في بداية الحرب القذرة التي شنها طلقاء الجيش الاستعماري Les D.A.F ضد الشعب الجزائري غداة انقلاب 11 يناير 1992، تدخلت بعض الشخصيات من الوطنيين الغيورين على بلدهم، دعوا الإنقلابيين إلى حل سياسي يجنب البلد الكارثة، وكانت آنذاك التكلفة البشرية رغم جسامتها، لا تزال في حدود بضعة ألاف، قبل أن تتفاقم عمليات القتل لجماعي والاختطاف، غداء التصريح المشؤوم الذي أطلقه رضا مالك، حرض فيه على “نقل الخوف إلى ما أسماه الطرف الآخر” La peur doit changer de camps، فتدخلت فيالق الموت لقتل الشعب تقتيلا والشروع في المجازر المروعة، وتجددت النداءات من جهات مختلفة تطالب بتحكيم العقل وحقن الدماء وتحصين البلاد من الانزلاقات والعواقب الوخيمة، لكن حقد اليناريين، عسكريين ومدنيين، وتعجرفهم الذي ورثوه عن العقلية الاستعمارية، نسف كل هذه المحاولات السياسية الداعية إلى ضرورة التسريع بالحل السلمي، وكان ردهم، مُمَثلين في نزار والعماري وتواتي ورضا مالك وبلقايد غيرهم، رفضا قاطعا للحوار، وأن الحل الوحيد المطروح بالنسبة لهم هو الحل الأمني الشامل، أي القضاء المبرم على من اسموهم “الإرهابيين”، فعاشت البلاد على مدار عشر سنوات كاملة حربا استئصالية عشواء، يعلم الجميع اليوم تكلفتها الباهظة، وشهدنا كيف كانت نتيجة “إنقاذهم للجمهورية” (وحماية الديمقراطية بالنسبة للبعض الآخر)؛ تكلفة ناهزت الربع مليون قتيل، وأكثر من 20 ألف مختطف لا يُعرف مصيرهم إلى يومنا هذا، وآلاف المعتقلين في فيافي الصحراء، وعشرات الآلاف من المعتقلين والمعذبين، فضلا عن الأحكام بالإعدام والسجن مدى الحياة الصادرة عن محاكم خاصة (محاكم بوشكارة) الخارجة على القانون والدستور، دون احتساب الخراب المادي والعمراني والاقتصادي الذي أعاد الجزائر إلى ما قبل 50 سنة.

اليوم في الذكرى 29 للانقلاب على خيار الشعب، التي تعيد إلى ذاكرتنا مآسي تلك الحقبة الحالكة من تاريخ الجزائر المستقلة، كان من الجدير بالماسكين بتلابيب السلطة، من كبار قادة العسكر والمخابرات، أن لا يكرروا المأساة، وألا يتعنتوا من جديد ليواصلوا مسارهم الإجرامي، كان عليهم أن يتحلوا بدل ذلك بقدر من الحكمة ويغتنموا هبة الشعب في حراكه المبارك، ليعيدوا السيادة لصاحبها، بطريقة سلسة، عن طريق حل سياسي توافقي جامع، لا يقصي أي فئة من الشعب، بعيدا عن نصب المشانق وتصفية الحسابات وروح الانتقام، وبذلك يجنبون البلاد كارثة أخرى.

لكن نلاحظ بأسف ومرارة أن السلطة لا تريد انتهاز فرصة الحراك للشروع في تحوّل ديموقراطي سلمي في نظام الحكم، بل تواصل الهروب إلى المجهول من خلال فرض اجندتها بطريقة أحادية مثلما فعلت في انتخابات 12 ديسمبر 2019 التي قاطعتها غالبية المواطنين باعتراف أرقامها الرسمية، أو التصويت على تعديل الدستور في نوفمبر 2020، الذي مني بنفس الهزيمة، ثم تستمر على نفس الطريق، غير عابئة بعواقب تصرفها وهي تتأهب لتمرير انتخاباتها التشريعية المرتقبة بنفس المنظومة ونفس التشكيلات السياسية التي لفظها الشعب برمته، كونها دكاكين تابعه للنظام أو صنيعته داخل مخابره.

وما يؤسف له أيضا، أن المتحكمين في الوضع، بدلا من أن ينتهزوا فرصة الحراك لإحداث التغيير المنشود الذي يطالب به الشعب طيلة أشهر، استعملوا الحراك وركبه بعضُهم لتصفية حساباته مع خصومه داخل دهاليز السلطة، مما فتح المجال لحروب طاحنة بين أطراف النظام، وسلسلة من عمليات الانتقام، تروم كلها استنساخ نفس المنظومة، بأطقم تنتقى على أساس الولاء أولا وقبل كل شيء، دون أدنى مراعاة لمطالب الشعب ولا لمصلحة البلاد.

هذا التوّجه من النظام يتجلى بوضوح في التخبط العشوائي المتناقض طيلة 18 شهرا من عمر الحراك، يمزج بين المضايقات والمتابعات القضائية والاعتقالات التعسفية والتهديد والوعيد وتسخير جهاز القضاء ضد نشطاء الحراك وغلق الفضاء السياسي.

ومهما حاول أباطرة النظام استنساخ منظومة الحكم السائد حتى الآن، فإن التغيير كما يتوق إليه الشعب، حتمي وآت لا مناص، لأنه ضرورة تاريخية، وكل مقاومة من السلطة لهذا التغير مآلها الفشل، ستتحمل هي وحدها المسؤولة، فالأجدر بها أن تدرك أن الشعب مصمم على استعادة حريته وكرامته، ولن يعود إلى البيوت قبل ذلك، وقد أثبت أنه بلغ درجة عالية من الوعي من خلال رفعه مطالب سياسية بالأساس لا يمكن الالتفاتة عليها برتوشات مهما كانت طبيعتها، ولن يقبل تغيرا داخل هذه المنظومة، ويظل متمسكا بمطلبه في التغيير الجذري السلمين لمنظومة الحكم.

لقد استخلص المواطنون دروسا ثمينة من تجارب نضالاتهم السابقة، وأدركوا أن مطالبهم الفئوية والاجتماعية والمهنية لن تتحقق في إطار نظام دكتاتوري، همه الوحيد التجديد لنفسه والحفاظ على امتيازاته على حساب مصالح البلاد والشعب، وأدركوا أيضا خطورة مناورات النظام في محاولته لتأليب فئات الشعب ضد بعضها البعض في حروب وصرعات طاحنة، تغذيها ماكينته التضليلية من اجل استحكام قبضتها على الجميع. ونحن على وشك استئناف مسيرات الحراك، على السلطة الحاكمة أن تعيد قراءتها للوضع وتتعظ من دروس مأساة 29 سنة من الحرب القذرة ومن المناورات العبثية وسياسات الولاءات والتغييرات السطحية لاستنساخ الواجهات المدنية للحكم العسكري المخابراتي، وعليها أن تتوقف عن الدفع بالبلاد نحو تكرار ماساه التسعينات، والإصرار على منع الشعب من استعادة حقه المشروع، حري بها انتهاز هذه الفرصة الثمينة السانحة، لعلها تنقذ نفسها أولا، وتنقد الشعب والوطن أساسا. لا تزال الفرصة في متناولها، ولا يمكنها هذه المرة تكرار عشرية دموية أخرى، لأن المواطن قد عزم أمره وأدرك أن لا حاضر ولا مستقبل أمامه سوى في حكم نفسه بنفسه، في إطار دولة مدنية، يحكمها رجال من اختياره، يوصلهم إلى الحكم بإرادته، ويسقطهم بنفس الإرادة، فليتركوه يقرر مصيره، سلميا موحدا حضاريا مثلما برهن عليه طيلة أشهر الحراك، التاريخ شاهد والعالم يشاهد والشعب كله، عازمٌ على المضي قدما نحو استعادة وطنه واستكمال مسار التحرر.

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version