د. عيسى بوعافية

تمر أمتنا هذه الأيام بظروف عصيبة، فتَّتْ أكبادنا فتّا! ومزقت ثوب صبرنا تمزيقا! حتى لقد بتنا نشعر بالشلل إلا من الحزن والبكاء! ولولا جذوة الإيمان في قلوبنا؛ ما استطعنا ترقيع ذلك الثوب، ولولا داعية اليقين في موعود ربنا؛ ما حرّكنا ساكنا في هذه الحياة، ولاستسلمنا لليأس والقنوط!! إلا أنه من بين كل تلك الغيوم الكثيفة من التشتت والضياع والإحباط؛ ينبعث – باطراد – نور الوعي والأمل؛ ليهدينا سبل السلام، فكرا نيرا، ومشاعر مطمئنة، وسلوكا قويما.. وتلك سنة الله فينا: مدافعة ومداولة؛ في ذواتنا، وفيمن وفيما حولنا! قوانينها واضحة محكمة ماضية.. {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ }[ البقرة: 214].. {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [آل عمران: 140]..{حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ } [ يوسف: 110].. {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ}[ الأنبياء: 105].
تعرض وسائل الإعلام المختلفة منذ عشرة أيام – بالصوت والصورة – عملية إبادة جماعية منظمة تمارسها – بتنسيق وتعاون – دول نظامية كبرى، على قطاع صغير من أرض مغتصبة محتلة وفق توصيف القوانين الدولية.. على شعب منهوك محاصر منذ عقود من السنين! وعلى مدنيين مستضعفين أبرياء، أغلبهم أطفال ونساء وعجائز! من خلال قصف جوي كثيف بالطائرات والصواريخ، وباستخدام آليات حربية متطورة وثقيلة، وأسلحة محظورة دوليا، على مرأى ومسمع من العالم؟!تزعم الحضارة الغربية المعاصرة – زورا – أنها راعية السلام والأمن في العالم، وأنها الحارس الأمين على حقوق الإنسان، وبغض النظر عن هشاشة تصورها لتلك المفاهيم والقيم واضطرابه ابتداء؛ فإن قالها وحالها ليكشفان – بوضوح – ازدواجية معاييرها، وتحيزها السافر، وضلوعها في تذكية الصراعات الدولية، وتورطها في جرائم فظيعة في حق الإنسانية، عن سبق إصرار وترصد! لقد رأينا عبر وسائل الإعلام المختلفة، وفي المحافل الدولية الرسمية؛ كيف اتفقت كلمة أبناء تلك الحضارة في وصف الأحداث الجارية، وفي تفسيرها، وفي التعامل معها.. وكيف أنهم انطبق عليهم تماما قول شاعرنا في الجاهلية!!: لا يسألون أخاهم حين يندبهم في النائبات على ما قال برهانا لقد ثبت بالدليل القاطع أن الحضارة الغربية المعاصرة تنطلق من منظور كوني موحد، لا ترى خلافه، بل لا تستطيع رؤية ما يخالفه! إنه عندها الحقيقة المطلقة التي لا مرية فيه، فلا تخجل من التصريح به، والتحاكم إليه، والمحاكمة به.. بل تعجب ممن يرى خلافه، ولا تعدُّه – في ميزانها – شيئا؛ حتى وإن كان صنوها في العلم والحكمة والخبرة والفضل!! حتى وإن رأى – ذلك الغير- أن ما تراه عمى وجنون وضلال! ورغم أن الفكرة الدينية تشكل إحدى أهم المرجعيات الفكرية والثقافية الرافدة للمنظور الكوني للحضارة الغربية، بشهادة قادتها وساستها وكبرائها! إلا أنه بالإضافة إلى أن تلك الفكرة الدينية؛ مشوهة بسبب التحريف! فإنها مزاحمة أيضا من طرف شبكة من الروافد المغذية الأخرى، بنسب غير متوازنة، وبتركيب جزئي وإقصائي، وبعلاقات بعضها تنافري!! فلا غرو إذن؛ أن تصطبغ تلك الحضارة بالصبغة الإمبراطورية المقدِّسة للقوة على حساب العدالة، وللشر على حساب الخير، وللمَحْق على حساب البركة، وللاستبداد على حساب الرحمة، وللبهيمية على حساب الإنسانية!! ولا عجب إذا لم تمت إلى الإصلاح في الأرض في وِرد ولاصدر! لقد آن الأوان – قدرا وشرعا- لهذه الحضارة أن تأفل.. وقد آن الأوان – قدرا وشرعا- لشمس حضارة ذات صبغة إنسانية أن تبزغ.. { وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً{42} اسْتِكْبَاراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً }[ فاطر: 42 – 43]..{وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ }[ الأنبياء: 105].. { سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً } [ الأحزاب: 62 ].. {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً }[ الفتح: 23] .. لقد آن الأوان للمداولة على سنام دورة حضارية إنسانية جديدة، لكن ذلك لن يتم؛ إلا إذا كان هناك مدافعة حضارية فعالة، ولن تتحقق هذه الفعالية للمدافعة الحضارية؛ إلا إذا كانت هناك حركة تجديدية حضارية فعالة على صعد شتى: فكرية ونفسية وسلوكية.. كما لن تكون هناك أية حركة حضارية تجديدية؛ قبل أوان انبثاق شرارتها التجديدية، وبعيدا عن تجديد منظورها الكوني .. وها هي شرارة إشراق نهضة حضارية إنسانية جديدة قد اتقدت.. وها هو منظور السننية الشاملة بين أيدينا.. منظور سنني كوني كلي متوازن، كفيل بأن يحدد القيمة الحقيقية للإنسان، قمين بأن يوضح رسالته ومكانته في هذا الوجود، قادر على ضبط علاقات ذلك المخلوق المكرم بالله عز وجل وبمخلوقاته، أهل للإسهام في فهم مجريات الأحداث وتفسيرها وتوقع مآلاتها، والنجاح في استثمار ذلك كله في الوقاية من آثار أزماتها، أو التخفيف منها، أو حسن توظيفها في تلبية ضروريات الحياة الفردية والاجتماعية وحاجياتها وتحسينياتها، في جميع المجالات، بشكل شامل ومتوازن ومتكامل وفعال ومستمر، على طريق حضارة جديدة ذات طابع إنساني شعارها ودثارها: العدالة والخيرية والبركة والرحمة والإنسانية .. وإنها اللحظة المناسبة التي يجب أن نغتنمها جميعا في تأسيس وتعميق ونشر وتفعيل الوعي بهذا المنظور؛ بكل ثقة واعتزاز..

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version