بعد الإفراج عن بعض معتقلي الرأي من شباب الحراك عشية الاحتفال بذكرى انطلاقة ثورة التحرير، رأى البعض في ذلك بصيص أمل لعله يكون بشارة، تفتح نافذة من الانفراج، تدل عل قدر من التعقل لدى أجهزة النظام الحاكم وإدراكهم أن المقاربة الأمنية الحصرية والتعسف في كتم أنفاس المواطنين من خلال الملاحقات القضائية والمضايقات والاعتقالات، لم ولن تخدم البلاد بل إنها تعمّق الأزمة وتجعلها عصية على الانفراج بما يعود بالخسارة على البلاد والعباد.
كان الأمل معلقا على أن تنتهز السلطة الفرصة بهذه المناسبة الوطنية التاريخية، لاستكمال العملية بإطلاق سراح كافة معتقلي الرأي، من مختلف التوجهات السياسية، على أن يشمل ذلك عشرات معتقلي التسعينات الذين تجاوزت مدة اعتقالهم 30 سنة ولا يزالون رهن الاعتقال السياسي التعسفي، وكذلك عددًا غير قليل من قيادات الجبهة الإسلامية للإنقاذ، المعتقلين منذ أكثر 13 شهرا دون محاكمة، جريمتهم الوحيدة، أنهم أعربوا من خلال رسالة مفتوحة قرأها السيد علي بن حجر في شريط مصوّر، طرح فيها خريطة طريق لحل سلمي شامل غير إقصائي، وجاءت كلمته في شكل توصية متزنة بعيدة كل البعد عن أي نوع من أنواع الصدام أو التحريض، شخّص فيها الوضع المأسوي الذي تعيشه الجزائر، محذرا من الانقسامات المتنامية بفعل السياسات المتبعة، والفساد المستشري في أوساط النخب الحاكمة، مسجلا في الوقت ذاته مستوى الفقر المدقع الذي يكسر ظهر فئات واسعة من المجتمع، ومحذرا من تعاظم مستوى اليأس الذي بلغ حدا جعل الشباب يركبون قوارب الموت فرارا من وضع مزرٍ بلا أفق، ومشيرا إلى الأزمة السياسية الخانقة بفعل التضييق على الحريات واللا استقرار الذي من شأنه أن يفتح الباب على كافة أشكال الفوضى. فهل يُعقل أن يُسجن المرء لمجرد تعبيره سلميا وبكل مسؤولية عن رأيه وطرحه ما يراه من حلول للخروج من الأزمة؟ هذا البيان الذي قرأه السيد علي بن حجر نيابة عن مجموعة من أطر الجبهة الإسلامية للإنقاذ، تسبب لهم في السجن، دون مراعاة لسنهم، علما أن معضهم تجاوز الستين من العمر وبعضهم السبعين، ولا مراعاة لأوضاعهم الصحية، الحرجة بالنسبة لعدد منهم. وقد أبلغوا محاميهم في زيارة أخيرة لهم، أنهم دخلوا في إضراب عن الطعام، احتجاجا على التعسف الذي يتعرضون لهم طيلة مدة احتجازهم.
واللافت للانتباه أنه، فضلا عن الاعتقال التعسفي الذي يتعرضون له من قبل السلطة، فقد تم تجاهل وضعهم بشكل مريب من قبل معظم الطبقة السياسية والحزبية ومنظمات المجتمع المدني، خاصة المعنية بالدفاع عن الحريات وحقوق الإنسان، بما يوحي وكأن التضامن مع المظلومين من معتقلي الرأي، مرهون بهوية الضحايا ويتوقف على مدى تقاطع المواقف معهم أو اختلافها، متجاهلين أن التضامن السليم يكون مبدئيا، لا يفرق بين هذا وذاك، بل يشمل جميع ضحايا التعسف والظلم والاضطهاد.
إنه لأمر مؤسف، يهدد بتعميق الشرخ بين الفئات المناضلة في المجتمع من أجل دولة الحق والقانون، أن يقع بعض المناضلين رهينة قوالب أيديولوجية أو فكرية، تجعلهم يديرون ظهورهم لضحايا الظلم والاضطهاد إذا كانوا من تيار فكري أو ايديولوجي أو سياسي غير تيارهم، ويتجلى ذلك بشكل أكثر حدة، عندما يكون ضحايا التعسف من أنصار وأطر الجبهة الإسلامية للإنقاذ، بصرف النظر عن اتفاق المرء أو اختلافه معهم.
ثم هل يُقبل مبرر هذا الصمت، كوْن المعتقلين متهمون بتهمة الإرهاب أو المساس بالأمن أو التحريض وما إلى ذلك من تهم سياسية الغرض منها شل حركة المجتمع وردعه وإسكات كل الأصوات المنتقدة للوضع الراهن والمطالبة بفتح المجالات السياسية والنضالية (من قبيل المادة 87 مكررة)؟ وهل خفي عن “الساكتين” أنها تهمة جاهزة تلصق بكل من تريد السلطة إسكاته، فتصنفه ضمن قائمة الإرهاب، وأن لا أحد في مأمن من أن يكون “الإرهابي” القادم على القائمة؟ ثم هل خشية التعرض لتهمة مساندة هؤلاء والتضامن معهم، يعفيهم من تبعات السياسية والأخلاقية لما يتعرضون له، وهل فاتهم أن هذا الموقف، يفتح الباب لتغوّل السلطة ويشجعها على توسيع نطاق تعسفها ليشمل الجميع، من خلال استخدام الردع والتخويف، وجعل من فئة مثلا يردع لجميع؟
إن السكوت على ما يتعرض له هؤلاء لن يضع غيرهم في مأمن، بل يجعلهم عرضة لتعسف قادم حيث لا يجدون من يتضامن معهم.