ليس الجسد كالروح وليست القوة كالفكر وما الحضارة بنظيرة للدين، مع الإقرار والتأكيد أن التكاتف المنسجم بين طرفي المعادلة يكون دائما في صالح الإتحاد والإئتلاف.

شتان بين سطوع وانتشار حضارة وبسط ثقافتها وعُلُوِّ كعبها، وبين كسب عقيدة روحية لقلوب وعقول الملايين من البشر.

الهيمنة الحضارية لا تتم إلا بتدافع تكون فيه الغلبة للطرف الأقوى عُدَّةً وعزيمةً، والإيمان بالله واليوم الآخر وبالرسالة الخاتمة لا يتحقق إلا بالإقتناع الطوعي الذي لا يمك ن أبدا فرضه بالإكراه أو بالإغراء.

إنتشر وذاع الإسلام دينًا وامتدَّ واتَّسع المسلمون حضارةً بشكل متجانس لم يعرفه التاريخ لا من قبل ولا من بعد. وهذا التمكين المميز والمذهل سبقته مرحلة تأسيسية روحية فريدة من نوعها.

تحمَّل المسلمون الأوائل في مكة المكرمة، بقيادة المصطفى صلى الله عليه وسلم، كل أنواع الظلم والأذى إيماناواحتسابا، وأُجبِروا على ترك ديارهم وذويهم. وفي المدينة المنورة أسَّس المهاجرون والأنصار اللَّبِنات الأولى للمجتمع المسلم، وحينها فقط أُذِن للرسول وأصحابه بالدفاع عن أنفسهم والرد على كل الإعتداءات والمؤامرات.

وهكذا كانت غزوات الرسول كلها دفاعية عن المدينة أو عن المسلمين الجدد المضطهدين في أماكن أخرى. وتواصلت الفتحات والإنتصارات بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، واستطاع المسلمون الأوائل في أقل من قرن وبطريقة أدهشت كل خبراء الإستراتيجيات العسكرية، أن يُسقِطوا أعظم امبراطوريتين، الفرس والروم، المتسلطتين لقرون طويلة.

السر الجديد الذي تميز به المسلمون عن غيرهم هو ذلك الإيمان الراسخ بمشروعهم الروحي الذي تهون الموت في سبيله. وإذا كانت قضيتهم مُقدَّسة فإن تاريخهم، مع وجوب تثمينه وتقديره، لا يمكن ولا يجب أن يحضى بالقداسة، خاصة بعد الخلافة الراشدة.

لن ينتقص شيء من عقيدة المسلمين إن هُم أقروا ببشرية أسلافهم وأفسحوا عن عقولهم وفتحوا أعينهم على تاريخهم وتأثيراته المتوارثة. ألم تُخلِّف الفتنة الكبرى آلاف القتلى من الصحابة في صفوف علي ومعاوية رضي الله عنهم أجمعين؟ ألم تُنتج نظاما سياسيا بعيدا عن النموذج الراشد، كان سببا في تقسيم المسلمين إلى من يسُبُّ الصحابة رضي الله عنهم ومن يسبُّ علي كرَّم الله وجهه فوق المنابر لعقود ؟ وهل يُعقل إنكار أي احتمال لتأثير ذلك المناخ وذلك الإنقسام على تدوين جزء من السُّنة والسيرة النبوية ؟ وهل نحن ملزمون بتفنيد أي إمكانية وقوع تجاوزات خلال الفتوحات ونحن نسلِّم بوقائع الفتنة ؟

إن الإعتراف بالضعف البشري للأجيال الأولى أو فقط عدم تنزيههم، يُزيل ضبابا زائفا أمامنا دون أن يُنقص ذرة من شأنهم. يعاني التاريخ الإسلامي كثيرا من قراءات تقديسية وأخرى تشويهية، ولعل كل طرف يساهم في تغذية غلو الآخر.

يُقِرُّ العالم الأنجليزي الكبير طوماس أرنولد وولكر (Sir Thomas Arnold Walker) أن الإسلام لم ينتشر إلا باختراق وكسب القلوب، وإذا كان المسلمون بسطوا حضارتهم بالسيف في بعض المناطق فإنها قليلة، وفي كل الحالات لم ينشروا دينهم إلا بلسانهم المقنع وأعمالهم التي إن لم تكن مثالية كانت بالتأكيد أفضل من أعمال غيرهم. ونفس النتيجة خلص إليها العالم والباحث الفرنسي جوستاف لوبون (Gustave Le Bon) حتى وإن كانت قليلة ونظرا لمكانة أصحابها فإن مثل هذه الشهادات النوعية المنصفة تُسقط وتبطل كل الأكاذيب الحاقدة والتأويلات المغرضة مهما كثرت.

ترك المسلمون بصمات تاريخية شهد بها العدو قبل الصديق، من خلال مواقفهم الأخلاقية النبيلة سواء كانوا تجارا متنقلين أو خاضوا مواجهات وكانوا مُنتصرين (صلاح الدين الأيوبي مع الصليبيين) أو مُنهزمين (الأمير عبد القادر الجزائري مع السفاح الماريشال بيجو الفرنسي).

ويأتي هذا السلوك النبيل بثماره ولو بعد حين، ويجعل الإسلام ينتشر حتى وإن انهزم أهله. وذلك ما حصل مع المغول الذين اقتحموا ودمَّروا بغداد بقيادة هولاكو وقضوا على الخلافة العباسية قبل أن يتحولوا بقدرة قدير إلى امبراطورية إسلامية.

حتى في أشد الأوقات يجد الإسلام نفاذا للقلوب ويخترق الصفوف المناوئة من حيث لا تحتسب. ولذا يجب على المسلم عدم التخلى خوفا أو خجلا أو مجاملة عن مخاطبة الناس بما أنزل الله وبالتي هي أحسن.

ما الذي جعل اليهود وغيرهم يهاجرون للأندلس راضين بدفع الجزية لولا المقابل الثمين ألا وهو العيش في أمن وآمان وتحضر وازدهار.

مع الأسف رغم الإنصاف الذي يحضى به التاريخ الإسلامي من طرف كثير من كبار العلماء الغربيين إلا أنه هناك في ديار الإسلام من يعاني من الإلتباس في الدين إلى حد وصف الفاتحين المسلمين بمجرمي حرب. وبعضهم يريد إعادة كتابة التاريخ وتصفية مخلفات استعمار قديم دون استشارة المجتمع. هؤلاء يسيئون لجميع الأطراف وخاصة لأسلافهم الأبطال الذين دخلوا الإسلام حسبهم مُكرهين وأذلة صاغرين، وحاشاهم أن يكون ذلك صحيحا.

إذا كان الخالق حذرنا في كتابه من إتِّباع المتشابه فيه من القرآن لتجنب الفتن، فكيف بالمتشابه فيه من التاريخ !التاريخ الإسلامي ليس معصوما ! هو مليئ بالأمجاد ولا يخلوا من أخطاء جسيمة. نعم لرفع القداسة عنه ولكننا قد نُذنب ونزيغ بدل أن ننتفع بالخوض المفرط في صفحاته الغامضة لأن التاريخ ليس بكتاب محفوظ. احترموا إرتياب التاريخ وشبهاته، وقو أنفسكم فتنة الدين وعواقبها !

إذا كانت أمريكا تسعى جاهدة مع حلفائها لفرض هيمنة وعولمة حضارتها تُقيِّد بها حرية المسلمين السياسية وتشُلُّ قدراتهم النهضوية، بتفويض أنظمة شمولية فاسدة، فإن عولمة وعالمية الإسلام الروحية قائمة منذ بعثة المصطفى رحمة للعالمين !

مهما حصدت الإنهزامية الحضارية من عقول، سيبقى المسلم القوي جدير بأن يكون أمة لوحده اقتداءا بإبراهيم الخليل عليه السلام، وسيواصل الإسلام اختراق صفوف المناهضين، وستظل آيات الله الخفية والظاهرة تبرز كل حين بإذن ربها، وتُذكِّر بعظمة الخالق وبضعف الإنسان، تأديبا وكبحا للمتجبرين والمكذبين، وهداية وتثبيتا للمستنيرين والمستضعفين !

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version