيء" ضمن اتفاق ضمني بين الفاعلين من أصحاب الحكم الحقيقي، بما في ذلك التضحية بمن تحتم التضحية به لبقاء حقيقة الحكم على حالها أيا كان هذا المضحى به، دون استثناء، فذلك هو الثمن الواجب دفعه ويتعين على الجميع ( من الاستبلشمنت) الخضوع له. هذه هي القاعدة المتفق عليها والمعمول بها منذ نصف قرن من الزمان، القاعدة التي تشكل الضمانة الوحيدة لجميع الأطراف والأجنحة داخل هذا النظام، لأن بقاءه كما هو، يحفظ لهم كافة امتيازاتهم، كما أنه يمثل ورقة حصانتهم من كل مخاطر كشف ما لا يرغبون كشفه، ويجنبهم المتابعات المحتملة التي تهددهم على ما اقترفوه في  حق الشعب والبلاد، وطالما هذا هو الثمن للإفلات من المحاسبة والعقاب، فمن الطبيعي أن يقبل الجميع المعادلة، على مراراتها.

وبالتالي، فإن هذا التغيير هو تحصيل حاصل، وكان فقط ينتظر مناسبة الإعلان الرسمي عنه، وهو ما يفسر الزوبعة التي استبقته بأيام قليلة في شكل نزع الثقة من أويحيى نتيجة صراع ظاهري مفتعل من طرف جبهة التحرير الوطني. ومن هذا المنطلق يصعب التصديق بأن تنحية اويحى واستبداله ببلخادم، يعبر كما تبدو الأمور في شكلها "الظاهري" عن اقتناع السلطة بالتحول من الاستئصال الى المصالحة، هذا بالإضافة الى أن هذا التعيين جاء في إطار عملية مقايضة، يتم بموجبها تعيين زعيم جبهة التحرير مقابل دعم هذا الأخير تعديل دستوري يبيح للرئيس تجديد عهدة رئاسية ثالثة.

من يصنع السياسة في الجزائر؟

الملاحظ والمتتبع لواقع البلاد يدرك أنه رغم تعاقب رؤساء حكومات عدة ورؤساء دولة كثر من مختلف المشارب ظاهريا على الأقل، لم يتغير شيء في دنيا الشعب الجزائري وذلك منذ استقلال
البلاد. والسبب يعود لأمر واحد وهو أن ليس هؤلاء المتوافدون على كراسي " السلطة التنفيذية" هم من يصيغ السياسات والبرامج ويدير البلاد كما يفترض منهم ( مع العلم أن ولا أحد منهم جاء عن طريق اختيار الشعب وحاصل على تزكيته وثقته، وهي في ذات الوقت ورقة ماكرة يستغلها الفاعلون للتحكم المطلق في " الموظفين" الذين عينتهم في تلك المناصب، توظيفا وابتزازا لفقدانهم الشرعية). إن صانع السياسات لا يظهر للملء ( يحكم دون انتخاب) فهو لاعب حاسم ودائم لا يعرف التغيير ( بصفته نظاما لا رجالا) ، مهما كانت الطاقية التي تظهر بها الواجهة التنفيذية، سواء من حيث الرجال الذي يعينهم او السياسات التي يزعم تبنيها، صانع لا يظهر في شخصه وتتجلى أثاره أمام العالم، يترك الواجهة تتغير للتنفيس ويحتفظ بحقيقة الحكم والسلطة.

المرة الوحيدة التي كادت الجزائر أن تشهد تغييرا حقيقيا أي نابع عن اختيار الشعب وثقته، هي تلك التي انبثق جزء منها على نتائج انتخابات 26 ديسمبر 1991، وتم إجهاض دورها الثاني في حمام من الدم لا تزال البلاد تعاني مخلفاته، وهو التغيير الوحيد الذي لم يرضي أصحاب المخابر المظلمة، لأنه لم يكن من مبادراتهم ولا يتحكمون في مجرياته. كان بحق التغيير الوحيد الذي كان بوسعه إحداث قطيعة مع نظام التناوب المزيف المعتمد منذ استقلال البلاد، ويبشر بوضع حد لنظام عسكري دكتاتوري يستأثر بحقيقة السلطة ويفوض وكلاء للاضطلاع بدور تصريف الأعمال اليومية، تغيير لا شك أنه كان سيفتح أمام الشعب طريق جديد في الحكم وممارسة السيادة المباشرة عن طريق الاختيار، ويكسب الشعب حق التعيين وإنهاء المهام، اختيار انبثق عنه منتخبين لا يأتمرون بأوامر المخابر ولا يرضون بلعب الدور الذي ارتضته كل القيادات المتغيرة منذ استقلال البلاد.

1 2 3

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version