اتصل بي يوم أمس احد الزملاء من مدينة ليون الفرنسية، يخبرني بوفاة جاره المسلم، و قال لي :”الكاتب الكبير المعروف انتقل الى رحمة الله..؟؟  فارتعدت أنفاسي وقلت له مقاطعا، هل بوباء كورونا.. ؟؟

لأنه  ببساطة كلما سمعنا في المدة الأخيرة عن موت شخص إلا وربطناها بوباء كورونا، لا لشيء إلا لأن البشرية عامة ترجف هذه الأيام هلعا من هذا الفيروس اللعين الذي لا يرى بالعين المجردة، وهو- كما وصفناه في مقال سابق- وحش ضاري جائع ينهش في جثث البشر مهما كانت ألوانهم و أشكالهم وأموالهم، ويرسل إلى الموت خلق الله  زرافات ووحدانا من مختلف الأمصار والأعمار.

أوقفني محدثي، و قال هدئ من روعك..  فالمتوفى شيخ هرم، أكيد تعرفه.. هو  الشيخ “سيدي علي”، وأردف موضحا :” مات بوفاة طبيعية ..

فقلت له مقاطعا: رحمه الله .. تعددت الأسباب والموت واحد”، كأن الوفاة بكورونا غير طبيعية؟؟

ثم استفسرت من يكون “سيدي علي” هذا ؟؟  ألم تقل لي انه كاتب معروف؟؟

قال محدثي، أقصد الفيلسوف الفرنسي المسلم ميشال شودكيفيتش المعروف عند إخواننا الصوفية في فرنسا  ودول المغرب العربي بـ ” سيدي علي” .. المدير العام الأسبق لدار النشر “لوساي” الفرنسية العريقة ومدير الدراسات في كلية الدراسات العليا للعلوم الاجتماعية وأستاذ الإسلام والحضارة العربية الإسلامية بجامعة ليون-3.(*)

” سيدي علي” أسلم في عمر الصبا

و المرحوم –  لمن لا يعرفه من شباب اليوم – هو من مواليد عام 1929 بباريس، وكان أخا لخمسة أشقاء، وعمل والده قاضيا في فرنسا، اعتنق الإسلام في سن مبكرة، عندما كان يبلغ السابعة عشرة من العمر، ووصف ذلك التحول بأنه “نتيجة للبحث الشخصي الذي قام به في سن المراهقة”، معتبرا أن الكاثوليكية لم تقدم له إجابات كافية.

وقد تزوج من إيطالية، وأثناء عمله ورعايته لعائلته تعلم اللغة العربية بجهوده الذاتية..
تعرفت عليه في ملتقى «الحياة الروحية في الإسلام» بمعسكر

وأكمل المفكر الإسلامي الفرنسي تعليمه في باريس ليبدأ السفر بعد تخرجه من الجامعة، إذ تنقل بين دول العالم العربي والإسلامي و مراكزها كالأزهر الشريف في مصر وسوريا و تركيا و إندونيسيا ودول المغرب الإسلامي منها خصوصا الجزائر، حيث كان ينزل ضيفا على ملتقيات الفكر الإسلامي التي كانت تنظمها وزارة الشؤون الدينية الجزائرية، وهنا استسمح القارئ الكريم عذرا للترحم على أمينها العام أستاذنا الكبير عبد الوهاب حمودة، رحمه الله، الذي يسر لي ولبعض الشباب الحضور لهذه الملتقيات المباركة، ومنها ملتقى  معسكر الذي رأيت فيه لأول مرة الأستاذ ميشيل شودكيفيتش و دونيس قرين و وغيره ممن أشهروا إسلامهم في ذلك الزمن الجميل.. وهو ملتقى الفكر الاسلامي الواحد والعشرون، الذي نظم تحت عنوان: «الحياة الروحية في الإسلام» أي: بالتصوف والسلوك، وهو موضوع مختلف فيه وهو من الموضوعات المهمة، والموضوعات الشائكة أيضًا حسب أهل الاختصاص، والتي استفدنا منها كثيرا و لازلنا. وقد انعقد أيام ( 26 أوت إلى 01 سبتمبر 1987)، في مدينة «بو حنيفية» المضيافة  بولاية «معسكر» وهي البلدة المشهورة بما حباها الله من حمامات معدنية، يأتي إليها الناس قاصدين من داخل الجزائر وخارجها، وقد حضر الملتقى شخصيات كبيرة من العالم الإسلامي أمثال الشيخ محمد الغزالي والشيخ يوسف القرضاوي و الشيخ حسن ترابي و الشيخ راشد الغنوشي و الشيخ تسخيري من إيران و غيرهم كثير .. ومن الجزائر الشيخ أحمد حماني والدكتور شيبان والشيخ محمد بلقايد الاب زعيم الطريقة البلقايدية رفقة الدكتور عبد الحميد بنشيكو ونقيب عسكري (؟؟ )

بعد هذا التاريخ، لم التقي بالمرحوم مطلقا، وبقيت أتابع أخباره النادرة حتى نهاية التسعينات، علما أني التقي في معرض الكتاب الدولي السنوي بجنيف ببعض المعجبين بطروحاته الصوفية  كالجزائري غالب بن شيخ و الفرنسي إريك جوفروا و آخرين ..

وها هو بعد عقود من غياب أخباره يصلني خبر وفاته، بحيث انتقل هذا الثلاثاء الفيلسوف المسلم الى جوار ربه، عن عمر ناهز 90 عاما، وقد عُرف عنه باحثا كبيرا في الصوفية ومختصا بدراسات الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي الأندلسي، وأكاديميا معروفا ..

من أشهر آثاره ومؤلفته:

اشتهر الفيلسوف الراحل شودكيفيتش بكتابه “بحر بلا ساحل: ابن عربي، الكتاب والشريعة“، وهو بمثابة مدخل لدراسة فكر ابن عربي الذي استلهم منه المؤلف عنوان الكتاب، حيث يصف المتصوف الكبير القرآن الكريم بأنه بحر لا ساحل له؛ معتبرا أن كل آية وكلمة وحرف تحتمل وجوها للتفسير يفهمها الإنسان بحسب الحالة التي هو فيها، مؤكدا أن قارئ القرآن يجب أن يعود لحالة “الأمّية” أي “كما ولدته أمه”، وفي هذه الحال فقط يتسنى للمخلوق أن يستقبل كلام الخالق، بحسب ما نقله الفيلسوف الفرنسي الراحل عن المتصوف الأندلسي.

صدر له أيضا كتاب يعد من أهم مؤلفاته بعنوان: “الكتابات الروحية للأمير عبد القادر” في منتصف عام 1995، يتناول فيه شخصية الأمير عبد القادر الجزائري بخلاف صورته كمجاهد ومناضل كبير

ويرى شودكيفيتش في الكتاب أن الأمير عبد القادر كان معلما روحيا ذا نسب مباشر لابن عربي، واختار للتدليل على فكرته 39 نصا للأمير الجزائري، فيها كثير من التعليقات على كتابات ابن عربي. لتضيء هذه الفكرة..

تعرف الفيلسوف الفرنسي الراحل على ابن عربي بفضل أعمال ترجمها باحث إسباني، وكانت هذه نقلة هائلة في حياته، إذ فتحت له نصوص ابن عربي عالما روحانيا من التصوف وحب الله تعالى والنبي الكريم صلى الله عليه وسلم.

وللفيلسوف الفرنسي الراحل عدد من المؤلفات عن التصوف، وترجم الفتوحات المكية للشيخ الأكبر، وتناول “الولاية والنبوة عند محيي الدين بن عربي“، وترجم الكتاب شيخ الأزهر الحالي أحمد الطيب من الفرنسية للعربية..

وتعرض شودكيفيتش في كتابه لنقد ابن تيمية لموضوع التبرك بقبور الأولياء عند ابن عربي، واعتبر شودكيفيتش – الذي تأثر بشخصية ابن عربي- أن ظاهرة التبرك لم تكن بدعة ابتدعها المسلمون في القرن 13 و14 (زمن نقد ابن تيمية للظاهرة)، وإنما عبر المسلمون منذ صدر الإسلام عن تعظيمهم لآل البيت النبي والصحابة.

ويرى شودكيفيتش أن الأبحاث الاستعمارية في مجال التصوف غالت في تقدير خصائص الشعوب الإسلامية العرقية (مثل البربر والأفارقة وأبناء الملايو) على حساب الإسلام أو العقيدة الجامعة للشعوب الإسلامية على اختلاف أجناسها، ويرجع شودكيفيتش ذلك لأن وحدتهم الإسلامية كان يمكنها أن تتحول لسلاح خطير يقض مضاجع المستعمرين وأنصارهم.

رحم الله الشيخ ميشال علي شودكيفيتش رحمة واسعة، و غفرله و لنا.. و” إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ

 

(*)-Michel Ali Chodkiewicz , Éditeur, philosophe,  professeur d’université, était l’un des grands connaisseurs mondiaux du soufisme,  PDG des éditions du Seuil,  directeur d’études à l’Ecole des hautes études en sciences sociales (EHESS), et Professeur d’islam et de civilisation arabe islamique à l’Université de Lyon III.

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version