* والأخطر من هذا كله، إن القانون الجديد والمراسيم التنفيذية الرئاسية المزمع تطبيقها بموجب ذلك القانون تضمن إفلات المسئولين عن الفظائع المروعة من العقاب وتكمم الأفواه بشكل تام ونهائي إزاء كل نقاش عام حول الأزمة وما خلفته من دمار وذلك عبر سن ترسانة قانونية رادعة، منتهكا بذلك القانون الدولي فيما يتعلق بالجرائم الخطيرة بحيث تجعل كل نقاش في هذا الصدد مستحيلا بفعل إصدار مواد صريحة في هذا الباب تعاقب من يخوض في الموضوع، ويعتبر ذلك مساسا خطيرا بحقوق الإنسان في الجزائر، فتمنح هذه المراسيم العفو الشامل الغير قابل للنقاش أو المراجعة لصالح قوى الأمن والمليشيات المسلحة من قبل السلطة والمسئولة عن اقتراف جرائم تدخل في نطاق جرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية، دون أن تجرى إلى يومنا هذا أي تحقيق مستقل نزيه فيها؛

* وكما توقعه المهتمون بشأن حقوق الإنسان، فهذه المراسيم جاءت لتؤكد المخاوف بشأن حرمان الشعب الجزائري والمجتمع الدولي برمته من معرفة الحقيقة وحرمان ضحايا التعسف وعائلاتهم من حقوقهم العادلة إذ تجردهم بموجب هذه المراسيم من حقهم المشروع في تقديم قضاياهم أمام المحاكم في لجزائر ومن ثم عرقلة كل مسار يروم كشف الحقيقة أمام هذه المحاكم، وتقديم المسئولين عن ارتكابها أمام هذه المحاكم أيا كانوا ومهما كانت مراتبهم آو مواقعهم في السلطة آو خارجها. وبذلك تنتهج السلطة مسارا مغايرا للمسار الذي يضمن تفادي اقتراف في المستقبل مثل هذه الجرائم إذ تنص المادة 45 على ما يلي: "لا يمكن إجراء أي متابعة سواء على المستوى الفردي أو الجماعي بحق أفراد قوى الجيش والأمن في الجمهورية إزاء أعمال قاموا بها بقصد حماية الأشخاص والممتلكات، وحماية الوطن والحفاظ على مؤسسات الجمهورية الجزائرية" وتذهب المادة 44 أبعد إذ تصف الأعمال المقترفة من قبل هذه القوى بأنها قد "أنقدت الجزائر وحافظت على مكتسبات الوطن" فيمجد المشروع مرتكبي الجرائم ضد البشرية رغم أن هذه الجرائم تبلغ من حيث الخطورة وسعة نطاقها درجة جرائم الحرب، فراحت النصوص تصنف تلك الجرائم على أنها " أعمال انقدت البلاد " ومنحت مرتكبيها ضمانة للإفلات من العقاب بشكل شامل وغير مشروط، علما أن هيئات دولية معتمدة في هذا الشأن مثل الأمانة العامة للأمم المتحدة وغيرها من الهيئات لأممية قد صرحت على أنه لا يجوز بأي حال من الأحوال منح العفو العام والشامل أو غيرها من التدابير المماثلة بحيث يفلت مرتكبي الجرائم الخطيرة لحقوق الإنسان من العقاب، وهي الجرائم التي لا تلغى بالتقادم. من جانب آخر، صنفت السلطة الضحايا إما إرهابيين يتوجب اعترافهم بالتهم الموجهة إليهم، إذ اعتبرت كل من وقف ضد انقلاب يناير 1992 على أنه إرهابي أو مساند للإرهاب، ويتوجب عليه التوبة والتكفير عما بدر منه ليستفيد من تدابير العفو، وإما "ضحايا المأساة الوطنية" فراحت تعتم على المسئولين عنها وكأنهم أشباح لم يأتي على ذكر احد منهم؛
 
* وفيما يتعلق بملف المفقودين الذي يدمي القلوب، خصصت هذه المراسيم تعويضات مالية لعائلاتهم غير أنها اشترطت في ذلك قبول ذويهم استلام شهادة وفاة للمفقودين، أي رشوة رسمية مقابل السكوت على معرفة الحقيقة إزاء المفقودين، يأتي ذلك بعد سنوات من وعود الرسميين غير الموفى بها في إلقاء الضوء وكشف الحقيقة في هذا الصدد، ويرى في دلك المتتبعون لشؤون الجزائر محاولة أخرى لشطب نهائي لملف المفقودين؛

* والقانون لا يتوقف عند حد منع المتابعة القضائية بل ويغلق الأبواب أمام كل نقاش عمومي بشأن جرائم ما بعد الانقلاب 1992، إذ تنص المادة 46 على ما يلي: "يعاقب بالحبس لمدة تتراوح بين 3 إلى 5 سنوات سجنا وغرامة مالية قدرها بين 250000 و500000 دينار كل من يستغل جراح المأساة الوطنية، سواء كان ذلك من خلال تصريحات أو كتابات أو على أي نحو آخر، للمساس بمؤسسات الجمهورية الجزائرية وإضعاف الدولة وتشويه شرف أفرادها الذين خدموها بكرامة أو تلطيخ صورة الجزائر على الصعيد الدولي." وتأتي هذه المادة لتحرم الضحايا وعائلاتهم والمدافعين عن حقوق الإنسان والصحافيين وكل جزائري وجزائرية من حق الشهادة وانتقاد جرائم قوى الأمن المرتكبة طيلة عمر المحنة ما بعد الانقلاب، وتبطن المراسيم تهديدا لعائلات المفقودين الذين يحاولون مواصلة حملتهم للبحث عن الحقيقة بشأن ذويهم.

يستخلص مما سلف أن السلطة في الجزائر تتجاهل كليا بل وتزدري الحقيقة الجلية والتي مفادها أن السلم والمصالحة هما نتيجتان طبيعيتان لمسار يعالج الأسباب الحقيقية للازمة، التي لا يمكن أن تحل بدونها.

إن واضعي هذه المراسيم قاموا بتمجيد مرتكبي جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية من خلال قوانين جائرة تحميهم وتوفر لهم الغطاء للإفلات من العقاب، غير أنه سيسجل التاريخ على الرئيس بوتفليقة، الذي لم يكن طرفا في المحنة، لا في نشوبها ولا في تغذيتها، إن لم يستدرك الأمر، أنه فوت على الشعب الجزائري فرصة ثمينة أخرى للخروج من الأزمة.

ولا يفوتنا في هذا المقام أن نجدد، قبل فوات الأوان، دعوتنا للنظام في الجزائر لاحترام حقوق كافة الأشخاص الذين تعرضوا لانتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان، ابتداء من الحق في معرفة حقيقة ما جرى طيلة عمر الأزمة الدامية إلى تحقيق العدل للجميع فضلا على تعويض المتضررين، أصحاب الحقوق دون مقايضة ذلك بأي شرط، ناهيك عن السكوت، فمن شأن مثل هذه الضمانات أن تعبد الطريق لمصالحة صادقة ترجع الأمل الحقيقي.

وعلى أشراف الأمة أن لا يسكتوا وأن لا يركنوا أمام محاولات النظام الرامية إلى إجهاض الحقيقة ونسيان الآلاف المعذبين والقتلى والمفقودين الذين سيبقون جراحا غائرة تؤرقنا وحية في ضمائرنا إلى أن يكشف عن مصيرهم، أحياء كانوا أم غير أحياء، وهو ما يوجب على الشرفاء مواصلة عملهم للمطالبة بتحقيق نزيه تقوم به هيئات مستقلة مشهود لها بالنزاهة والمهنية، سواء من داخل البلاد أو خارجها، بعيدا عن تدخلات أجهزة الجلاد، ولا نقبل أقل من الحقيقة، كل الحقيقة ولاشيء غير الحقيقة.

بقلم: د. رشيد زياني شريف
نائب منتخب عن مدينة سيدي بلعباس (ديسمبر 1991)

 

1 2

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version