عودة نزار على طائرة رئاسية واستقبال رسمي، رغم الأحكام الصادر ضده من محكمة عسكرية وأخرى مدنية، بعقوبة 20 سنة سجنا، ليس إلا مؤشر على المسار الذي نتجه إليه، وصورة مصغرة عن الشجرة العفنة التي تكشف وحشة الغابة القاتمة التي يناور داخلها عصابات الدم ونهب المال. هذه العودة الرمزية وثقيلة الدلالة، تعيد بذاكرتنا إلى بداية مارس 2019، عندما بدأت حملة الاعتقالات وسط عناصر من العصابات الحاكمة وفرار آخرين. وكان البعض حينذاك عاتبنا على تشكيكنا في العملية برمتها، بل وزعم آخرون أننا أصبحنا بحكم أمر الواقع حلفاء موضوعيون  للمجرمين، وأننا انقلبنا على “القيادة البادسية” التي تجرأت على فعل وإنجاز ما لم يكن يتصوره أحد.

وأوضحنا يوم ذاك أن تحفظنا مبدئي، لا يقوم على العواطف أو التمني، وإنما يستند إلى قاعدة سننية تؤكد لنا أن المفسد لا يرتجى منه الإصلاح، وأن الطرفين، المنتصر والمنهزم مرحليا، لا يختلفان في الجوهر ولا في طبيعة الدولة التي يريدون استمرار سيادتها، دولة عسكرية بوليسية، وان موضوع الخلاف بينهما يختصر في مصالح آنية بينهم، والدليل، أن المجرمين الذين تم اعتقالهم، سجلهم الإجرامي زاخر ومعروف منذ أمد بعيد، فلماذا إذن لم يحرك جهاز القضاء ساكنا، وتفطن فقط في تلك اللحظة (أشهر بعد ضغط الحراك)، إلى جانب ذلك، كان لافتا للأنظار أن الاعتقالات كانت انتقائية، وطالت جزء فقط من المجرمين وتعامت عن جزء آخر، لم يكن أقل إجراما، لكن ولاءه للفريق الفائز أنجاه من نفس المصير، ومن جهة أخرى، فكل من تم اعتقالهم لم يتابعوا على جرائمهم المهولة التي  اقترفوها بحق الشعب والبلاد (وشاركهم في ذلك حتى الفريق الذي اعتقلهم آنذاك)، بل اقتصرت “جريمتهم” على  تهمة  “محاولة الانقلاب على قايد صالح” !!. إن تركم كل هذه الحقائق الماثلة أمام الأعين ولا ينكرها عاقل، تؤكد لنا أن مسلسل الاعتقالات يدخل في إطار تصفية حسابات بين أطراف متنازعة داخل السلطة، ولا نصيب فيها للعدالة أو مصلحة الشعب واستجابة لمطالبه، وكان واضحا منذ الوهلة الأولى، أنه متى تمت تسوية خلافاتهم، ستعدو الأطراف المتناحر إلى سابق عهدها، لتستمر في إذلال الشعب واستعباده، وما تجربة مصر عنا ببعيد. وبالفعل، لم تمر سوى بضعة أشهر حتى بدأنا نشهد خروج أفراد العصابة، الواحد تلو الآخر، لتنتهي حلقات المسرحية بمشهد سريالي: عودة الجزار نزار، في حمايتهم أقرانه، ربما لإتمام مهمة إنقاذ الجمهورية، وشهدنا أيضا تشكيل فريقه السياسي والعسكري والإعلامي، مثلما تظهره لنا تصريحاتهم المبررة “قانونيا” لعودته، وتمجيدها، بين السطور، لدوره في خدمة الجزائر. هذه العودة لنزار، كفيلة وكافية لتبيان الفرق بين القضاء والعدالة، بين ما يجري في دول الشرعية وما يدبر في دول الاستبداد…

أولا، فرقٌ شاسع بين أن تكون العدالة سلطة مستقلة، قائمة بذاتها إلى جانب السلطة التنفيذية والتشريعية، تراقب الجميع وتحقق العدالة بكل شفافية ونزاهة، بما يضمن قوة الدولة وتماسك نسيجها، وبين قضاء يستخدم وسيلة وأداة لتحقيق أغراض لا علاقة لها لا بالعدالة ولا بمصلحة المجتمع ولا الأفراد.

ثانيا، في الدولة القائمة على شرعية خيار أبناء الوطن وسيادة الشعب حقا وفعلا، يُتابَع المتهم بناء على ما اقترفته يداه، وينظر القضاء في الجريمة لحظة وقوعها مع التأكد في ومدى تحقق أركانها، بصرف النظر عن هوية مرتكبها أو ضحاياها، ويفصل فيها بشفافية ونزاهة، ولا تنفذ العدالة لمعاقبة مرتكب الجريمة فحسب، هذا جزء مهم من العدالة، لكنه ليس الأساس، بل تسعى إلى تحصين المجتمع وردعا للمجرم وضمانا لسلامة البلاد والعباد، وتتم باستقلالية عن كل سلطة أو جهاز آخر.

بعد التذكير بهذه الأبجديات، نسأل أنفسنا، كيف نصنف “القضاء” عندنا؟ قد يبدو السؤال “تحصيل حاصل” لكن مع ذلك، دعونا نسلط بعض الأضواء على ما يجري عندنا في مجال القضاء:

  • فساد الذمة: هذا الجانب من الانحراف في القضاء ليس حكرا على عصابتنا، بل يحدث في كل الدول، المتقدمة منها والمتخلفة، الديمقراطية والمستبدة، ويكاد يستحيل وجود نظام حكم واحد منزه عن هذا الانحراف، لكن تتفاوت درجة فساد الذمة بحسب فساد الأنظمة ومدى شرعية حكامها, نجد أن في الأنظمة الفاقدة للشرعية يبلغ الفساد في جهاز القضاء درجات مهولة تهدد أركان الدولة، ويتحوّل فيها القضاء إلى مصدر إثراء غير شرعي ونهب للأموال وشراء الذمم وبيع القضايا بحسب ما يدفعه المعنيون، وفق “خطورة” الجرائم المتابعين فيها، وإفلات مجرمين كبار وبارونات المخدرات، من العقاب بفضل ما يملكونه من شبكات في مختلف أجهزة الدولة، وما ينفقونه من أموال طائلة للدفاع عنهم، شهدنا قضاة ونواب عامون، يشيدون قصورا ويملكون مصانع وحسابات بنكية فلكية، داخل البلاد وخارجه، على  نحو مستفز وصارخ. من جانب آخر، نرى أن في الدول التي لا تقوم على شرعية مواطنيها، تستعيض عن ذلك بتوظيف فساد ذمة رجال القضاء لتكريس سلطاتها، مقابل السكوت على فسادهم؛
  • قضاء مُسيس: يستخدم القضاء عندنا كأداة لتكميم أفواه الخصوم وتكبيلهم بفبركة ملفات وتهم لا تقوم على أي أساس قانوني، وتشهرها في وجوههم كلما أعربوا عن مطالب سياسية  شرعية أو عبروا عن رفضهم للوضع السائد من فساد وظلم وكتم للحريات، أو انتقادهم لممارسات السلطة الحاكمة، فيُعتقلون كأشخاص أو يوضعون رهم الرقابة القضائية لمنعهم من أي نشاط، وتُحل منظماتهم وجمعياتهم وأحزابهم، وتعلق  صحفهم؛
  • قضاء الانتقام: يستعمل الجهاز، ضد أي طرف يرفض الانصياع للوضع القائم ويقلق أصحاب السلطة، ويكشف خططها أو يعرقلها، فيعتبرون تهديدا عليهم، مثل رهائن الحراك في حالتنا هذه، بين معتقل ومنكل به ومطارد ومعذب داخل السجون ومسلط عليه سيف الرقابة القضائية لشل حركته وقطع رزقه؛
  • قضاء “الملفات النائمة”: ليس خفي أن مديرية الاستعلامات والأمن، شكلت على مر عقود من الزمن ملفات لم تستثن منها قريب أو بعيد، صديق أو عدو، وحتى الحميم، جمعت ملفات تتضمن كل صغيرة وكبيرة، لأغراض مؤجلة، لبعثها في الوقت المناسب ضد كل من تسول له نفسه المساس بجهور السلطة وركنها الركين. كان الأمر معروف لدى غالية المواطنين، لكنه اتضح بشكل أكبر ومفصل، بعد الإعلان عن العثور على صناديق كبير ة بحوزة  ملزي، جاسوس توفيق، المعين من قبله مديرا عل ى إقامات الدولة الفارهة (ومنها نادي الصنوبر)، ورأينا أيضا كيف حرك توفيق ملفات شكيب خليل عندما كان في صراع مع بوتفليقة، ليس لمتابعة المجرم، وزير النفط سابقا وصديق بتوفلية الحميم، على جرائمه وإنما لتهديد الرئيس وتحذيره بأنه قادر على أن يلحق به أضرارا جسيمة، وكذلك بعث قضية أبناء قايد صالح عن طريق اتهامات بالرموت كنترول، بهاء الدين طليبة المعتقل (بعد وفاة قائد صالح فقط)؟ وهي كلها قضايا، عبارة عن تهديد مع وقف التنفيذ، يراد إخضاع أصحابها ودفعهم إلى السير وفق الخطة المسطرة (القضاء على ارث قايد صالح وفر يقه في حالتنا هذه) أو تسريبها إلى  القضاء في حالة تمردهم، وفي كل الحالات نرى كيف أن القضاء لا يتحرك من تلقاء نفسه، بل فقط بأوامر صاحب القرار كعادته؛
  • قضاء “التخلص” من الأعباء، عندما يستفحل الأمر ويبدو ضروريا “تخفيف الثقال والضغوط” يضطر الساسة إلى التخلص من بعض الأغصان النخرة، الأكثر مقتا في أعين المواطنين، لتخفيف الخناق وكسب الوقت والمناورة، مثلما جرى عقب الإطاحة ببوتفليقة، من اعتقال لسلال وأويحيى وما إلى ذلك، إلى أن تمر العاصمة ويستتب الأمن لهم ليتمكنوا من ترتيب البيت (بيتهم طبعا) من جديد؛
  • قضاء تصفية الحسابات: لا يقوم على محاكمة الجريمة، ولا متابعة المجرمين على جرائمهم بل يحرك من قبل “القوي” المتغلب في اللحظة الراهنة، للتخلص من الخصم “المستضعف” مرحليا، وتصفية خلافته معه، في سباق كسر العظام، وفق قاعدة من يتغذى بالآخر قبل أن يتعشى به، مثلما رأينا في أعقاب الحراك، خاصة بعد الأسبوع الرابع، قبل أن تنقلب من جديد موازين القوى، ويعود الفريق المغلوب متغلبا لينتقم من الفريق الغالب سابقا (وتصفية حسابات معاكسة)، وفي كلا الحالتين، لم يكن لقضاء الطرف الأقوى ضد الأضعف، أي علاقة بتحقيق العدالة ولا في مصلحة الشعب، وقد علمتنا التجارب أنه ما إن يتوصل الطرفان إلى تسوية، يحدث بقدرة قادر تبييض صحف الأطراف  من قبل نفس القضاء (عودة نزار وإفراغ ملفه الجنائي)، وكأن شيء لم يحدث، وتنتفي الجريمة كليا فينتقل من الزنزانة (توفيق مثلا) أو من ملاذ هروبه (نزار والجنرال شنتوف لاحقا) إلى سدة الحكم؛ ويسدل الستار على حقبة كسر العظام بين “الفرقاء”، وتوجه عندئذ كل الخناجر إلى ظهر الشعب وصدره.

باختصار قل لي كيف حال قضاؤكم، أقل لك ما نوع حكمكم

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version