نحن على بعد أيام قليلة من موعد انتخابات 12 ديسمبر المفروضة عنوة، وقد تدفع بالجزائر إلى منعطف لا يستطيع أحد التنبؤ بمآسيه، التي قد تشبه أو حتى تفوق الأهوال الناتجة عن قرار الانقلابيين ذات يناير 92؛ ونحن على بعد بضعة أيام من هذا الموعد المحفوف بالمخاطر، نجد أنفسنا في أمسّ الحاجة إلى بذل كل ما في وسعنا لكي لا تتكرر محنة التسعينات، وأول هذه الجهود، القراءة الحصيفة للمشهد منذ 22 فبراير، خاصة بالنسبة لأنصار الحراك والمتحمسين له من جهة، والمناوئين له من جهة ثانية. وفي هذا الصدد لا بد من توضيح بعض الأمور.

أولًا، وقبل الدخول في الموضوع، هذه الانتخابات ليست هي الخطر في حد ذاتها، بل كان يُفترض أن تكون بوابة للانفراج لو تم البحث عن إجماع بشأنها وبشكل مدروس ولم يتم فرضها فرضا من قِبل مجموعة ضيقة داخل قيادة الجيش، مما أفقدها أي مصداقية حتى قبل أن تتم، وحتى لو تمّت بحكم أمر الواقع وقوة السلاح والقهر، فإنها لن تضفي أي شرعية ومشروعية على الرئيس الذي سيكون من جهة رهينة النظام العسكري الذي مكّنه من تبوّء رئاسة الدولة– وليس صوت الشعب المعبّر عنه بحرية ونزاهة– من خلال انتقاء خمسة مرشحين من صلب النظام القائم، وبالتالي يكون مجبرًا على تنفيذ مخططه وقراراته، ويكون من جهة ثانية فاقدًا للشرعية باعتباره مجرّد نسخة مكررة من بن صالح. وفي ضوء ما سلف ذكره لن تزيد هذه الانتخابات ولا الرئيس المتمخض عنها، سوى في تعفّن الوضع وتأخير الحل وقتل أمل الملايين من المواطنين.

ثانيًا،الحراك ليس هو الغاية، ولا هو مشروعًا سياسيًا، أو بديلًا عن مشاريع أخرى، بل هو وسيلة فقط لشحن همم المواطنين التوّاقين للتغيير الذي طال انتظاره، وتمارس الجماهير حراكها في الشارع بعد أن أصبحت كافة المؤسسات والمجالس الرسمية أعجاز نخل خاوية بل وغرف شاهدة زور وتزيف، لا تعبّر عن صوت الشعب، مما جعل المطالبة بحلها من المطالب الأساسية، وفق شعار “ترحلو ڤاع”، مع التذكير أن ساسة من أقطاب هذه النخب السياسية وأحزاب السلطة اعترفت هي بنفسها أن الانتخابات في تلك المجالس كانت مزورة على نطاق واسع. لذا لا بد من التنبيه أن الموقف من الحراك، بين مؤيد ومعارض، لا يجب أن يقسّم الشعب بين أبطال وخونة، بل يفرض على الجميع التريث والإصغاء إلى صوت الضمير وتفهّم وجهة نظر كل طرف للآخر، بما يساعد على رأب الصدع وتقريب الرؤى بدلًا من تعميق الهوّة وتبادل التهم.

أرى من الضروري توضيح نقطة مهمة. ليس كل من يعارض الحراك أو لا يتحمس له هو بالضرورة مناهضًا للتغيير، أو داعما للدولة العسكرية، بل فيهم الكثير من الأوائل الذين طالبوا بدولة القانون ودفعوا ثمنًا باهظا جراء ذلك، لكنهم اليوم يتوّجسون، مخافة من توظيف الحراك من أطراف مريبة، بعضها متورطة فعلا في قضايا فساد أو جرائم العشرية الدموية، ويعتقدون أن هذه الأطراف قد توّظف حماسة وصدق و”غفلة” الجماهير لفرض مشروعها هي. ومن جهة أخرى، ليس كل من جمعته الظروف مع مَن وقف بالأمس إلى جانب الدبابة، معناه أنه أصبح حليفًا له يقاسمه نفس الطموح ونفس التوجه، فلا بد إذن من التمحيص والتريث والتدقيق قبل الأحكام المتسرعة.

حريٌ بالذين يتوجسون من الحراك ويخافون من استحواذ الاستئصاليين على مساره، أن يطمئنوا ويتيقنوا أن الشعب أوعى مما يعتقده البعض ومتفطن أكثر مما يتوهم الكثير، ومما يؤكد ذلك، أنه اختصر مطلبه الجوهري في دولة القانون ودولة العدل، دولة تسير شؤونها في شفافية وبإرادة من الشعب صاحب السيادة، بما ينسف كل محاولات وأوهام الأقلية الاستئصالية التي لا تستطيع العيش والنمو في إطار دولة القانون، ولم يكن معسكرها يوما الشعب وتطلعاته، وكل الوقائع والأحداث ومحطات تاريخ الجزائر المعاصر تثبت أنها صناعة نظم الاستبداد وفي حمى دباباته و أمواله، وكل ما يتظاهرون به اليوم مجرد مناورة لشراء عذرية مغتصبة، على أمل منهم أن ينسى المواطن مسارهم الموثق بدم الجزائريين، خلال مشاركتهم في ذبح الشعب وطعنه بعد موتاه. إن نشأة هؤلاء ونموهم وانتشارهم لم يكن ممكنا لولا دولة اللاقانون، الدولة العسكرية التي أجهضت إرادة الشعب من 1962 إلى يومنا هذا.

لكن رغم كل ما نعرفه عن جرائم هؤلاء، فالحل والمَخرَج لن يكون في الارتماء في حضن “خصم” هؤلاء، فلا يجب أن ننسى، مهما حاول البعض تصوير هذا الحضن على أنه يختلف عن عصابة التسعينات، أنه كان حليفهم وحاضنهم هم أيضا، بل الحل في دولة القانون، التي يلتف حولها الشعب والمستعد للتضحية من أجلها، لأن مثل هذه الدولة، تحتضن كافة أبنائها، بما تضمنه من حقوق وحرية وكرامة وشفافية للجميع وتكشف بفضل شفافيتها وعدالتها ونزاهتها، حقيقة كل طرف. أما بناء التحالفات على أساس الاصطفاف إلى خصم الخصم فلن يجدي شيئًا. إنّ الخصومات مثل التحالفات تتبدل وتُغيّر معسكرها، أما المبادئ والقيم فتبقى ثابتة مستنيرة.

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version