“ليس شيءٌ أعزَّ من العلم..الملوكُ حكّام على الناس..والعلماءُ حكّام على الملوك” أبو الأسود الدؤلي

كان هذا منهج العلماء في غابر الأيام..حينما كانوا قائمين بواجب النصح والبيان مع القريب والبعيد، والحبيب والبغيض، والراعي والرعية..أما في هذه الأيام: فقد صار الحال غير الحال:

أحمد الريسوني الأصولي (نسبة إلى علم الأصول): تقِن في ميدانه..مبدع في مجاله..دقيق في منهجه..

لكنه حينما يلج باب السياسة يخرج عن المنهج الأصولي، ويظهر بوجه آخر مباين: هو الريسونيّ السياسيّ، ويبدو هذا جليا في تعامله مع الشأن الجزائري بوصفه رئيسا للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين:

فالريسونيُّ الأصوليُّ لا يجمع بين المختلفيْن، ولا يُفرِّق بين المتماثليْن..

لكن الريسونيّ السياسيّ يجمع بين المختلفيْن مَرات وكَرات:

إحداها حينما ينشر مقالا ناقدا للقضاء الجزائري، مشككا في انحصار المفسدين في “الثلة القليلة”، ويصرح فيه أن الجناح المغلوب من النظام الجزائري سقط في يد الجناح الغالب[1].

وبعد شهرين يزور الريسوني السياسيُّ السفيرَ الجزائري في قطر ويتناولان “الأوضاع الحالية في الجزائر والسعي الحثيث إلى تجاوز الصعوبات السياسية”، ويزيّنُ الزيارة بشكر وأدعية[2]، ليسديَ له “تزكية تمهيدية”، تتلوها “التزكية النهائية” بعد خمسة أيام، حيث يُكرِّم هنا في الجزائر الاتحادُ العالمي عبدَ المجيد تبون بوسام شرف “لنجاحه في تولي سدة الحكم”..(وأعجبُ من التكريم سببُه)، مع أن النظام هو النظام، والقضاء هو القضاء، والممارسات هي الممارسات..

الريسوني الأصوليُّ يعلم أن الأحكام لا تُعلَّق بالأشكال والأسماء، ولكن بالحقائق والمسمَّيات..

لكن الريسوني السياسيَّ يزكي نظاما؛ لأنه غيَّر واجهته بانتخاب هزلي أطّرته الوجوه نفسها..والإدارة نفسها.. والبرلمان نفسه..والقضاء نفسه!! انتخاب عارضه الحراك، وقاطعه أغلب الجزائريين..

يزكّي نظاما يدّعي الحوار ويُقصي المحاور، ويبارك الحراك بالقول ويضيِّق عليه بالفعل، ويمدّ له اليد اليمنى ويبطش به باليسرى..

يكرِّم نظاما يدّعي النوفمبرية الباديسية، لكن واجهته تخاطب شعبها في أول خرجة ميدانية بلغة المستعمر، وتخشى أن تجرح مشاعر المستدمر بإعلان عدد ضحاياه..

الريسوني الأصولي يعلم أن المشاركة في الفساد وإعانة أهله وعدم التبليغ عن جرائمهم..هي جرائم قادحاتٌ في العدالة، خارماتٌ للمروءة.

لكن الريسونيَّ السياسيَّ يقلد وسام شرف لمن شارك النظام فسادَه وجرائمه خمسين سنة، عشرون منها مع أفسد حاكم عرفته البلاد، ومجَّه العباد (عبد العزيز بوتفليقة).

الريسونيُّ الأصوليُّ يعلم أن العدل مصلحة مطلقة، والظلم مفسدة مطلقة..

لكن الريسونيَّ السياسيَّ يضفي شرعية على نظام ظالم جائر: يُضيِّق على الحراك، ويسجن نشطاءه، ويحاصر مناضليه، ويطارد مُوجِّهيه، ويغلق عليه إعلامه وعاصمته..لا يفرق في هذا بين رجل وامرأة، ولا كبير وصغير، ولا صحيح وسقيم..ثم يحكم عليهم متى شاء بما شاء، ويطلق سراح البعض ليستبدلهم بآخرين..بل ويعاقب القاضي إن حكم بالعدل ونطق بالحق[3].

الريسونيُّ الأصوليُّ يعلم أن الصدّ عن الصلاة جريمة قبيحة، كفيلة_وحدها_بإسقاط شرعية نظام بأكمله.

لكن الريسونيَّ السياسيَّ زكَّى نظاما ينهى..عبدا إذا صلّى..نظاما يصدّ شيخا داعية من تلاميذ علماء جمعية ابن باديس: يصده عن صلاة الجمعة منذ سنوات، بالقهر والتعنيف، على مرأى أبنائه وأحفاده والعالم أجمع، ويمنعه من شهود الجنائز والأعراس، وحضور الأفراح والأتراح..

الريسونيُّ الأصوليُّ يعلم أن الفتوى تكون بالقول والفعل والإقرار، وأن سكوت العالم عن منكر_يمكنه النهي عنه_ هو إقرار منه له..

لكن الريسونيَّ السياسيَّ يُقرُّ من سبقه على رأس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين (الشيخ يوسف القرضاوي) على تزكيته لرمز الفساد في الجزائر(عبد العزيز بوتفليقة) حينما كان رئيسا لها، ثم ينتقد نظامه بعد سقوطه، ويدعو الله أن “تتحقق كافة المطالب والتطلعات المشروعة للشعب الجزائري وحراكه السلمي المتحضر”!.

الريسونيُّ الأصوليُّ يعلم أن الفرع تابع لأصله، والجزئي مندرج في كليِّه..لا يُخرجه عنه إلا موجِب قويّ، أو فارق مؤثر.

لكنَّ الريسونيَّ السياسيَّ الذي أصّل لشرعية الربيع العربي وسانده بالكتابة والخطابة (كما ساندته تركيا وقطر)، ها هو يستثني_بفعله_الحراك الجزائري من غير موجب ولا فارق..يستثنيه حينما يزكي النظام الذي خرج الحراك لاقتلاعه..(النظام الذي تزكيه تركيا وقطر كذلك).

الريسونيُّ الأصوليُّ يعلم أن العام يُحمل على عمومه، والمطلق على إطلاقه..حتى يرد المخصِّص والمقيِّد..

لكن الريسوني السياسيّ الذي يقدح في دولة الإمارات ويبين أنها تنشر الأحقاد والمؤامرات حول العالم، يخص هذا العموم بلا مخصص ويقيده بلا مقيِّد، فيغض الطرف عن مؤامرات الإمارات في الجزائر، بل يزكي النظام الذي مكّن لها في البلاد، وصيّرها مثابةً لحكامه: مدنيّهم وعسكريّهم..

الريسونيُّ الأصولي يعلم نهي السلف الصالح عن الدخول على السلاطين وعن قبول هداياهم؛ لأن الإحسان يدقّ العنق، ويصدّ عن واجب النقد..

لكن الريسوني السياسي يتطابق موقفه مع الموقف التركي والقطري في الشأن الجزائري، مع أنه يؤكد أن الدولتين تدعمان الاتحاد ولا تتدخلان فيه، ثم يقرر أن “الاتحاد من الناحية المبدئية يدعم الشعوب ومطالبها بالحرية والكرامة”، وأنه “إذا تحركت الشعوب ضد الظلم فنحن معها”![4].

الريسوني الأصولي يعلم أن المفتي لا تجوز فتواه إلا بنوعين من الفقه: فقه بالواقع، وفقه بالواجب في الواقع، حتى لا يتصور له الظالم بصورة المظلوم، والزنديق بصورة الصِّدِّيق، ويروج عليه المكر والخداع والاحتيال[5].

لكن الريسوني السياسي يُزكي نظاما يتحايل ليمنع شعبا من حقه في الحرية والعدل والكرامة، ثم يدعو الله أن تتحقق كافة مطالب الحراك وتطلعاته!..ولو أنه أنصت إلى حناجر الجزائريين كل أسبوع لفقِه الواقع دون وسائط، ولفهم أن الحراك لا يعترف بشرعية المكرَّم، ويطالب بتغيير جذري للنظام وواجهته.

الريسوني الأصوليُّ يعلم أن من شروط القضاء التسوية بين المتنازعيْن في المجلس والخطاب والمعاملة والهيئة..حتى لا يطمع شريف في حيفه، ولا ييأس ضعيف من عدله[6].

لكن الريسونيَّ السياسيّ يُقلد الظالم وسام شرف لا يستحقه، ويحرم المظلوم وسام شرف لا يحتاجه..

يكفي الحراك الجزائري شرفا أنه قاصد إلى الحرية والعدالة والكرامة، بوحدة وسلمية واستقلالية، وأنه متوكل على الولي النصير، وأنه مجاهد أفضل الجهاد: كلمة حق عند سلطان جائر..

                                               قسنطينة: 9 رجب 1441ه. 4/3/2020م


[1] _ عنوان المقال:”النيابة العامة تستأسد في نهاية المطاف”، نشر في 10/12/2019 على موقع الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.

[2] _ يوم 18/2/2020، موقع: الإذاعة الجزائرية.

[3] _  كما فعل مع وكيل الجمهورية بالنيابة: بلهادي سيد أحمد.

[4] _ موقع الجزيرة، 18/11/2020.

[5] _ ينظر: ابن القيم، إعلام الموقعين، (6/113).

[6] _ من رسالة عمر رضي الله عنه في القضاء، المصدر نفسه، (2/168).

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version