بمناسبة عيد الأضحى المبارك الذي عشناه هذه السنة بمذاق وباء كرونة الذي أخذ منا أحبة كثرا، وحرمنا من أمور كثيرة، وألقى علينا مواعظ ودروسا بالغات قاسيات، لو وعيناها واستفدنا منها لغيرت حياتنا باتجاه المزيد من الصلاح والخيرية والبركة والرحمة الكونية العامة، نتقدم بالتهنئة لجميع المسلمين والمسلمات في بلدنا وفي مشارق الأرض ومغاربها، داعين الله تعالى أن يبارك لنا في عيدنا، ويتقبل منا أعمالنا، وأن يصلح أحوالنا، ويلطف بنا فيما جرت به مقاديره الحكيمة في هذا الوباء الذي تمر به الإنسانية مدهوشة متضرعة، وأن يخفف سطوته علينا وعلى الناس أجمعين، وأن يرحم موتانا ويشفي مرضانا، ويصبر مكلومينا، وأن يأخذ بأيدينا جميعا حكاما ومحكومين إلى أمر جامع صادق يؤلف بين القلوب، وينور العقول، ويجمع الطاقات، ويوحد الجهود 

 الأعياد تتويج للفرح بالنجاحات العظيمة:

 الأعياد في أساسها مناسبات عظيمة للفرح بالمنجزات التي حققها الإنسان أو المجتمع في حياته. كما أن عيد الفطر مناسبة للفرح بتتويج شعيرة عبادية عظيمة في الدين والحياة هي صيام رمضان، فإن عيد الأضحى أيضا مناسبة للفرح بتتويج شعيرة عبادية عظيمة في الدين والحياة، وهي حج بيت الله الحرام الذي يرجع منه الإنسان كيوم ولدته أمه! وهل هناك أعظم فرحة من ذلك في حياة الإنسان؟ كما ينال فيها غير الحاج ممن شارك الحجاج في عبادتهم العظيمة بإحياء العشر الأول من ذي الحجة، وختمها بصيام يوم عرفة الذي يغفر الله به ذنوب سنتين كاملتين ماضية وقادمة بإذن الله تعالى! وهل هناك أعظم فرحمة من ذلك أيضا لغير الحاج؟ علما أن الأمة تقريبا كلها حرمت هذه السنة من أداء فريضة الحج، بسبب انتشار وباء كورونا.

يوم العيد، يوم الشكر والحمد والتكبير، فالله أكبر كبيرا، شعار المسلمين في كل وقت وعلى كل حال، فالحمد لله والشكر لله في السراء وفي الضراء! في الشدة وفي  الرخاء! الحمد لله والله أكبر حين البأس وحين السقم! الحمد لله في كل حال وعلى كل حال!، لا لشيْ إلا لأن يوم العيد أشبه بيوم الوعيد، أشبه بيوم القيامة، مصداقا لقوله تعالى “وجوه يومئذ مسفرة، ضاحكة مستبشرة، ووجوه يومئذ عليها غبرة، ترهقها قترة” <عبس:37>، فأما المستبشرون الفرحون، فأولئك الذين أتم الله عليهم نعمة الصلاة والصيام والقيام، فهم في هذا اليوم يفرحون وحق لهم أن يفرحوا. وأما الوجوه التي عليها غبرة، ترهقها قترة، فوجوه أولئك الذين لم يقدروا نعمة الله، في هذه العشر من ذي الحجة ولم يمتثلوا لأمر الله في الصيام والقيام، فيا ويلهم ثم يا ويلهم (فلا صدق ولا صلى، ولكن كذب وتولى، ثم ذهب إلى أهله يتمطى، أولى لك فأولى، ثم أولى لك فأولى) <القيامة 31-35>.

 الأعياد محطات للتقييم والاستشراف والتجديد: 

وليس هذا فحسب، بل الأعياد كذلك مناسبات ومحطات مهمة في حياة الأفراد والمجتمعات، تتيح لهم الفرصة لمحاسبة أنفسهم، وتقييم أوضاعهم، ومعرفة أين هم بالضبط مما ينبغي لهم أن يكونوا عليه في حياتهم؛ من الصلاح والاستقامة والخيرية والبركة والرحمة الكونية العامة؟ فمن لم يستحضر هذا المعنى أو هذا البعد في عيد الأضحى، ولم يقيم نفسه، ولم يسشرف مستقبله، ولم يجدد حياته لتحقيق المزيد من الصلاح والخيرية والبركة والرحمة لنفسه وللآخرين، فقد حرم نفسه من شيء كبير، جد كثير، وفوت عليها فرصة عظيمة لتجديد حياته

 مقاييس النجاح في الحياة الدنيوية والأخروية: 

فالإنسان يحقق من النجاحات في حياته، وينال من المقامات الكبيرة في الدنيا والآخرة، بقدر ما يحققه من الصلاح والاستقامة والخيرية والبركة والرحمة؛ في نفسه وفي المجتمع والعالم الذي يعيش فيه. وفي هذا المعنى جاء قول الرسول عليه الصلاة والسلام (خيرُ الناسِ أنفعُهم للناسِ) وفي رواية أخرى للحديث: (أحبُّ الناسِ إلى اللهِ أنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ). فمن أراد أن يحبه الله، وأن يجعله من خير الناس، فعليه أن يعمل على رفع مستوى نفعه لنفسه ولغيره من الناس في مجتمعه وفي العالم بقدر ما يستطيع

 القضية الأساسية التي ينبغي على الإنسان أن يقيِّم بها نفسه بهذه المناسبة العظيم:

 كيف تقيِّم نفسك تقييما صحيحا مفيدا، وتوفر لنفسك الشرط الأساس لتحقيق محبة الله لك، والفوز بمقام الخيرية عنده سبحانه وتعالى كما مر في الحديثين السابقين؟ وقد جاء في الحديث: (إنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وتَعَالَى إذَا أحَبَّ عَبْدًا نَادَى جِبْرِيلَ: إنَّ اللَّهَ قدْ أحَبَّ فُلَانًا فأحِبَّهُ، فيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، ثُمَّ يُنَادِي جِبْرِيلُ في السَّمَاءِ: إنَّ اللَّهَ قدْ أحَبَّ فُلَانًا فأحِبُّوهُ، فيُحِبُّهُ أهْلُ السَّمَاءِ، ويُوضَعُ له القَبُولُ في أهْلِ الأرْضِ) (رواه البخاري).

 ومن منا نحن البشر عامة والمؤمنين منهم خاصة، لا يريد ولا يحب أن يحبه الله تعالى ويدرجه في عداد الأخيار من عباده؟ إننا جميعا نحب ذلك ونسعى إليه بكل ما أوتينا من قوة وجهد وذكاء وفرص، ولكن ليس كل ما يتمنى أو يحب المرء يدركه، بل ذلك له طريقه وشروطه، التي إذا عُرفت وأُخذ بها، حققت للإنسان مراده بإذن الله تعالى. 

 ولذلك، فإن أهم ما ينبغي أن يقيِّم فيه الإنسان نفسه بهذه المناسبات العظيمة، هو علاقته بدينه؛ هل هي علاقة صحيحة وصحيَّة ومتنامية وناجحة؟ أم أنها علاقة مضطربة ومرتبكة ومقلقة وغير سوية؟ فالعلاقة الصحيحة بالدين هي طريق وشرط نيل محبة الله تعالى، والفوز بمقام الأخيار من عباد الله الصالحين ..

لماذا تقييم العلاقة بالدين هي القضية الأساسية في هذه المناسبة العظيمة التي يجب علينا ان نعتني بها في هذه المناسبة العظيمة؟ 

لأنه بصلاح العلاقة بالدين تصلح العلاقة بالله، ومن صلحت علاقته بالله فقد صلحت علاقته بنفسه وصلح تبعا لذلك أمره كله؛ الدنيوي منه والأخروي.. ومن اختلت وفسدت علاقته بالله فقد فسدت علاقته بنفسه وبالناس وبالطبيعة، وأصبحت حياته الدنيوية والأخروية معا في خطر عظيم، لأن الدين بما فيه عقيدة وشريعة وأخلاق وقيم مطابقة لحقائق الفطرة الكونية والإنسانية، وحقائق الوجود الإلهي، هو المركز الذي تدور حوله الحياة الإنسانية، وتنشدُّ إليه، وتحافظ به على توازنها وخيريتها وبركتها ورحمتها الكونية، فإذا اهتزت العلاقة به أو ضعفت، اهتزت واخلت وضعفت الحياة كلها تبعا لذلك، ولهذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام يكثر من هذا الدعاء العظيم لتضمنه صلاح الدين الذي به يصلح كل شيء: ( كانَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ يقولُ: اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لي دِينِي الذي هو عِصْمَةُ أَمْرِي، وَأَصْلِحْ لي دُنْيَايَ الَّتي فِيهَا معاشِي، وَأَصْلِحْ لي آخِرَتي الَّتي فِيهَا معادِي، وَاجْعَلِ الحَيَاةَ زِيَادَةً لي في كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلِ المَوْتَ رَاحَةً لي مِن كُلِّ شَرٍّ )( رواه مسلم).

فمن أراد صلاح نفسه، وصلاح أهله، وصلاح أولاده، وصلاح دنياه، وصلاح آخرته، فعليه بإصلاح دينه، وتوثيق صلته به، والعض على ذلك بالنواجذ.

فاللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمتنا أمرنا وبارك لنا فيه

العيد والمقامات الإبراهيمية:

لننظر مثلا إلى مقام النبي العظيم الذي ارتبطت مناسبة عيد الأضحى به، وهو سيدنا إبراهيم الخليل عليه السلام، الذي اختاره الله تعالى خليلا له! وكفى به مقاما أولا عظيما! وجعله إماما للناس، وكفى به مقاما ثانيا عظيما! وجعله أبا للأنبياء، وكفى به مقاما ثالثا عظيما! وخصه مع سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام بالصلاة والتبريك عليهما في أعظم شعيرة من شعائر الإسلام وهي الصلاة!  وكفى به مقاما رابعا آخر عظيما! حيث يدعو له ملايير المسلمين عبر القرون بالمزيد من الثناء عليه، وطلب رفع مقاماته في عالمي الإنس والجن، استجابة لدعائه عليه السلام الذي جاء فيه: (رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) واجعلني من ورثة جنة النعيم (85) (الشعراء). أي تفضل علي بثناء حسن، وذكر جميل، وقبول عام في الأمم التي تجيء بعدي، فأعطاه الله ذلك فجعل كل أهل الأديان يتولونه ويثنون عليه، وفي مقدمتهم نحن المسلمين الذين يحتل مكانة عظيمة في صلاتنا كما سبق بيان ذلك..

فبماذا نال عليه السلام هذه المقامات العظيمة الرفيعة؟ 

لقد نالها بفضل صلاح دينه، واستقامته عليه، واعتزازه به، وحرصه على أن يستفيد الناس من بركاته ورحمته، واستعداده للتضحية من أجله بكل غالي ونفيس، حتى ولو تعلق الأمر بأعز الناس إليه فلذة كبده ابنه إسماعيل عليه السلام، بل وحتى بنفسه هو عليه السلام كما حدث له مع النمرود حينما ألقاه في النار، فلم يتزعزع أو يضعف أو يهتز إيمانه بدينه، أو يخامره أي هاجس للمساومة فيه، بل ازداد ثقة في الله واعتزاز بدينه، وإصرارا على الالتزام به، والدعوة إليه، والعمل على التمكين له في عقول الناس ونفوسهم وواقع حياتهم.

فمن أراد نيل هذه المقامات الدنيوية والأخروية الرفيعة، فعليه بإصلاح علاقته بدينه، بالمزيد من التعلم له، والتفَقُه فيه، والإلتزام به، والدعوة إليه، والعمل على إيصال هداياته إلى جميع الناس، بلسان حاله ومقاله معا، وبدعم كل جهد يعزز مكانة الإسلام في الحياة، يقوم به غيره من إخوانه المسلمين

لذلك يطلب منا ان نحرص على خدمة ديننا بكل ما نستطيع، وبكل ما نملك من جهد ووقت وذكاء وخبرة وتجربة وإمكانات وعلاقات.. فإنه فيه مصلحتنا الدنيوية والأخروية، وفيه عزنا الدنيوي والأخروي، وفيه نجاتنا من ابتلاءات الدنيا وعظائم الآخرة.

 عن مثل يوم عرفة، يقول الحبيب المصطفى: ((يعدل صوم يوم عرفة بصوم سنتين ويعدل صوم عاشوراء بصوم سنة))، وقال أهل التفسير في قوله تعالى: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ}، ومِنْ فضائلِهِ أنَّ اللهَ تعالَى أكْمَلَ فيهِ الدينَ وأتَمَّ فيهِ النعمةَ، فعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ (رضي الله عنه): أنهُ قرأَ هَذِهِ الآيَةَ “الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً ” وقَالَ : نَزَلَتْ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ، وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ – ص -: “يَوْمُ عَرَفَةَ وَيَوْمُ النَّحْرِ وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ عِيدُنَا أَهْلَ الإِسْلاَمِ ، وَهِىَ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ”. فالنحر واجب، و إراقة الدم مطلوبة في الأيام الثلاث المقبلة ليوم عرفة، على من إستطاع ذلك..

 من دروس موسم الحج:

إن الحج مدرسةٌ متعدّدةُ الفصول، متنوعةُ الدروس، عظيمةُ الفوائد، ولكلّ فردٍ حظُّه من هذا الخير العميم، بمقدارِ استعداده واجتهاده وتوفيقِ الله عزّ وجلّ إيّاه، فنغتنمَ أوقاتَه، ونتعرّضَ لنفَحاتِه، لنستدركَ ما فاتنا من تقصير: فنجدّدَ في قلوبنا معانيَ الإيمانِ بالله تعالى، والإخلاص له، والإنابة إليه، ونتقرّبَ إليه بالتوبة والاستغفار، والإقلاع عن الذنوب، وحُسنِ أداء العبادات، ندعوه تضرّعاً وخُفيَة، ونبتهِلُ إليه خوفاً وطمعا، نتلو كتابَ الله متدبّرين، بقلوبٍ خاشعةٍ، وعيونٍ دامعة، نسألُ اللهَ الجنة، ونستعيذُه من النار، مستشعرين فضلَ الله علينا وعلى الناس.

 ونذكرَ أننا دعاةٌ إلى الله عز وجل، في أنفسِنا وأهلينا ومجتمعاتنا، ويكونَ كلُّ واحدٍ منّا مِشعَلاً يضيءُ ما حولَه خاصة في بلاد الغربة و الهجرة، فالدعوةُ إلى الله ليست مجرّدَ انتماءٍ وانتساب، إنما هي سلوكٌ وعملٌ، وتضحيةٌ وبذلٌ، والتزامٌ وثبات.. ونذكرَ دائما أننا إخوةٌ في الله رغم الداء والأعداء، ألّفَ الله بين قلوبنا فأصبحنا بنعمته إخوانا، فنجعلَ من هذه الأيام مناسبةً لتعميق هذه الأخوة الانسانية، والقيام بحقوقها وواجباتها. ونذكرَ أن يوم العيد يوم الفرح والجود والكرم والتراحم والمواساة، وفرصةٌ للتخلّص من الشحّ الذي جُبِلت عليه الأنفس.

 ولنا في معايدة الشيخ البشير الإبراهيمي من دروس وعبر، حيث كتب رحمه الله، سنة 1947.

(آثار الابراهيمي: 3/ 470) 

أيها المسلمون: عيدكم مبارك إذا أردتم، سعيد إذا استعددتم

لا تظنوا أنَّ الدعاء وحده يردُّ الاعتداء!

إنَّ مادة دعا يدعو، لا تنسخ مادة عدا يعدو، وإنما ينسخها أعدَّ يعدُّ، واستعدَّ يستعدُّ،

فأعدوا واستعدوا تزدهر أعيادكم وتظهر أمجادكم.. 

أفهموا ما في هذا العيد من رموز الفداء والتضحية والمعاناة، لا ما فيه من معاني الزينة والتفاخر المادي، ذاك حق الله على الروح، وهذا حق الجسد عليكم. وصدق من قال:”ليس العيد لمن لبس الجديد إنما العيد لمن طاعاته تزيد “. نعم “ليس العيد لمن لبس الجديد وأكل اللذيذ إنما العيد لمن طاعاته تزيد “. 

فالمسلم يحرص أن يكون قدوة في المنشط و المكره، هذا البعد يجب أن يكون حاضرا في كل مكان، في البيت، في الشارع، في المجتمع، و هو الحد الأدنى، أما نصرة الإسلام في الغرب كما في أي مكان، هو الوعي به، المزيد من التمثل به، أن تعطي المثل، كالغيث أينما وقع نفع، على حد قول أحد مشايخنا الصالحين:” أينما كنت راقب ربك و أخشاه .. (وأتبع السيئة بالحسنة تمحوها، و خالق الناس بخلق كريم)”.. وطوبى لكم أيها الغرباء عبر العصور والأجيال .. طوبى لكم في غربتكم.. طوبى لكم في هجرتكم.. طوبى لكم في ديار الغرب و أنتم متمسكون بسنة نبيكم و دين ربكم .. طوبى لكم يا أحباب رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، القائل: “بدأ الإسلام غريبا و سيعود غريبا، فطوبى للغرباء”.

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version