الكتابة التزام أخلاقي وإنساني، لتعرية القبح وكشف التضليل وإجلاء الحقيقة

محمد مصطفى حابس: جنيف / سويسرا

بمناسبة الذكرى الـ 87 لتأسيس جريدة البصائر، أي تقريبا منذ تسعة عقود من عمرها حيث تداولت عليها أقلام الخلف والسلف دون ملل ولا كلل، حيث مرت البصائر أيامها بمراحل فيها الحلو وفيها المر، وبعد هذه المسيرة الطويلة الشائكة والشيقة عهدت الينا هذا الأسبوع إدارة تحرير “البصائر” الغراء، أن نكتب كلمة عن تجربتنا في الموضوع كمساهم من ديار الغربة في أعمدتها، علما أني كأبناء جيلي درسنا ورضعنا حليب عيونها منذ عقود ونحن أطفال!!
من منا لم يقرأ كتاب ” عيون البصائر” الذي جمعت فيه درر افتتاحياتها بقلم الشيخ الجليل العلامة الإبراهيمي وصحبه. ومنذ عقود خلت لا زالت مادتها حية فاعلة كأنها كتبت لتوها اليوم!! ومَن مِن مشايخنا ومعلمينا وأساتذتنا لم يمر أمام بصره نص في إمتحان اللغة والأدب والفلسفة في مختلف الاطوار، لأقلام رجال جمعية العلماء وتلاميذها باللغتين العربية و الفرنسية..

وأنا أفكر ماذا أقول في هذه المناسبة السعيدة استوقفني أقلام وأقلام عبر مسيرتي المتواضعة يضيق المجال لحصرها، أكتفي بقلمين متعاكسين أحيانا، الكاتب الجزائري الحبيب السائح وشيخنا العلامة محمود بوزوزو رحمه الله، إذ يبين الأول دوافع الكتابة على أنها حالة نفسية والثاني يحرض على الكتابة والمساهمة الايجابية فيها وبها، بحيث يقر الأول بقوله:” إننا لا نكتب، في نهاية الأمر، إلا عن أنفسنا ! نقول قناعاتنا. نقترح رؤانا الجمالية، إننا نكتب، أيضا، شيئا من غضبنا وكثيرا من إخفاقاتنا وخوفنا وحزننا، فنحن، في فعل الكتابة، حصيلة هذا الشتات والتبعثر، الذي نحاول لملمتهما في نص، هو المقال أو الرواية: ملحمة النثر المستمر وشِعر البشرية المعاصر في انتقالنا من “لغاتنا الأخرى”، المتداولة، إلى لغة الكتابة، وهنا يحدث فعلٌ عجيب هو الذي يشكل هذا العالم من المشاهد التي تبني كلمة كلمة، جملة جملةً لإنشاء المشروع الذي يضفي على الزمان حياةٌ أخرى باقية ما بقي الإنسان وبقيت الحروف.. إنها الكتابة التي تعطي للإنسان ولو اليسير من رد الاعتبار لديننا وجاليتنا في المهجر! فماذا كتبت النصوص الإنسانية الكبرى غير النصح والرشد والأمل في غد أفضل؟ ذلك، لأن الكتابة، فعل لغوي يؤسس للخير للذات وللغير- يقول الكاتب- : “أجد علاقتي بلغة الرواية، تحديدا أشبه بهذه الحال التي يخترق فيها الكاهن أو الصوفي الحدود الاصطلاحية للغة لتكون قابلة للتأويل. فحين أدخل مع اللغة، في مثل تلك العلاقة، أجدني مأسورا بسطوتها فأروح أنحت لها مقتضياتها الجميلة، في بحث دائم ومؤلم عما يعطي النص لباسَه الأنيق وحركته السحرية. ” فالكتابة التزام أخلاقي وإنساني، لتعرية القبح وكشف التضليل وإجلاء حقيقة كون الانسان جاء إلى هذا الكون ليعمره من منتجات عقله ويزيّنه من عطاءات روحه. بمثل هذا يكتسب نص المقال إبداعيته، لأنه نابع من حلم الإنسان بأن يعيش حرا!” على حد تعبير الأديب الفيلسوف المبدع الحبيب السائح، في جولاته الفكرية الروحية نلك..

من دروس معلمنا الأول العلامة الشيخ بوزوزو ونداءه الجريء إلى الكتاب:
أما الشيخ بوزوزو الذي يعد من أول أقلام البصائر في أسرة تحريرها في عهد الاستعمار منذ عقود خلت، إذ بقي وفي لها الى ما بعد الاستقلال وهو صاحب التجربة الثرية الرائدة، ما انفك ينصحنا بضرورة الكتابة للبصائر ولمجلة الشاب المسلم و لغيرها مبينا لنا سهولة التواصل والنشر اليوم، وكم من مرة وجهنا لأرشيف البصائر للتزود منها، خاصة توجيهاته للكُتاب من ابناء جيله – رحمه الله- حين خاف كرئيس لتحرير جريدة المنار، على تعثر تجربته الإعلامية الفتية باللسان العربي المبين وحماية لأقلام المنار خشية وأدها في مهدها، كتب مستصرخا الكتاب الجزائريين في العدد الرابع لجريدة المنار، بتاريخ 15 شعبان 1370 الموافق لـ 21 ماي 1951، نداء نجدة واستغاثة جريء بعنوان” إلى اخواننا الكتاب !!”، محرضا النخبة الجزائرية على التسلح بالقلم لنصرة ” المنار” لسان حال الشعب الجزائري حينها، مبينا أنواع الكُتاب ورسالة الكاتب وأمانة القلم وشرف الكِتابة عند الله والأمة والتاريخ، كما أنشد الشاعر الحكيم:
كتبتُ وقد أيقنتُ يوم كتابتِي … بأنَّ يدي تفنَى ويبقى كتابُها
فإن عملَت خيراً ستُجزى بمثله … وإن عملت شرًّا عليَّ حسابُها
حيث كتب العلامة الشيخ محمود بوزوزو – رحمه الله -، بإبداع وفطنة المفكر الحكيم والمعلم الرزين كتب لإخوانه كُتاب ” المنار”، بعد التحية والسلام قائلا :
من الناس من يكتب تزلفا للحكام، ومنهم من يكتب تملقا للعوام، ومنهم من يكتب لإشفاء لحزازة وانتقاما من خصم، ومنهم من يكتب إيقادا للفتنة، ومنهم من يكتب طلبا للشهرة، ومنهم من يكتب رغبة في مادة، ومنهم من يكتب نصرة للحق ودَفعا للباطل، ومنهم من يكتب أداء للشهادة المشار إليها في آية ﴿ لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾، ومنهم من يكتب أداء للأمانة المنوطة بأهل العلم إرضاء للضمير أو إبراء للذمة أمام الله..”
محرضا بقوله: ” والعلم أمانة، حظها من الثقل كحظها من الشرف، ومن آتاه الله القدرة على التبليغ فقد أناط به حملا لا مناص منه
منبها أياهم بقوله: “المسؤولية الملقاة على حملة الأقلام ثقيلة. وهي تتطلب التدرع بالشجاعة، والتحلي بالنزاهة. والحرص على إبراء الذمة. ولا يكون ذلك إلا بتسخير الأقلام في خدمة الحق. وهي خدمة لا مندوحة عنها إذا وجدت وسائل القيام بها.”
فلا تقيمن الحجة على أنفسكم بإهمال أقلامكم، وأقيموا حجة الله على عباده بما وهبكم من نعمة فإن العلماء ورثة الأنبياء.”
مرغبا الكتاب بقوله:” والمنار بين أيديكم، وقد بين لكم أهدافه بوضوح، وهو مستعد لمساعدتكم على أداء أمانتكم الشريفة، وخدمة أمتكم بأقلامكم. ويكرر لكم – أي المنار- أنه بعيد عن كل احتكار، فإن دعوته لكم تذكير بواجبكم، ويَسُرُّه أن يراكم قائمين بهذا الواجب كاملا غير منقوص بإنشاء صحف ومجلات ترفع من شأن العرب الجزائريين، وتبرهن على أن الجزائر جديرة بأن تعتمد عليها العروبة والإسلام في الميدان الفكري على الأقل.”
مقسما حانثا بقوله :” إنه – والله – لمحزن أن لا يكون للشعب الجزائري العربي المسلم من الجرائد والمجلات ما لشقيقيه الشعبين التونسي والمراكشي، وأن يسعى الادباء والمفكرون في القطرين الشقيقين في أداء واجبهم نحو العروبة والإسلام في عدة ميادين، فيقوموا ببعض ما على المغرب نحو اللغة العربية والفكر الإسلامي وتكون الجزائر وهي قلب المغرب قليلة الخفقان في هذا الميدان.”
موضحا متأسفا بقوله: “وإنه لا أشد حزنا أن يكون للجالية الأوروبية وهي تعد مليون نسمة في الجزائر، عشرات الجرائد بين يومية وأسبوعية باللسان الفرنسي وأن لا يكون للعرب الجزائريين- وهم عشرة ملايين – العشر من ذلك باللسان العربي!!”
ثم ينهي نداءه مبحوح الحنجرة، كمدير للجريدة ورئيس تحريرها، بقوله لهم :” يقول لكم المنار: قسما باستعدادكم العظيم، وحقكم الهضيم وما تلاقونه من إجحاف لدى الغريب والقريب لفيكم من القدرة على القيام بالمشاريع العظيمة، والمؤسسات ما لو كان عند غيركم لأتوا بالعجب العجاب. فأثبتوا وجودكم وارفعوا رؤوسكم وبرهنوا أن في المخ الجزائري ما في كل مخ كريم من الاشعاع والاشراق، وافعلوا ذلك تحدثا بنعمة الله، وقياما بحقوق الفكر، وأداء لأمانة العلم، وحفظا لإرث النبوة، تبرأوا ذمتكم أمام الله والأمة والتاريخ.”
هذا ما نصح واجتهد به الشيخ العلامة محمود بوزوزو، صاحب المنار وهو أيضا القائد الأعلى والمرشد العام للكشافة الإسلامية في ذات الوقت، ونشر هذه الكلمة كنداء لأصحابه وأقلام الجزائر عموما في خمسينات القرن الماضي حيث كان وضع الصحافة هشا للغاية أثناء الثورة، بلسان أحد أبرز إعلامييها في تلك المرحلة الصعبة والحرجة التي لا يؤتمن فيها الإنسان حتى على حياته ناهيك عن لقمة عيشه، بحيث يعد العمل الإعلامي يومها بحق جهادا من طراز فريد، متعدد السهام والنبال من رجل موسوعي واحد كالإمام بوزوزو، بحيث أدى ما عليه من جهد وجهادا بالحبر والورق والعرق والدموع والدماء. إذ كما يعرف العام والخاص أن الرجل عذب مرات وسجن مرات أخرى في تلك الفترة العسيرة، أي قبيل وأثناء الثورة رفقة بعض مرافقيه، وحينها كان الشيخ بوزوزو في عنفوان شبابه، كان فعلا على كل الجبهات، إضافة لمسؤولياته كرئيس للكشافة الجزائرية ومرشدا عاما لها عبر الوطن، فكان له متسع من الوقت أيضا ليكتب للبصائر لسان حال جمعية العلماء، كما كان يكتب أيضا بالفرنسية لجرائد أخرى عن قضايانا وهمومنا خاصة منها ثوابت الأمة كالإسلام والعربية و وحدة الجزائر وحقوق الإنسان وغيرها من مواضيع الساعة ..
واليوم و بعد مرور عقود على نداء الضمير هذا للعلامة محمود بوزوزو للأقلام الجزائرية، لايزال قطاع الإعلام الجزائري على حاله، والصحافة تشتكي وتبكي رغم توفر الإمكانيات والحريات، نعم إنه لمحزن في عهد الاستقلال أن تبقى دار لقمان على حالها، عبر الأجيال، لا عذر لنا ولا عذر لأقلامنا و لأصحابها عن المماطلة والتسويف، لا ذنب لنا نحن الذنب.. ولا حول ولا قوة الا بالله.

تجربتي المتواضعة مع البصائر و أخواتها:
و بتجربتي المتواضعة مع البصائر خصوصا منذ عهد الوزير الشيخ عبد الرحمان شيبان، رئيس جمعية العلماء، وقبلها في يوميات المساء الجزائرية و العصر و العقيدة و النور و المستقبل ومجلة التذكير وأخواتها الاخريات أيضا في المهجر كإذاعة السلام الدولية و الزمان اللندنية و القدس العربي ورأي اليوم و غيرها كثير .. بالعربية و أخرها بالفرنسية لموقع أمة دوت كوم ومعهد هقار للنشر وكذا مجلة “الشاب المسلم” بالفرنسية التي نسعى أن نجد لها موقع قدم لدى جاليتنا المسلمة في أوروبا خصوصا، إذ تعد من التجارب الواعدة لو ضبطت دوريتها الشهرية لكان لها فضل السبق في ترشيد شباب جاليتنا في المهجر.. في كل هذه التجارب البسيطة التي يعود فيها الفضل لأحد أول أقلام “البصائر” أثناء الاستعمار البغيض العلامة شيخنا الجليل الإعلامي المفكر محمود بوزوزو، رحمة الله عليه، الذي كثيرا ما حفزنا على الخطابة والكتابة والترجمة والنشر باللغتين العربية والفرنسية، مثل ما عمل هو بنصيحة شيوخه العلامة بن باديس والابراهيمي والعربي التبسي، هذا الاخير الذي كان يقول له ” يا شيخ محمود مكانك عندنا في إدارة الجمعية”، يوم كان الشيخ بوزوزو مرشدا، عاما للكشافة الإسلامية الجزائرية، ومؤسس جريدة المنار، في بداية خمسينات القرن الماضي.
فجريدة البصائر اليوم في إمكانها أن تكون داخل الوطن جريدة يومية محترمة، وشقيقتها مجلة الشاب المسلم بالفرنسية في إمكانها أن تكون هي أيضا مجلة نصف شهرية وازنة أو شهرية تنافس كبرى المجلات الفرنسية في أوروبا .. وقد وصلتني عشرات الاقتراحات التي تجول في خلد شبابنا ومثقفينا في أوروبا، منها من باب أضعف الإيمان ترجمة شهرية (فرنسية / أنكليزية ) وهي عبارة عن حوصلة لأبرز محتويات البصائر وأخواتها، بعنوان ” البصائر الشهرية” ، والأمر لا يتطلب أي جهد عدى الترجمة والتبويب والتصفيف، ووضعها إلكترونيا في متناول الطلبة والباحثين كملف شهري، مرفوقا بفيديو قصير به أهم ما جاء في العدد ..علما أن مثل هذا العمل قامت به نخبة من شبابنا في أوروبا، وكانت توزعها ورقيا أيام الجمعة أمام أبواب المسجد، كقصاصات وقطوف مقالات البصائر الهادفة، منذ سنوات خلت، خاصة في فرنسا.
هذه المبادرات كنت قد كتبتها للشيخ الدكتور قسوم، رئيس جمعية العلماء لما كان سي التهامي في رئاسة تحرير” البصائر”، وأعجب بها الدكتور حسن خليفة (مسؤول الإعلام) أيما إعجاب، وأخبرني أن هذه المقترحات سرت بها جل لجان جمعية العلماء، على اختلاف تخصصاتها ووظائفها ومواقعها وتوجهاتها..
لأن هذه المبادرات التي فاتني في الكتابة عنها بعض مشايخنا لها في نفسي وفي حياتي مكانة لا تقوى الكلمات على تصويرها، إذ تعد من المكاسب الاستراتيجية الثمينة للمجتمع الجزائري خاصة والأمة عامة، التي ينبغي أن نحرص عليها نحن الجزائريين جميعا سواء في ديار المهجر أوفي الداخل، مهما تنوعت وتباينت اتجاهاتنا، واختلفت مواقفنا منها، لأنها تمثل جزءا مهما من المشترك الرمزي الوطني النفيس، الذي ينبغي الحرص عليه، والعمل على حمايته وتنميته وتوسيعه، والارتكاز عليه في تحصين مجتمعنا، وشحذ وعي وروحية وإرادة ورسالية أجياله، لتمضي قدما على طريق تمكينه من تحقيق نهضته الحضارية المطلوبة، ووضع هذه النهضة الحضارية في خدمة الأمة والإنسانية عامة، كما يكرره لنا بعض أساتذتنا لما نتناقش في الموضوع.

جمعية العلماء “الدرة الوطنية النفيسة”:
إن البصائر وأخواتها، ” ينبغي علينا جميعا أن نحرص على نقاوتها وطهارتها ورمزيتها وشعبيتها، بكل ما أوتينا من قوة، وأن نحميها من كل طمع أو غرضية أو جهالة أو رداءة أو غلو حرفي أو خرافي أو جهوية أو بوليتيك أو استغلال.. ما استطعنا إلى ذلك سبيلا، وأن نبني منها صرحا نموذجيا عاليا في الوعي المتوازن، وفي الخدمة الاحتسابية، وفي الرسالية المتفانية، تحتذي به بقية المؤسسات الوطنية، وتعتز به، وتحرص عليه، وتخدمه وتطور أدائه وفعاليته”، كما وضح ذلك أستاذنا المبجل الدكتور الطيب برغوث، في كلمته لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين، بمناسبة انعقاد المؤتمر الخامس، عام 2018.
بحيث نَعَتَ جمعية العلماء واصفا إياها بـ” الدرة الوطنية النفيسة”، التي ينبغي علينا أن نبعدها عن الصراعات والمناكفات والمناورات الفكرية والاجتماعية والسياسية قدر ما استطعنا، وأن نبقيها ساحة حقيقية للمشتركات الوطنية الاستراتيجية، وأن نعزز ثقة الجميع فيها، واحترام الجميع لها، والحرص على خدمتها، وذلك لا يكون إلا بالقدوة الفكرية والسلوكية والإنجازية العالية، التي ينبغي أن يتحلى بها كل من يتصدرون واجهات القيادة والتوجيه والخدمة فيها على كل المستويات، ومن لم يجد في نفسه القدرة على ذلك، فليحترم نفسه، وليضعها في مكانها المناسب لها، وليرأف بها، ولا يعرضها للمخاطر، فإن الأفكار والمشاريع الأصيلة المخذولة، تنتقم من خاذليها والمسيئين إليها إن عاجلا أم آجلا، كما قال رسول الله عليه الصلاة والسلام لسيدنا أبي ذر رضي الله عنه وقد تاقت نفسه إلى الإمارة: ( يا أبا ذرٍّ ! إنك ضعيفٌ، وإنها أمانةٌ، وإنها يومَ القيامةِ خزيٌ وندامة، إلا من أخذها بحقِّها وأدَّى الذي عليهِ فيها)
رواه مسلم .

جمعية العلماء تتحرك في أوضاع ومتغيرات شتى، وبإمكانيات محدودة:
وقد فهمت كما فهم غيري من كلامه حفظه الله، أننا لا نريد في هذه العجالة أن نحمل نخبة الجمعية ما ليس في طاقتها، أو لا يدخل تحت ولايتها ومسئوليتها، فهي تتحرك في أوضاع ومتغيرات شتى، وبإمكانيات محدودة، ولكن ما نتمناه منها هو أن لا تستوعبها المفرزات اللانهائية للتناقضات والتربصات المتفاقمة من حولها، وأن تحرص على منح جزء من جهدها للبحث الاستراتيجي السنني المعمق في علل هذه التناقضات والتربصات والصراعات المنهكة، سواء على مستوى المجتمع أو الأمة أو العالم، وأن تساهم بما تستطيع في وضع استراتيجية متوازنة لحركة النهضة الحضارية الإسلامية المعاصرة، تساعدها على التخفيف من الأمراض والنواقص والكوابح الموروثة والمستجدة، والمضي قدما لتحقيق أهدافها المرجوة، بالمزيد من الأصالة والفعالية والتكاملية والعمق الروحي والأخلاقي والإنساني المطلوب..
مؤكدا في رسالته تلك، على إن هذه الجمعية المباركة، ينبغي أن تكون كبيرة وعظيمة الأثر ليس بالخدمة الأفقية والكمية التي تقدمها للمجتمع فحسب، بل كذلك بالخدمة الاستراتيجية النوعية التي تقدمها للتطوير والتجديد المفصلي الذي يغير ما بالنفوس، ويهيئ شروط تغيير ما بالأفراد والمؤسسات والمجتمع من الضعف واللامبالاة والتنافرية والإهتلاكية الذاتية المنهكة، والارتقاء بحياتنا الفردية والجماعية نحو
معضلة الانكباب على أعراض المشكلات.. مبينا “أن النهضة الحضارية الإسلامية المعاصرة، تعاني منذ زمن بعيد من معضلة الانكباب على مواجهة الأعراض المتراكمة والمتوالدة بلا نهاية، والتي تتحول مع مرور الزمن إلى معضلات فكرية أو نفسية أو اجتماعية أو سياسية ضخمة ومعقدة، مستعصية على العلاج”، كما لاحظ ذلك المفكر الكبير مالك بن نبي رحمه الله وهو يتأمل في مسيرة ومآلات كثير من حركات التغيير والإصلاح والثورات الاجتماعية الكبرى، التي كثيرا ما تبدأ بمضمون وروحية وأخلاقية وسلوكية، ثم ما تلبث أن تنتهي بمضمون وروحية وأخلاقية وسلوكية أخرى مغايرة أو مرتبكة على أقل تقدير!

تجربة البصائر جزء من التجارب الاعلامية الاسلامية، تعاني كمثيلاتها من معضلات شتى:

ولذلك يؤكد – على جمعية العلماء – فيما يشبه القانون الاجتماعي المعياري أو المرجعي، بأن ” نجاح ثورة مشروع ما أو فشلها، هو بقدر ما تحتفظ بمحتواها أو تضيعه في الطريق، وهذا كله يخضع لقانون، فالتغيير يحتاج وقت وجهد، والثورة لا ترتجل، إنها اطراد طويل، يحتوي ما قبل الثورة، والثورة نفسها، وما بعدها. والمراحل الثلاث هذه لا تجتمع فيه بمجرد إضافة زمنية، بل تمثل فيه نموا عضويا وتطورا تاريخيا مستمرا، وإذا حدث أي خلل في هذا النمو وفي هذا التطور، فقد تكون النتيجة زهيدة تخيب الآمال” (بين الرشاد والتيه لمالك بن نبي /14).
وتجربة البصائر جزء من التجارب الاعلامية الاسلامية، تعاني كمثيلاتها من معضلات شتى، وكل ما نتمناه هو أن تمنح هذه النخب الفكرية والاجتماعية والسياسية الوطنية داخل الجزائر وخارجها، ومنها نخبة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، بعض اهتمامها وجهدها لتنمية المعرفة والثقافة المتوازنة في كافة وسائلها الإعلامية والدعوية، وهذه النخب لكي تؤدي هذه الرسالة على مستوى المجتمع والأمة والعالم، ينبغي عليها أن ترتقي هي ابتداء إلى هذا المستوى من التميز في الفهم والأداء والسلوك معا، وذلك لن يتحقق لها إلا إذا استوعبت هي نفسها منظور العمل الدعوي الشامل بشكل صحيح، و خرجت من دوامة المنظورات التجزيئية التنافرية المنهكة، فالتفسيرات الموضوعية الصحيحة للظواهر والمشكلات المركبة، والحلول الفعالة لها، لا تتحقق إلا عبر منظور شامل، الذي تتكامل فيه النظرة إلى كل أبعاد الظواهر والمشكلات في مراحل التشخيص أولا، ثم تتكامل كذلك في مراحل التخطيط والحلول والوقاية ثانيا.
لهذا كله، فنحن كمسلمين وكجزائريين نرى في جمعية العلماء درة وطنية نفيسة، كما عرفها المفكر الجزائري، نهيب بنخبة هذه الجمعية المباركة، وبالنخبة الوطنية عامة، أن تعطي لهذه القضية المحورية في الوعي الإسلامي والإنساني، وفي معضلات النهضة الحضارية، ما تستحقه من العناية والجهد والوقت؛ تأسيسا وإنضاجا لها، وتعريفا وتعميما للوعي بها، واستثمارا لها، خدمة لنهضة الأمة ومجتمعاتها من ناحية، وخدمة للنهضة الحضارية الإنسانية عامة من ناحية أخرى، واستنقاذا لها من مخاطر المتربصة بها.
(وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ )[التوبة : 105

تعليقان

  1. بشير بتاريخ

    و نحن نقرأ هذه السطور ترتجف أوصالنا كثيرا و تهتز قلوبنا أيما اهتزاز ، و نكاد نفقد السمع و البصر و الحركة في ان واحد ! فقط لأننا لا نقرأ البصائر ! و هل نستطيع تبرير غيابنا في ساحة البصائر ؟ من منا يداوم على شراء هذه الجريدة مرة كل أسبوع و يقرأها حاضر الضمير و حاضر الذاكرة ؟ ماذا ينقص من مالنا و من وقتنا ؟ للأسف الشديد ، نحن نضيع بركة في المال و بركة في الوقت ، ناهيك عن بركة الصالحين و بركة المخلصين ،في زمن القابض على دينه كالقابض على الجمر ! و الحاضر في ساحة البصائر كالحاضر في مجالس الذاكرين! إن الحضور في ساحة البصائر ، من دون ريب، كالحاضر في مجالس التذكير !
    حري بكل جزائري أن يبحث في نفسه مع نفسه عن سر التقصير تجاه ساحة البصائر ، هذه الجريدة الغراء، أهي الغفلة ، أم هو الجفاء ؟ أنت وحدك من يستطيع تقدير حجم الخسارة و الفائدة.

  2. بشير بتاريخ

    مهمة عظيمة ، ما أعظمها من مهمة !
    ” اقرأ البصائر في حضور الذاكرة و الضمير ”
    مهمة كل محب لجمعية العلماء و غيور على حياض الجزائر ، أن يقنع الأبناء و الإخوة و الأصدقاء داخل الجزائر و خارجها على الحرص على الظفر بعدد من جريدة البصائر الغراء كل أسبوع ، و قراءتها في حضور الضمير و الذاكرة. النجاح يعني الفلاح ، أما الفشل ، فمعناه الصعوبة بمكان التوفيق فيما عدا ذلك من مهام.

Exit mobile version