رئيس “جمعية القيم” أول حركة إسلامية بعد الاستقلال
في ذكرى رحيله
” يموت العظماء فلا يندثر منهم إلا العنصر الترابي الذي يرجع إلى أصله”
محمد مصطفى حابس: جينيف / سويسرا
ونحن مع بداية الدخول الدراسي والاجتماعي الجديد هذه الأيام، كنت منهمكا لساعات في البحث عن بعض المراجع في مكتبتي الصغير المبعثرة هنا و هناك، وقع بصري على قصاصات جرائد بالية قِدم الانسان نفسه، استوقفني فيها أحد مقالاتي القديمة التي نشرتها في مثل هذه الأيام منذ عشرين سنة خلت، المقال بعنوان “دمعة على العالم الموسوعي والأستاذ الرباني، الدكتور الهاشمي التيجاني” وهي عبارة عن كلمة كتبتها بمناسبة رحيل أستاذنا الكبير العلامة الدكتور الهاشمي التيجاني (1918-2002)، رحمه الله، رئيس جمعية القيم التاريخية ورئيس الأمانة العامة لجامعة الجزائر، ورئيس المجلس العلمي بمعهد أصول الدين في تسعينات القرن الماضي..وها أنا ذا أعود لموضوعها تعميما للفائدة، خاصة لمن يرغب في التعرف عليه من أجيالنا الجديدة..إذ كتبتُ يومها متحسرا، بقولي :
غيب الموت رمزا من رموز العمل الإسلامي في الجزائر، وبذلك يأفل نجم من نجوم الأصالة من سماء العالم الإسلامي، إنه العالم الموسوعي الدكتور الهاشمي التيجاني الذي وافاه القدر يوم الأحد (7/7/2002) لينظم بدوره إلى قافلة الراحلين من علماء الأمة ورجالاتها الأفذاذ، الذين تركوا فراغا كبيرا يصعب ملؤه في هذه الظروف العصيبة، التي تداعت فيها قوى الاستكبار وخادمتها الوفية، قوى الغثائية التغريبية التخريبية، على محاربة الخير والخيِّرين في أمتنا، واستئصال شأفتهما من أرض المليون والنصف المليون من الشهداء !؟
موت العظماء حياة أممهم:
وجاء قدر الله ليرحل دون أن أراه منذ أزيد من عقد تقريبا من الزمن، وهو الذي كان يحلم بربيع العالم الإسلامي يوما ما فيه حياته وليس العربي فقط..لا لشيء إلا لأن موت العظماء حياة أممهم، فإن في الغربة زادت جلالا، فإن كانت نتيجة للظلم زادت جمالا، فإن كانت في سبيل الوطن كانت جلالا وجمالا، فإن صحبها سلب العز و الملك حلية و كمالا. فقلت مخاطبا روحه ” عزاء للوطن المفجوع فيك يا علامة الجزائر، وسلوى للقلوب المكلومة بموتك! وجزاء تلقاه في هذه الدنيا طيب ذكر، وعند ربنا ثمين ذخر، وهيهات وإخوانك الشهداء أن تجزيك الجوازى من هذه الأمة التي نهجتم لها نهج الكرامة، و شرعتم لها سنن التضحية اقتداء بشهداء ثورة التحرير المباركة، وشرعتم لها سنن التضحية، ولقنتموها هذا الدرس السامي من الثبات والإباء والشمم رغم المحن، وها أنتم اليوم تعلموننا وأقرانكم الراحلين، كيف تموت الأسود جوعا وظلما، ولا تطعم الأذى، ولا ترد القذى”، عملا بقول الأثر الأمازيغي ” أنرز و لا نكنو” أي ” ننكسر و لا ننحني” التي يقابلها باللسان العربي “تجوع الحرة و لا تأكل من ثدييها”.
حارب الاستعمار بكل أنواعه؛ رافضا التجنيد الاجباري في صفوف الجيش الفرنسي :
حارب الهاشمي التيجاني الاستعمار الفرنسي بكل أنواعه، فكان مناهضا ومدافعا عن حرية الجزائر؛ وقد اعتصم في عام 1938 لمدة سنة كاملة بمسجدٍ في الرباط بالمغرب الشقيق؛ رافضا التجنيد في صفوف الجيش الفرنسي بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية. كما التحق باللجنة المركزية لجبهة التحرير الوطني، وكان صحفيا بإذاعة “صوت الجزائر” ومسؤولا عن القسم الفرنسي بها، إلى غاية استقلال الجزائر سنة.1962
كما تقلد الدكتور الهاشمي عدة مناصب عليا في وزارة الفلاحة ووزارة الشؤون العليا للترجمة ووزارة الأوقاف والشؤون الدينية، ونُصّب مديرا للمعهد الوطني للفلاحة بالحراش، بالعاصمة..
و قد خصصتُ أستاذنا الكبير الدكتور الهاشمي التيجاني بهذه النعوت، لأن القدر جمعني به أيام كنت مع بعض طلبة العلم، في ثمانينات القرن الماضي، نحاول جمع تراث جمعية العلماء المسلمين الجزائريين من أفواه رجالها الاحياء مشافهة قبل رحيلهم، وقد حاورنا قبله الشيخ المحامي حمزة بوكوشة، و لشيخ عبد الرحمان شيبان، والشيخ الكاتب محمد الصلح رمضان والشيخ إبراهيم مزهودي، سفير الجزائر الأسبق في مصر، فزرنا أيامها الشيخ التيجاني في بيته بـحي “قاليني” بالعاصمة الجزائرية، غير بعيد عن مقر سكن جدي وجدتي رحمهما الله..وسجلنا معه حوارا تلفزيونيا مطولا دام أكثر من 3 ساعات، بدأها بتأنيبنا عن التأخر في الوصول للموعد بنصف ساعة تقريبا، ومن نوادر ما ذكر لنا أنه عاش فعلا معان متعددة وكرامات قول الله تعالى “وَمَا تَدْرِى نَفْسٌۢ بِأَىِّ أَرْضٍۢ تَمُوتُ”، لكثرة أسفاره و تنقلاته عبر دول العالم.
دخل فلسطين خطأ عام 1948، مع أول دفعة مهاجرين يهود فرنسيين، وهو لا يدري!!
ومما حكى لنا أن الأقدار ساقته الى العديد من دول العالم أثناء الاستعمار حتى إلى فلسطين دون قصد منه، إذ سافر سنة 1948 من مرسيليا بفرنسا قاصدا مصر، في الباخرة التي كانت تقل أول دفعة لليهود الفرنسيين المهاجرين إلى فلسطين مرورا بمصر، نعم أول دفعة لليهود الفرنسيين.. والرجل كما حكى لنا أن الباخرة ذات طابقين، الطابق العلوي للعرب المسافرين إلى مصر والطابق السفلي لليهود دون علم الركاب العرب بذلك، بما فيهم هو، أو شيء من هذا القبيل، فلما وصلت الباخرة ميناء الإسكندرية كان حينها هو يغط في نوم عميق من كثرة العياء، إضافة إلى شكله الوسيم الإفرنجي نوعا ما، فلم يوقظه المصريون لينزل معهم في الاسكندرية، وما إن أقلعت الباخرة تجاه فلسطين حتى صعد اليهود من الطابق السفلي ليجد نفسه بين قطيع من البشر يغنون ويرقصون طربا عن “أرض الميعاد” أي إسرائيل، فسأل أحد الركاب أين نحن؟ فقيل له، بعد ساعات ترسو بنا الباخرة على أرض الدولة العبرية الجديدة .. حينها فهم القصة وأدرك أخطار ما قد كان سيقبل عليه لو ينبت ببنت شفه، ولكن الله نجاه منهم، حتى نزل من الباخرة، وأخذ مسلكا آخر، ليعود بعد أيام لمصر سليما معافا قادما لها من فلسطين!
حنكة وتواضع لمسناهم في حفل توديع السفير الألماني بالجزائر، الدكتور مراد هوفمان
وقد التقيت الشيخ الهاشمي التيجاني مرات معدودات في الندوات وكذا كنا نصلي سواء نهاية الأسبوع في مسجد عمر بن الخطاب (بلاطو) القريب من حينا، وآخر لقاء لنا كان في عام 1990 في حفل توديع السفير الألماني بالجزائر، الدكتور مراد هوفمان (1931-2020) بوزارة الشؤون الدينية، وكان منشط الحفل استاذنا الكبير المرحوم عبد الوهاب حمودة، الأمين العام للوزارة، و أذكر مما قاله ترحيبا بالسفير الألماني:”ها هي الجزائر الحرة ترحب بكم بشيبها وشبابها.. بشيبها مشيرا بذلك للدكتور التيجاني وبشبابها مشيرا الّي كطالب وأصغر الحاضرين معهم”، وكان الدكتور التيجاني أول المتدخلين بلغة فرنسية راقية جدا، فشنف الأسماع، وأبهر الذين كانوا يعرفون عنه في مسجد الأبيار بالعاصمة، أنه خطيب مفوه بلغة عربية فصيحة دسمة، عميقة الألفاظ والمعاني، لا غير! وقد ذكرت هذه القصة للدكتور هوفمان لما التقينا عام (2001) في مؤتمر “المهتدون الجدد بسويسرا”، وتذكرها بالتفصيل قائلا لي كنت يومها طفلا وسيما واليوم صلعتك جعلتك مفكرا مفوها متأسف لفقدان المفكر الحقيقي الدكتور التيجاني وهو في عنفوان عطائه لأن الدكتور التيجاني كان رياضي من الطراز العالي فكرا و عضلات، كان رحمه الله ملاكما، ومن أقطاب الفن النبيل، علما وورعا وفتوة، بعضلات يديه وقلبه ولسانه، كما هو معروف للعام والخاص، كما يحلو لأستاذنا الكبير عبد الوهاب حمودة – رحمه الله- وصفه لنا في العديد من المناسبات.
بقي شامخا رغم سياسة التهميش والإقصاء التي تعرض لها طيلة حياته، لم يركع لسلطان المغريات والمناصب:
وقد شيعته الجزائر العميقة، في مثل هذه الأيام، كأحد رجالاتها القلائل، من طراز نادر كله تواضع، وعلم، ومبدئية، ورسالية وصلابة في الحق، ذاك هو فقيدنا المرحوم العلامة الهاشمي التيجاني، إذ يعد من المثقفين القلائل الذين وقفوا في خندق الحق إلى جانب الشعب الجزائري في السراء وفي الضراء، في الشدة وفي الرخاء، وحتى حين اليأس والبأس، بفكره وقلمه ومواقفه، رغم سياسة التهميش والإقصاء التي تعرض لها طيلة حياته، فلم يركع لسلطان المغريات والمناصب.
عمر طويل مزدهر أفناه في خدمة الإسلام والعربية والجزائر، فكان له شرف رئاسة أول جمعية إسلامية بعد مغادرة فرنسا الاستكبارية تراب الجزائر، “جمعية القيم” لتكون أول نواة للحركة الإسلامية بعد الإستقلال حيث أسسها المرحوم الشيخ الدكتور الهاشمي التيجاني، مع ثلة من المثقفين الوطنيين الخلص وبقية رجال جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في بداية الستينيات أي بعد استقلال الجزائر مباشرة، من أمثال الدكتور زهير احدادن والأستاذ شريف قصار، والمحامي حمزة بوكوشة، والشيخ الإمام والكاتب القدير عبد اللطيف سلطاني صاحب كتاب “سهام الإسلام” و كتاب “المزدكية هي أصل الإشتراكية” الذين كلفاه حياته، والإمام الشيخ العرباوي والامام الشيخ مصباح حويذق، والشيخ محمد خير الدين والشيخ الأديب الشاعر الكبير أحمد سحنون رئيس رابطة الدعوة الإسلامية، رحمهم الله جميعا، والدكتور عمار طالبي أمين عام جمعية القيم و العميد الأسبق لجامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية وصاحب موسوعة ” آثار بن باديس”، والكاتب محمد الأكحل شرفاء المكنى بسيد قطب الجزائر، والشيخ الدكتور عباسي مدني الأستاذ بجامعة بوزريعة والأستاذ عبد الوهاب حمودة الأمين العام الأسبق لوزارة الشؤون الدينية، والمجاهد أحمد بودة و المفكر رشيد بن عيسى من تلاميذ مالك بن نبي و غيرهم كثير.
بتأسيسه لجمعية القيم ومجلة “التهذيب الإسلامي” يكون قد ألقم حجرا في وجه الزحف العلماني التغريبي الفرنسي:
كما أثرى الدكتور الهاشمي التيجاني المكتبة العربية والإسلامية بدراساته القيمة، وكان كاتبا لا تلين له شوكة فأصدر مجلة “التهذيب الإسلامي” لسان حال جمعية القيم بالعربية والفرنسية، هذه المجلة التي كان لها الفضل في مواجهة الزحف العلماني التغريبي، بمواقفها الجريئة في الصراع عن الهوية الإسلامية والعربية للشعب الجزائري، والتصدي للفرنسة والتغريب التي كانت تقوده العديد من الأبواق الإعلامية المأجورة في الداخل كما في الخارج. طبعا توقفت “التهذيب الإسلامي” مع حل جمعية القيم الإسلامية، واعتقال بعض قادتها ووضع بعضهم تحت الإقامة الجبرية سنة 1965، بسبب احتجاج ” جمعية القيم” على حملة الإعتقالات في صفوف تنظيم “الإخوان” بمصر الشقيقة، ببيان تدين فيه خاصة قرار المحكمة العسكرية المصرية القاضي بإعدام الشهيد سيد قطب – رحمة الله عليه- صاحب تفسير “في ظلال القرآن”، وقد سلمت رسالة في الموضوع لسفير القاهرة بالجزائر، رسالة احتجاج إلى المباحث العامة والرئيس عبد النصر؛ يوم قبض على سيد قطب يوم 9/8/1965 وقدم مع كثير من الإخوان للمحاكمة، وحكم عليه وعلى 7 آخرين بالإعدام، ونفذ فيه الحكم في فجر الاثنين 13 جمادى الأولى 1386 هـ الموافق لـ 29 أغسطس 1966.
صدر من مجلتيها، التهذيب الإسلامي بالعربية و” لومانيزم ميزيلمان” بالفرنسية، (Humanisme Musulman)عشرة أعداد من الأولى وأحد عشر من الثانية التي كان عددها الثاني عشر مصححا وجاهزا للطبع، وإذ بمطبعة الجيش تخبر الدكتور التيجاني بأنها تلقت أمرا بعدم طبعه، ولعل ذلك راجع إلى رده بالفرنسية على بوتفليقة – المسؤول الثاني عن الدولة إذاك- الذي صرح بأن “هناك جماعة تتظاهر بالغيرة على الدين إلا أن أصحابها يتخذونه مطية للحصول على مآرب سياسية، ولا حق لهم في السياسة”، ويجب هنا شكر المحسنين الذين ساهموا بأموالهم في طبع المجلات، كما يذكر ذلك الدكتور التيجاني بقوله، في أحد المناسبات:” وقد بسط المرحوم عباس التركي من مواليد 1901 من المدية يديه السخيتين على عدد لابأس به أيضا من الكتاب الناشئين آنذاك لطبع كتبهم ونشرها مثل المرحوم مالك بن النبي والصديق اسماعيل العربي.”.. كما ترحم عليه يوم وفاته قائلا:” توفي بتاريخ 26 مارس 1983 بتبسة أثناء الذكرى السادسة والعشرين لاستشهاد الشيخ العربي التبسي، ذلكم المؤمن الصادق الصالح السخي الذي جاهد بماله ومساعيه وحرصه على إعلاء كلمة الله، وقد سبق له أن أنفق الكثير على حزب الشعب قبل وبعد أن تسمى بحركة انتصار الحريات الديمقراطية وحزب البيان، وخاصة على جمعية العلماء ومدارسها، وعلى غيرها من الكتاتيب والمدارس الإسلامية الحرة، أما مشاركته المالية في ثورة التحرير، فحدث عن البحر ولا حرج”، على حد تعبير العلامة التيجاني، رحمه الله
دوره الريادي التنويري في مواجهة الاستلاب الحضاري والمد التغريبي خدمة للإسلام والعربية والجزائر
تربى الدكتور الهاشمي التيجاني في القصر الملكي بالمغرب الأقصى الشقيق، حيث كان والده مستشارا للملك مقيما بالمغرب أثناء الاستعمار الفرنسي للجزائر، وكان والده مثقفا مزدوج اللغة أيضا، وكان مقربا جدا من ملك المغرب محمد الخامس وعلال الفاسي وعبد الكريم الخطابي وغيرهم من زعماء المغرب الشقيق، رحمهم الله جميعا.
وبعد سنوات من استقلال الجزائر حلت جمعية القيم عام 1966 التي كان يرأسها وأدخل رجالها السجن ونفي بعضهم ووضع بعضهم تحت الاقامة الجبرية، علما أن الحاكم الجزائري حينها يعلم علم اليقين أنها ” القيم” جمعية تربوية، سليلة “جمعية العلماء” وأن من أهداف “جمعية القيم” هذه، حسب مواد قانونها الأساسي الرسمي العلني، نذكر خصوصا: “العناية بنشر الوعي الإسلامي من خلال مجلة “ التهذيب الإسلامي”، وتنظيم الندوات والملتقيات التي كان يقوم بها رجالها عبر أرجاء الوطن. وكذا تجميع النخبة المثقفة ذات التوجه الإسلامي الأصيل لتأصيل الاستقلال الوطني ومواجهة الاستلاب الحضاري والمد التغريبي، الذي كان يتهدد المجتمع من الداخل والخارج و الجزائر حديثة عهد بالاستعمار..”. وقد كانت هذه الأهداف التي تسعى الجمعية لتحقيقها عامل أساسي لترصد خطواتها والإجهاز عليها في آخر المطاف.
واصل الدكتور التيجاني أعماله الفكرية و التربوية، إذ زيادة عن مهنة التدريس في الجامعة وقبلها رئاسة الأمانة العامة للجامعة، وترأسه للمجلس العلمي بمعهد أصول الدين بجامعة الجزائر، وإشرافه على العديد من الرسائل الجامعية، يمتاز أيضا المرحوم بإتقان العديد من اللغات غاية الإتقان، منها الفرنسية والإنكليزية والألمانية وحتى اللغة العبرية، حيث ذكر لنا في حواره لنا أنه قاب قوسين او أدنى من امتلاك زمام اللغة العبرية كتابة ونطقا، الأمر الذي أهله، لترجمة كتاب «لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم» لشكيب أرسلان وله أطروحة كتبها بباريس تحت عنوان «الناسخ والمنسوخ» والتي نشرت كتابا بعنوان: « مذهب النسخ في التفسير وأبعاده الاجتماعية» و«التاريخ العام للرياضة البدنية» و« مكة والمدينة اليوم » للكاتب الداغستاني الأصل حيدر بامات المقيم في فرنسا وزميل شيخنا محمود بوزوزو بسويسرا الذي كان ينشر له مقالاته مترجمة للعربية في مجلة « المسلمون»، إضافة إلى مئات المقالات الصحفية بالعربية ولغات أخرى. طبعا عملية الترجمة و الكتابة يكون قد اكتسبها إضافة لدراساته العليا- أبا عن جد- بحيث لا ننسى أن والده أحمد التيجاني 1882-1981) ترجم القرآن معاني الكريم كاملا من العربية للفرنسية، بالاشتراك مع المستشرق الفرنسي أوكتاف بل، وهو شقيق المستشرق ألفرد بل، مدير “مدرسة” تلمسان. كما كان يوقع مقالاته في جريدة البصائر، عام 1936، باسم “أبو العباس أحمد بن الهاشمي”، كما يذكر ذلك أستاذنا الكبير محمد الهادي الحسني، في مقال بيومية الشروق بعنوان “أحمد التيجاني”.
الداعية والكاتب الشريف والنزيه، لا يكتب إلا من خلال آهة أو دمعة. ليعبر عن آلامه وعذابات جيله وشعبه:
إن رجلا من طراز الدكتور التيجاني الذي تميز بالصرامة والصدق والثبات على المبادئ وعزة النفس كان أولى وأجدر من العديد من التافهين لتقلد المناصب العليا في الدولة لتستفيد الأمة من عبقريتهم، هذا الوضع جعل اليوم الكاتب الداعية والأديب الجزائري الشريف والنزيه، إن كتب لا يكتب إلا من خلال آهة أو دمعة. يكتب ليعبر عن آلامه وعذابات جيله وشعبه. من هنا طغت نغمة الحزن واليأس والإحباط في فترة ما بعد الإستقلال على الكثير من كتابنا الملتزمين. لا لشيء إلا لأن الوفاء قليل في البشر، وأوفى الأوفياء من يفي للأموات وللمبادئ النبيلة التي ماتوا من أجلها لتحي أمة الخير والعدل، وتزدهر و تتطور، لأن النسيان غالبا ما يباعد بين الأحياء وبينهم، فيغمطون حقوقهم، ويجحدون فضائلهم ..
لأن العمل بتجارب الخيرين من رجالنا ميزان حق، ولسان صدق به تزن الرجال (والنساء) أعمالهم الجليلة ومواقفهم الشريفة وقد علمنا نبينا الأكرم صلى الله عليه وسلم، أن نمدح المستحقين للمدح دون غلو مشين ولا إطناب مهين، لأن الرجال معادن فهي أعمال وأخلاق، ونحن حينما نذكر العمل لا نريد به القاصر في عرف الفقهاء، وإنما نريد منه هذه الأعمال العامة النافعة التي فيها ما في النور والماء، من غذاء وقوة وحياة الأمم، وفيها ما في الدهر من استمرار وامتداد.
متى تتذكر مؤسساتنا رجال العلم وأهل الفضل عليها، لتكريمهم برد الجميل؟
أقول هذا الكلام- الآن- لأن رجلا من هذا الطراز يرحل – أيامها – وسط لامبالاة الأوساط الإعلامية في الجزائر إلى اليوم، بل حتى وزيرة الثقافة (خليدة تومي) والناطقة الرسمية باسم الحكومة يوم رحيله تحديدا، حاولت التغطية عن الحدث في نفس اليوم لرحيل الدكتور التيجاني، بفرحتها بقدوم “عملاق” الفن وقدوة الشباب الجزائري “الناجح” ـ كما تسميه هي- !! المطرب المدعو “الشاب خالد”، مقدمة إياه على أنه القدوة والمثل، وقد كَتَبتُ حينها عمودا في يومية الزمان اللندنية ونقلت في يومية الفجر الجزائرية، بعنوان “هكذا تقلب الموازين في بلادي.. ولكن لا حياة لمن تنادي”..! “وهكذا تطعن في الظهر وأمام الأشهاد ثوابت أمة طال بالغدر ليلها، فمن أضعف الإيمان أن تسمى مؤسسات تربوية وثقافية باسم فقيدنا العزيز، الدكتور الهاشمي التيجاني”.
إنا معكم منتظرون تكريما لروح الفقيد
وتضحيات المعلم الرسالي والمربي الأجيال..
ونحن نترقب الى اليوم مع كل نهاية سنة دراسية واجتماعية لما تبدأ التكريمات وتسمية المؤسسات التربوية والجامعية الجديدة وغيرها، وحتى دفعات المتخرجين في مختلف فنون المعرفة المدنية والعسكرية وحتى الرياضية، علنا نسمع تكريما لرمز من رموز التربية والاصلاح منهم استاذنا العلامة الدكتور الهاشمي التيجاني، أمل من صميم قلبي أن يستدرك هذا الخطأ الفادح في حق علماء الجزائر ورموز الخير عبر أجيالها.
في انتظار ذلك نقول لفقيد أمتنا الغالي، “نم هادئا، قرير العين …حسبك قول رفيق دربك الشاعر الفحل محمد العيد آل خليفة، الذي أنشد يقول يوم رحيل إمامنا، العلامة عبد الحميد بن باديس:
نم هـادئا فالشعب بعـدك راشــــد *** يختـط نهجـك في الهـدى ويسير
لا تخش ضيعة ما تركت لنا سـدى *** فالـوارثـون لمــا تركـــت كثير
بدورك أيضا يا شيخنا الجليل نم هادئا قرير العين، وسلام عليك في الشهداء والصدقين وحسن أولئك رفيقا.
وإلى لقاء في جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين، وصدق محيي الموتى القائل: ” ٱلَّذِينَ تَتَوَفَّىٰهُمُ ٱلْمَلَٰئِكَةُ طَيِّبِينَ ۙ يَقُولُونَ سَلَٰمٌ عَلَيْكُمُ ٱدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ” (النحل :32).
هنيئا لك أستاذنا، ذخرك عند الله مما قدمت يداك من باقيات صالحات، وعزاء لك فيمن كنت تعلمهم وتواسيهم.. وسلام عليك في الأولين، وسلام عليك في الآخرين، وسلام عليك في المؤمنين العاملين، وسلام عليك في الدعاة الربانيين، وسلام عليك إلى يوم الدين.. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين، و”إنا لله و إنا إليه راجعون” .

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version