محطات مفصلية في خبرة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين

مصطفى محمد حابس : جينيف / سويسرا

النصيحة معلم بارز من معالم الأخوة الإسلامية، وهي من كمال الإيمان، وتمام الإحسان، إذ لا يكمل إيمان المسلم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، وحتى يكره لأخيه ما يكره لنفسه، وهذا هو دافع النصح خصوصا.
روى البخاري ومسلم عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ : ” بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى إِقَامِ الصَّلَاةِ ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ، وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ .”
وروى مسلم عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ” ( الدِّينُ النَّصِيحَةُ ) ، قُلْنَا لِمَنْ ؟ ، قال : ( لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ ).
وقنن العلماء للنصيحة آدابا عامة ينبغي أن يتحلى بها الناصح الشفيق، منها خصوصا
أن يكون دافعه في النصيحة محبة الخير لأخيه المسلم، وكراهة أن يصيبه الشر!!
وبالتالي بات النصح للأفراد وللمؤسسات وحتى الدول مطلب شرعي لا يسعه تركه الانسان متى قدر عليه ورجا انتفاعهم به، جاء في شرح النووي على مسلم: ” والنصيحة لازمة على قدر الطاقة إذا علم الناصح أنه يقبل نصحه ويطاع أمره وأمن على نفسه المكروه، فإن خشي على نفسه أذى فهو في سعة.”
وقال فيه أيضا: وأما نصيحة المسلمين ـ وهم من عدا ولاة الأمر ـ فإرشادهم لمصالحهم في آخرتهم ودنياهم وكف الأذى عنهم، فيعلمهم ما يجهلونه من دينهم ويعينهم عليه بالقول والفعل، وستر عوراتهم، وسد خلاتهم، ودفع المضار عنهم وجلب المنافع لهم، وأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر برفق وإخلاص، والشفقة عليهم، وتوقير كبيرهم، ورحمة صغيرهم، وتخولهم بالموعظة الحسنة، وترك غشهم وحسدهم، وأن يحب لهم ما يحب لنفسه من الخير، ويكره لهم من يكره لنفسه من المكروه، والذب عن أموالهم وأعراضهم وغير ذلك من أحوالهم بالقول والفعل، وحثهم على التخلق بجميع ما ذكرناه من أنواع النصيحة وتنشيط همهم إلى الطاعات. اهـ.
وجاء في الموسوعة الفقهية: ذهب الفقهاء إلى أن النصيحة تجب للمسلمين.. وقال المالكية: النصيحة فرض عين سواء طلبت أو لم تطلب، إذا ظن الإفادة، لأنه من باب الأمر بالمعروف، ونقل النووي عن ابن بطال: النصيحة فرض كفاية يجزئ فيه من قام به ويسقط عن الباقين..
من النصائح التي أوقفتني هذا الشهر، و نحن نحتفل بالذكرى الـ 93 لميلاد وتأسيس خير جمعية أخرجت للناس في الجزائر، وتحديدا يوم 5 ماي، إذ عملت جمعية العلماء عبر تاريخها الزاهر بالمنجزات على الحفاظ على هوية الجزائر العربية الإسلامية، والمقومات الحضارية للشخصية الجزائرية، حافظت ببسالة على مواجهة خطط الاستعمار الفرنسي التغريبية التخريبية منذ عقود، والتصدي للخرافات والبدع التي تشوه الإسلام و تعرقل مسيرته الحضارية الواعدة لشعب مسلم مسالم، هذا البرنامج أو هذا المخطط، الذي عملت به الجمعية عبر شُعَبها في كامل التراب الوطني على نشر اللغة العربية على نطاق واسع، وإحياء الثقافة العربية الإسلامية في الجزائر، وبعْث التاريخ العربي الإسلامي، في وقت حصار استعماري همجي بغيض، كما اجتهدت الجمعية ونظمت بعثات تعليمية لخريجي مدارس الجمعية ومعاهدها إلى تونس الزيتونة و المشرق العربي، وأولت اهتماما بالتعليم في المساجد، ووضعت برامج لنشر التعليم الديني والعربي للصغار المبتدئين، وتدارك النقائص التي عانى منها الملتحقون بالمدارس الفرنسية، كما اهتمت بالكبار وخصصت لهم دروسا في الوعظ والإرشاد ومحو الأمية، رغم شراسة كماشة فرنسا التي حاولت أن تسد علينا منابع الخير والعلم من كل جانب من حدودنا الواسعة !!

مسيرة جمعية العلماء تحتاج اليوم الى غربلة وتقويم بل وتجديد وتطعيم
كل هذه البرامج في مسيرة الجمعية تحتاج اليوم الى غربلة وتقويم بل وتجديد وتطعيم ، مع تثبيت الصالح الناجع وتغيير وتصليح ما يراه أهل العلم والخبرة والاختصاص، في ضوء هذا الطرح وهذه المعطيات استوقفتني ندوة هامة للغاية مررنا عليها مرور الكرام، ولم نعطيها حقها وقتها من الدراسة والتنقيب والتحليل في مؤسساتنا الدعوية والتربوية بصفة عامة وجمعية العلماء المسلمين بصفة خاصة، الندوة قدمت منذ ثلاث سنوات تقريبا، نشطها أستاذنا الكبير البروفيسور مولود سعادة، يوم الجمعة 25 رمضان 1422هـ، حول استراتيجيات جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في إدارة العلاقات مع المحيط، “وقد وضع لها خطة شاملة ومتكاملة، تصلح إلى أن تكون ملتقى كاملا”، – على حد تعبير شقيقه أستاذنا الكبير الدكتور الطيب برغوث الذي شارك في الندوة عن بعد – بحيث أنه كان يرى” أن المحاضر “طرح في مداخلته موضوع العلاقات طرحا شاكلا ومتكاملا وعميقا، ” واستطاع أن ينفذ إلى جوهر الموضوع، ويمسك بمفاصله”، متمنيا على الحضور، أن تدرس الخطة الشاملة التي قدمها البروفيسور مولود سعادة ( من جامعة باتنة) حول موضوع استراتيجيات إدارة العلاقات مع المحيط لدى جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في مرحلتها التاريخية الأولى، وما ينبغي أن نستخلصه ونستفيده منها في إدارة علاقاتنا الآنية بشكل أكثر كفاءة وفعالية وخيرية وبركة ورحمة..” على حد تعبير المفكر الجزائري..

موجز الأفكار والمستخلصات من وجهة نظر المفكر الجزائري
وقد لخص المفكر الجزائري الدكتور الطيب برغوث في مقال مقتضب مركز مهم، بل ملهم، نشره منتدى الدراسات الحضارية على صفحته ونقلته بعد ذلك بعض الجرائد الوطنية والدولية بما فيها ” البصائر” ، لسان حال جمعية العلماء المسلمين”، حيث كتب يقول :”هذا موجز ما تصورت أنني قد استخلصته شخصيا من محاضرة البروفيسور سي مولود سعادة، وتعقيبات وأسئلة الأساتذة الفضلاء المتنوعة، في إطار الرؤية الكلية التي أحرص على تناول كل الموضوعات في إطار نواظمها وموجهاتها الكلية الفكرية والمنهجية والتربوية”، شارحا ذلك في النقاط التالية:
1- محورية العلاقات في الحياة الإنسانية:
أهمية الإدارة الصحيحة للعلاقات مع المحيط، ودورها المحوري في نجاح الأفراد والمؤسسات والدول والمجتمعات والأمم والحضارات، أو ضعفها وفشلها وانعكاساتها السلبية وربما الخطيرة على حياة الأفراد والمجتمعات، في معتركات المدافعة والمداولة الحضارية المهيمنة على الحياة البشر، وعلى مصائرهم الأخروية بعد ذلك.
2- والحياة الإنسانية كلها تقوم على نظام العلاقات، باعتبار الإنسان مدني بطبعه،
لا يستطيع أن يعيش بمفرده، ولذلك فإن من استطاع أن يؤسس نظاما صحيحا متكاملا ومتوازنا لعلاقاته بالمحيط الطبيعي أو الكوني عامة، والمحيط الإنساني خاصة، والمحيط الذاتي بصفة أخص، فإنه يكون قد أمسك بسر القوة الذي تقوم عليه حياته، ومن فشل في ذلك فقد عرض نفسه وحياته ومصيره لمخاطر جمة، لأنه سيعيش في حالة صدام وتنافرية منهكة مع كل هذه الدوائر من المحيط الذي يؤثر على حياته بشكل عميق.
3- خريطة الدوائر المحورية الكلية للعلاقات البشرية:
تشكل العلاقة بالمحيط في دوائرها الأربع الكبرى: دائرة العلاقة بالله، ودائرة العلاقة بالنفس، ودائرة العلاقة بالطبيعة والكون، ودائرة العلاقة بالحياة، معيارا أساسيا لمعرفة مدى وعي الإنسان ونضجه، وامتلاكه لشروط إدارة حياته الفردية والجماعية بالمزيد من الكفاءة والفعالية والخيرية والبركة والرحمة والنجاح. فمن أراد أن يقف على أسرار قوة وضعف، ونجاح أو فشل الأفراد والمجتمعات والدول.. فلينظر إلى طبيعة العلاقات بالدوائر الأربع السابقة!!
4-الدائرة المركزية الأم في العلاقات الكونية:
والخبرة البشرية المستفيضة تؤكد لنا بأن أم العلاقات ومركز الثقل الأساس فيها، هي العلاقة بالله، والعلاقة بالنفس، فمن صلحت علاقته بالله صلحت علاقته بنفسه، ومن ثم صلحت بقية علاقاته بالدوائر الكونية والحياتية التالية لها، والمنبثقة عنها، والمؤطَّرة بها. ومن اضطربت واختلت علاقته بالله، اضطربت واختلت علاقته بنفسه، وامتد ذلك الاضطراب والاختلال ليطال علاقاته بمحيطه الكوني والطبيعي والإنساني أو الحياتي عامة، ومنه إلى مصيره الأخروي.
5- القوانين الكلية للعلاقات الكونية:
فالعلاقات بالمحيط تقوم على مقتضيات أربع قوانين كلية كبرى هي: قانون العلاقة بالله ومقتضياته، وقانون العلاقة بالنفس ومقتضياته، وقانون العلاقة بالطبيعة والكون ومقتضيته، وقانون العلاقة بالحياة والناس مقتضياته. فمن وعى طبائع وحقائق ومقتضيات هذه القوانين الكلية الأربع، وأقام عليها علاقاته كلها، استقام أمره، وانسجمت حياته وتكاملت، وتعاظمت فعاليتها وخيريتها وبركتها ورحمتها العامة، وحقق مداولته الحضارية المنشودة واستمتع بها، واستثمرها في تهيئة حياته الأخروية المرتقبة، ومن أخفق في ذلك، اضطرب أمره، وتنافرت حياته، وتضاءلت فعاليته وخيريته وبركته ورحمته العامة، وتعذر عليه تحقيق مداولته الحضارية، وعرض نفسه لمخاطر الضعف والغثائية والتبعية الحضارية المنهكة والمهلكة.
6- الحاجة الماسة إلى الوعي بالخريطة الكلية للعلاقات الكونية:
فحياتنا كلها كبشر، وأوضاعنا الدنيوية كلها، ومصيرنا الأخروي برمته، مرتبط بهذه العلاقات كلها، التي يجب أن تشكل المحور الأساس الذي يجب أن تدور حوله كل اهتماماتنا وانشغالاتنا وأولوياتنا، وأن تسخَّر كل طاقاتنا وأوقاتنا وإمكاناتنا وفرص حياتنا من أجل بنائها بناء متكاملا متوازنا، منسجما مع حقائق الوجود الإلهي والكوني والإنساني، وكل جهد أو وقت أو إمكان أو فرصة.. لا تتمحور حول خدمة بناء هذه العلاقات بناء صحيحا، فهو جهد ووقت وإمكان وفرصة مهدورة، سيدفع الإنسان ثمنها الغالي في حياته الدنيوية والأخروية معا!!
7 – الإدارة الصحيحة للعلاقات الكونية والسؤال المحوري المطروح على الإنسان:
وبناء على المقدمات الأساسية السابقة، فإن السؤال المحوري المطروح على الإنسان عامة في كل زمان ومكان، هو: ما الذي يعين الأفراد والمؤسسات والمجتمع والدولة.. على بناء هذه العلاقات بناء متكاملا ومتوازنا وفعالا، ينتج المزيد من الخيرية والبركة والرحمة العامة التي يستفيد منها الجميع كل بحسبه؟ وما الذي يحرم هؤلاء الأفراد والمؤسسات والمجتمع والدولة.. من ذلك لكله، ويعرض وجودها ومصيرها للمخاطر الجمة؟
8- مسئولية المنظورات الجزئية عن اضطراب العلاقات الإنسانية والكونية:
والمتأمل العميق في الواقع التاريخي والبشري المعيش، يلحظ مدى المسئولية التي تتحملها المنظورات الجزئية المتنافرة في الإضرار بالعلاقات في دوائرها الأربع الكبرى، لأن أصحابها يغرقون أنفسهم في العلاقات الجزئية المبعثرة، وتتضخم الجزئيات في عقولهم ونفوسهم ومنهجية عملهم وحياتهم، وتأخذ أحجاما كبيرة غير طبيعية، وتتبعثر حياتهم وعلاقاتهم وفعاليتهم تبعا لذلك، وتكثر اصطداماتهم بحقائق ومقتضيات القوانين الكلية الأربع السابقة، وتتضاءل فعاليتهم الاجتماعية التي هي ميزان مهم من موازين نجاحهم أو فشلهم، باعتبار الفعالية الاجتماعية المتكاملة، هي مصب جهود الأفراد والمؤسسات من ناحية، وكما أنها شرط أساس من شروط قوة المجتمع وتحقيق نهضته ومداولته الحضارية من ناحية أخرى !!
9- نموذج تطبيقي عن خطورة المنظورات الجزئية المتنافرة:
وهذه المنظورات الجزئية الموغلة في التبعيضية والتجزيئية والتشظي الفكري والنفسي والمنهجي والسلوكي.. هي التي تقف في كثير من الأحيان، وراء بعض المواقف السلبية لبعض الناس والجهات من بعض المواقف الاجتهادية الجزئية الظرفية لجمعية العلماء المسلمين وقادتها، ويضخمونها ويهولون من شأنها، ويحكمون عليها حكما غير موضعي من خلال ذلك، لأن منظورات الجزئية التنافرية لا تسمح لهم بالنظرة السننية الكلية للمواقف والتصرفات والآداءات والعلاقات والاستراتيجيات، فيقعون في أخطاء فكرية ومنهجية وأخلاقية واجتماعية وسياسية قاتلة، يضرون بها أنفسهم أولا، ثم يضرون بها شبكة العلاقات الاجتماعية للمجتمع ثانيا، ويبلبلون بها الأجيال البريئة، ويضعفون علاقتها بإحدى أهم منابع ذاكرتهم التاريخية، ومصادر إلهامهم وشحذ طموحهم، وقوة إرادتهم وعزيمتهم ثالثا.
10- نموذج تطبيقي ثاني عن خطورة المنظورات الجزئية المتنافرة:
وأتذكر هنا بعض الأشخاص الذين كلما دخلت إلى وسائل التواصل الاجتماعي، وذكر فيها علماء جمعية العلماء، كلما استنسخوا مقالات أو أقوالا أو مواقف ظرفية محسوبة ومقدرة بقدرها الوطني الشرعي والسياسي الدقيق، لبعض هؤلاء العلماء أيام مقاومتهم الأسطورية للتحدي الاستعماري في الجزائر، ونشروها على الرأي العام وأبرزوها بالألوان، وألحوا على القراء لقراءتها، تشهيرا بهؤلاء العلماء بل وتخوينا لهم، وتشكيكا للأجيال فيهم وفي جهادهم الأسطوري العظيم!!
11- نموذج تطبيقي ثالث عن خطورة المنظورات الجزئية المتنافرة:
وقد صعقت مرة وأنا في الجزائر العاصمة، بعد أن تخرجت من الجامعة وتوظفت في المركز الثقافي الإسلامي هناك في بداية الثمانينيات من القرن الماضي، وكلي حماسة وعنفوان واعتزاز بالهوية الوطنية والعمل على إحيائها والتمكين لإشعاعها في المجتمع، بعد أن حاول الاستعمار الغشوم طمسها، وحضرت بمقر اتحاد الكتاب الجزائريين ندوة حول المؤتمر الإسلامي الشهير الذي عقدته القوى الوطنية عام 1936، وعقب الندوة تحولق لفيف من المؤرخين والكتاب والطلبة حول رجل مسن يتوكأ على عكازة، وعلمت أنه من الأعوان الرئيسيين لمصالي الحاج رحم الله الجميع، وكان من بين ما قاله وهو يتحدث عن جمعية العلماء وعن الإمام عبد الحميد بن باديس، هو وصفه له بأنه “ابن بليس”؟! فأحسست بصدمة صاعقة، لأنني لأول مرة أسمع جزائريا، ثم كبيرا في السن، ثم مناضلا كبيرا، يقول هذا الكلام في هذا المجدد والمصلح الوطني الكبير الأصيل، الذي تذكرنا سيرته وجهاده ونباهته وبصارته.. بجيل الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم!
12- مركز الخلل والاختلالات في العلاقات الإنسانية والكونية:
وأنا أفهم اليوم جيدا، موطن الخلل الجذري الذي ينتج ويفرخ لنا مثل هذه المواقف والتصرفات والأعمال في جل ساحات الحياة، ألا هو خلل معضلة المنظورات الجزئية المتنافرة التي تغذي فينا هذه المعرفة، وهذه النفسية، وهذه السلوكية، وهذه المنهجية المرتبكة المتنافرة، ولو أن منظوماتنا الفكرية والمعرفية والمنهجية والثقافية والتربوية والاجتماعية والسياسية.. بنيت على منظورات سننية كونية كلية شاملة ومتكاملة ومتوازنة، ومطابقة أو منسجمة مع حقائق الوجود الإلهي والكوني والإنساني، لما أخذت بعض هذه الجزئيات والتفاصيل التي هي من طبيعة الحياة، كل هذه الأحجام غير العادية، ولما تحولت إلى كليات وأولويات وعزائم في حياة كثير من الناس! ولما أصبحت معاييرَ أساسية للتقييم والحكم على الأفراد والمؤسسات والمشاريع الكبرى! ولما كان لها كل ذلك التأثير السلبي المهدِر للجهد والوقت والإمكانات والفرص، والمضاعِف لتصدعات واهتراءات شبكة العلاقات الاجتماعية في المجتمع، ولما أصبح المجتمع بذلك الضعف والهشاشة والتنافرية المنهكة، التي تعمق فيه شروط ما كان يسميه مالك بن نبي رحمه الله بالقابلية للاستعمار أو الاستضعاف أو الاستخفاف والاستغباء! وتعرض وجوده وأمنه الثقافي والاجتماعي والحضاري للخطر!
13- الحاجة إلى الوعي بمنظور السننية الشاملة والاستفادة منه في إدارة العلاقات الإنسانية والكونية:
ومن هنا فإن الطريق أو المنظور الصحيح لإدارة وبناء العلاقات في دوائرها الضرورية الكلية الأربع الأساسية السابقة، ومنح الأفراد والمؤسسات والمجتمع والدولة.. المزيد من الفعالية والتكاملية والتوازن والانسجام والخيرية والبركة والرحمة العامة، هو طريق أو منظور السننية الشاملة، الذي يدعونا، بل يفرض علينا الانفتاح على كل الساحات والمنظومات الكونية الكبرى التي تتوزع فيها أو عليها سنن الله تعالى في بناء الوعي بأم أو رأس القوانين الوجودية، وهو قانون العلاقة بالله ومقتضياته، ثم قانون بناء العلاقة بالنفس ومقتضياته، وقانون بناء العلاقة بالطبيعة والكون ومقتضياته، وقانون بناء العلاقة بالحياة والناس ومقتضياته.
14- فنحن عندما نحلل أي فعل إنساني إيجابي أو سلبي، ناجح أو فاشل، نافع أو ضار..
فسنجده في نهاية المطاف عبارة عن محصلة لعلاقة واعية وشاملة ومتكاملة ومتوازنة ومنسجمة مع معطيات ومقتضيات هذه القوانين الكلية الأربع، أو محصلة لعلاقة مضطربة جزئية متنافرة مختلة مع معطيات ومقتضيات هذه القوانين الكلية كذلك. ومنظور السننية الشاملة بانفتاحه على كل الساحات السننية الكونية بتوازن ودون تمييز بينها، أو تهميش لدور أي منها، هو الذي يمنحنا الشروط الموضوعية المتكاملة التي تجعل أفعالنا وعلاقاتنا متناغمة ومتوازنة ومتكاملة، وذات شحنات مكثفة وعالية من الفعالية والخيرية والبركة والرحمة العامة.
15- السننية الشاملة طريق التكاملية والتوازن والفعالية والخيرية والبركة والرحمة العامة:
وعليه فإن من أراد من الأفراد أو الأسر أو المؤسسات أو الدول أو المجتمعات.. أن يبني علاقات متوازنة ومتكاملة ومنسجمة وفعالة وذات شحنات عالية من الفعالية والخيرية والبركة والرحمة العامة، فما عليه إلا أن يسلك طريق السننية الشاملة، وينفذ بنفسه إلى منظورها السنني الكوني الشامل المتكامل، ويستفيد منه في إدارة علاقاته بنفسه وبمحيطه الكوني والطبيعي والإنساني، وقبل ذلك وبعده وأثناءه، إدارة علاقاته بالله تعالى، الذي إذا صلحت العلاقة به واستقامت على سننه في خلقه، إمتدت تأثيرتها إلى بقية ساحات وشرايين العلاقات الأخرى، وأصلحتها، ودفعت بفعاليتها وخيريتها وبركتها ورحمتها العامة، إلى مستويات نموذجية قصوى، كما يعطينا صورة عن ذلك، حديث الولاية القدسي الشهير، الذي جاء فيه عن رسول الله عليه الصلاة والسلام: ( إنَّ اللَّهَ قالَ: مَن عادَى لي ولِيًّا فقَدْ آذَنْتُهُ بالحَرْبِ، وما تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بشيءٍ أحَبَّ إلَيَّ ممَّا افْتَرَضْتُ عليه، وما يَزالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بالنَّوافِلِ حتَّى أُحِبَّهُ، فإذا أحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الذي يَسْمَعُ به، وبَصَرَهُ الذي يُبْصِرُ به، ويَدَهُ الَّتي يَبْطِشُ بها، ورِجْلَهُ الَّتي يَمْشِي بها، وإنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، ولَئِنِ اسْتَعاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ، وما تَرَدَّدْتُ عن شيءٍ أنا فاعِلُهُ تَرَدُّدِي عن نَفْسِ المُؤْمِنِ، يَكْرَهُ المَوْتَ وأنا أكْرَهُ مَساءَتَهُ )( رواه البخاري).
16- منظور السننية الشاملة والتحليل والتفسير الشمولي التكاملي للظواهر:
وعندما نحلل موضوع استراتيجية إدارة العلاقات مع المحيط لدى جمعية العلماء المسلمين، في إطار هذا المنظور السنني الكلي، فإن الكثير من الجزئيات التي يعتبرها البعض مآخذ ونواقص في منهجيتها، سيبدو الكثير منها أو جلها، مؤشرات قوية على مدى تحرك منهجية الجمعية وقادتها بصفة عامة، في ضوء مقتضيات الخريطة الكلية لمنظور السننية الشاملية، وإن بجزئية وتدرجية تفرضها التحديات التي كانت تتحرك وتتفاعل في إطارها مع كل ما يحيط بها، دون أن يعني هذا طبعا أن هذه الجمعية، أو أن قادتها لا يخطؤون، بل هم يخطئون ككل الناس، ولكن شمولية وتكاملية المنظور لديهم، تعينهم على توفير ولو الحدود الدنيا من شروط صحة وسلامة مقارباتهم ابتداء، وإذا ما أخطؤوا أو وجدوا ما هو أفضل، تحركوا نحوه واجتهدوا في الأخذ به، وصححوا مساراتهم. فعلاقاتهم في اتجاهاتها ودوائرها الأربع السابقة، محكومة في عمومها بمقتضيات ومعطيات السننية الشاملة، التي يفترض أنهم يتحركون في إطارها قدر طاقتهم.
17- القاعدة الذهبية في إدارة العلاقات الاجتماعية لدى جمعية العلماء:
تأملوا معي على سبيل المثال في هذه الخلاصة الرائعة التي يقدمها الإمام عبد الحميد بن باديس قولا وفعلا، لإدارة العلاقة بالمجتمع بمختلف تكويناته وأوضاعه، وهو يستلم رئاسة الجمعية في ظروف معقدة ثقافيا واجتماعيا وسياسيا، حيث قال رحمه الله في خطابه، مبينا القاعدة أو السنة الذهبية التي ستدار بها علاقات الجمعية الداخلية ومع المجتمع بكل تلاوينه: “هذا العبد له فكرة معروفة وهو لن يحيد عنها، ولكنه يبلغها بالتي هي أحسن، فمن قبلها فهو أخ في الله، ومن ردَّها فهو أخ في الله، فالأخوة في الله فوق ما يقبل وما يرد، فأردتم أن ترمزوا بانتخابي إلى هذا الأصل، وهو أن الاختلاف في الشيء الخاص لا يمس روح الأخوة في الأمر العام، فماذا تقولون أيها الإخوان؟ فأجابوا كلهم بالوفاق والاستحسان”.
وقد أمتعنا البروفيسور سي مولود سعادة في محاضرته، بنماذج متنوعة من هذا القبيل، من نصوص الإمامين الكبيرين ابن باديس والإبراهيمي رحمة الله عليهما، أبانت لنا الكثير من ملامح المنهج الذي كان يحكم علاقات الجمعية بالمجتمع، والذي كانت له آثار بعيدة المدى في فعالية وخيرية وبركة ورحمة أدائها الفكري والثقافي والتربوي والاجتماعي والسياسي عامة.
18- جدارة خبرة جمعية العلماء في إدارة العلاقات مع المحيط بالدراسة و الاعتبار:
وأضم صوتي إلى صوت أخي البروفيسور سي مولود الذي رغب طلبة الدراسات العليا أو الباحثين عامة، في إنجاز رسائل جامعية عدة في موضوع استراتيجيات إدارة العلاقات مع المحيط لدى جمعية العلماء. فالموضوع غني جدا، وأني بل ومستقبلي ومفيد جدا، ولم يدرس دراسات تحليلية تفسيرية تربوية معمقة بعد، وتصلح فيه عدة رسائل جامعية في غاية الأهمية، يتناول بعضها استراتيجية إدارة العلاقات مع المحيط الاجتماعي، وبعضها مع المحيط السياسي، وبعضها مع المحيط الثقافي، وبعضها مع الخبرة التاريخية التراثية، وبعضها مع المحيط الاستعماري، وبعضها مع المحيط الخارجي.. الخ.
19- نداء إلى النخب عامة والشابة منها خاصة:
وما أود ختم هذه الخاطرة به، والتأكيد الكبير عليه، هو دعوة النخب عامة والنخب الصاعدة خاصة إلى الانفتاح على منظور السننية الشاملة، ومحاولة استيعابه، والاستفادة منه رصد وتحليل وتفسير وعرض الظواهر والموضوعات، واستشراف آفاقها المستقبلية، لأنه منظور يتخلص من سطوة المنظورات الجزئية المتنافرة، ويعيدها إلى أحجامها الحقيقية كروافد جزئية للمعرفة والخبرة والحكمة الإنسانية، ويضمن لها تكامليتها، فهي ليست مصبات كلية للمعرفة والخبرة والحكمة الإنسانية، فالمصب الكلي الحقيقي لذلك كله هو منظور السننية الشاملة، المنفتح بطبيعته على كل ساحات وروافد المعرفة السننية في عوالم الآفاق والأنفس والهداية والتأييد، وأن لا يسجنوا أنفسهم في الروافد الجزئية، ويحرموا أنفسهم ومجتمعاتهم من جواهر الخيرية والحكمة والبركة والرحمة التي لا توجد مجتمعة إلا في مصب السننية الشاملة المتكاملة، الذي من دخله إرتوى منه وتضلع، واشرقت نفسه، وتوازنت شخصيته، وتكامل فعالية عطائه الذاتي والاجتماعي والإنساني، ومن لم يدخله خنقته وجمدته المعارف والخبرات الجزئية المحدودة، وقلصت فعاليته الاجتماعية المرجوة منه. وخلص
وخلص المفكر الجزائري، بعد هذا السياحة المعمقة في المناهج والمفاهيم ومخططات التنظير الاستراتيجي، شاكرا مرشدا وناصحا لجمعية العلماء ورجالها وأية مؤسسة تربوية علمية ثقافية!! معترفا بالفضل لرفيق دربه الطويل، البروفيسور مولود سعادة، أستاذ علم الاجتماع بجامعة باتنة، الذي أتاح له من خلال محاضرته القيمة هذه عن “استراتيجيات إدارة العلاقات لدى جمعية العلماء المسلمين الجزائريين”، معتبرا إياها خواطر عن هذا الموضوع المحوري في الحياة الإنسانية عامة والجزائرية خاصة، فبارك الله في الاستاذين الكريمين، ونفع بهما وبخبرتهما الغنية الأجيال في الجزائر والعالم الإسلامي والإنساني عامة، والله من وراء القصد والموفق لكل خير، إنه نعم المولى ونعم النصير.

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version