مما تعلمناه من شيخنا العلامة محمود بوزوزو – رحمه الله- وهو من تلاميذ العلامة بن باديس تكراره لنا، لما يتطرق لحالة الإسلام في الجزائر وشعب الجزائر، كان كثيرا ما يذكر لنا هذه المقولة “إن حاجة الجزائر لرسالة جمعية العلماء وجهود رجال جمعية العلماء عبر العصور والأجيال، كحاجة التربة الخصبة للماء والهواء“، و اليوم و الحمد لله، ما يستشف مما توصلت إليه هذه الجمعية من نتائج في جمعيتها العمومية الأخيرة لدليل على صفاء معدنها رغم شح مواردها وضعف سواعد منتسبيها، وبالتالي يبدو لنا أنه رغم كل ذلك فان قناعة بعض رموز الجمعية انتهت إلى أنه في أوقات المحن لا يملك أحد ترف القعود عن العمل في صفوف الساعين إلى حماية مكتسبات الحركة الإسلامية خصوصا وخيرات الوطن عموما، أو يملك رخصة الشح بنفسه أو ماله أو جهده عن المساهمة في العمل على تحقيق إنقاذ الإسلام العزيز الذي تتشرف جمعية العلماء بالانتماء إليه والذود عن حماه ورفع مشعله، والسعي إلى رفعة الوطن وتقدمه ونهضة تراثه وثقافاته.

والعاملون في الجمعية اليوم، هم جماعة من المؤمنين بدور الجزائر الريادي وأبنائها المخلصين- من أحفاد طارق بن زياد و بن باديس والإبراهيمي و الورثلاني و بن بولعيد و شيحاني و عميروش وغيرهم من الشهداء وجنود الخفاء-،  في السعي الجاد والواعي البصير لتنوير الأمة التي طال بالغدر ليلها و ترشيد أجيالها بالعلم والتربية بالتي هي أحسن.

بل إن مساهمة رجال الجمعية ونساءها ودعاتها على المستوى المحلي والإقليمي يعد وقوفا على ثغر من ثغور الإسلام في البحر الأبيض المتوسط، وهم من المؤمنين، بقدرة الإسلام في الجزائر وضميره الحي، جمعية العلماء – بإذن اللّه – على تجاوز كل المحن، وتخطي كل الصعاب والعقبات، والوقوف في مواجهة العدو الغاصب، والقدرة على العمل الخلاق بالوسائل المشروعة والأساليب الحضارية والأخذ بالأسباب.

لأن أبناء الجمعية ورجالها يلتقون على غاية كريمة هي العمل المخلص لله وحده لا شريك له، لا يريدون جزاء ولا شكورا في سبيل رفعة هذا الوطن المفدى الذي عبثت به أيدي المستكبرين أكثر من قرن و 32 سنة من الاستعمار الغاشم، واسترداد مكانته المحترمة بين دول العالم.

وأحياء لهذه المعاني العميقة والناصعة، واستهداء بها عملا على رص الصفوف و نفخ دم جديد في آليات جمعية العلماء ومجلسها الوطني خصوصا، عقدت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين جمعيتها ( مؤتمرها) الخامس يومي الخميس والجمعة الماضيين بتعاضدية عمال البناء بزرالدة غرب العاصمة الجزائر، وقد تم في اليوم الأخير إعادة اختيار الدكتور عبد الرزاق قسوم رئيسا للجمعية لعهدة ثانية، تحفيزا من بعض إطاراتها ودعما لمسيرته التوفيقية بين الأجيال، أنتخب رفقة كوكبة من الصالحين المصلحين- نحسبهم كذلك والله حسيبهم-.

فتحية ود وسلام إخاء للمكتب المسير الجديد، وتحية تقدير و امتنان لنخبة جمعية العلماء خاصة، والنخبة الوطنية الجزائرية عامة، على اختلاف تخصصاتها ووظائفها ومواقعها وتوجهاتها، التي تمثل بحق درة الجمعيات الوطنية، بتاريخها المجيد، ومواقفها المشهودة، وبحاضرها الزاخر بالأعمال المباركة، وبمستقبلها الواعد بإذن الله تعالى- على حد تعبير المفكر الجزائري الطيب برغوث – في رسالته الأخيرة للجمعية بمناسبة انعقاد مؤتمرها الخامس. والتي أوصى فيها، بقوله “إن هذه الدرة الوطنية النفيسة، ينبغي علينا أن نبعدها عن الصراعات والمناكفات والمناورات الفكرية والاجتماعية والسياسية قدر ما استطعنا، وأن نبقيها ساحة حقيقية للمشتركات الوطنية الإستراتيجية، وأن نعزز ثقة الجميع فيها، واحترام الجميع لها، والحرص على خدمتها، وذلك لا يكون إلا بالقدوة الفكرية والسلوكية والإنجازية العالية، التي ينبغي أن يتحلى بها كل من يتصدرون واجهات القيادة والتوجيه والخدمة فيها على كل المستويات”، ومن لم يجد في نفسه القدرة على ذلك، فليحترم نفسه، وليضعها في مكانها المناسب لها، وليرأف بها، ولا يعرضها للمخاطر، فإن الأفكار والمشاريع الأصيلة المخذولة، تنتقم من خاذليها والمسيئين إليها إن عاجلا أم آجلا، كما قال رسول الله عليه الصلاة والسلام، لسيدنا أبي ذر رضي الله عنه وقد تاقت نفسه إلى الإمارة: ( يا أبا ذرٍّ! إنك ضعيفٌ، وإنها أمانةٌ، وإنها يومَ القيامةِ خزيٌ وندامة، إلا من أخذها بحقِّها وأدَّى الذي عليهِ فيها )(رواه مسلم).

وكل ما نتمناه – حسب رسالة المفكر الجزائري- هو أن تمنح هذه النخب الفكرية والاجتماعية والسياسية الوطنية، ومنها نخبة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، بعض اهتمامها وجهدها لتنمية المعرفة والثقافة السننية المتوازنة، من خلال محاولة تعميق الوعي بمنظور السننية الشاملة الذي تتميز به رسالة الإسلام ابتداء وأصالة، وينبغي أن تتميز به رسالة الدعوة إلى الإسلام، وتتميز به الحياة الفكرية والروحية والسلوكية والاجتماعية للمسلمين كذلك.

وهذه النخب لكي تؤدي هذه الرسالة على مستوى المجتمع والأمة والعالم، ينبغي عليها أن ترتقي هي ابتداء إلى هذا المستوى من التميز في الفهم والأداء معا، وذلك لن يتحقق لها إلا إذا استوعبت هي نفسها منظور السننية الشاملة بشكل صحيح، وخرجت من  دوامة المنظورات التجزيئية التنافرية المنهكة إلى رحاب منظور السننية الشاملة، وتحركت في إطاره، وفعلت منظوراتها الجزئية في ضوء مقتضياته.

لذلك حق لنا اليوم و كل يوم، أن نتساءل ببراءة مع الكاتب “لماذا تتصارع السلفية مع بعضها البعض؟ ولماذا تتصارع الصوفية مع بعضها البعض؟ ولماذا تتصارع السلفية والصوفية مع بعضهما البعض؟ ولماذا تتصارعان معا مع الحركية الإسلامية؟ ولماذا تتصارع الدينية مع العلمانية؟ ولماذا تتصارع الثقافية مع السياسية؟ ولماذا تتصارع المادية مع الروحية؟ ولماذا تتصارع الفردية مع الجماعية؟ ولماذا تتصارع العقلانية مع العاطفية؟ ولماذا تتصارع القبلية والجهوية مع الوطنية؟ ولماذا تتصارع الوطنية مع القومية والعالمية؟ ولماذا تتصارع الدنيوية مع الأخروية…؟ إلى ما هنالك من مظاهر الصراعات المنهكة التي تهيمن على الحياة البشرية الفردية والجماعية”، بالرغم من التكوين التكاملي الوظيفي الضروري بين كل هذه الأبعاد والمكونات والأجزاء، التي لا معنى لأي منها دون تفاعله التكاملي مع بقية المكونات والأجزاء والأبعاد الأخرى.

إن الذي يقف وراء كل هذه الصراعات الذاتية والبينية المنهكة، – على تعبير الكاتب- هو “قصور الوعي بمنظور السننية الشاملة، وتضخم المنظورات الجزئية على حسابه، ولذلك فإن جوهر رسالة الإسلام يكمن في بناء الوعي بمنظور السننية الشاملة”، وهو ما ينبغي على النخب الفكرية والسياسية والاجتماعية في العالم الإسلامي أن تستوعبه وتعمل من أجل تعميم الوعي به وتحويله إلى ثقافة سائدة في المجتمع.

أينما وجدْت تنافرية في التفكير أو المشاعر أو السلوك أو العمل أو العلاقات.. في حياة الأفراد أو المؤسسات أو المجتمعات، فإنها تحيلنا مباشرة إلى مسئولية المنظورات الجزئية المعزولة عن منظور السننية الشاملة، ولذلك لا ينبغي أن نضيع أوقاتنا وجهودنا وإمكانياتنا في البحث عن أسبابها أو الحلول لها خارج منظور السننية الشاملة، لأننا لن نصل إلا إلى تفسيرات وحلول جزئية ترقيعية عابرة.

لهذا كله،- يقول الشيخ الطيب برغوث- ” فإنني كجزائري يرى في جمعية العلماء درة وطنية نفيسة، أهيب بنخبة هذه الجمعية المباركة، وبالنخبة الوطنية عامة، أن تعطي لهذه القضية المحورية في الوعي الإسلامي والإنساني، وفي معضلات النهضة الحضارية، ما تستحقه من العناية والجهد والوقت؛ تأسيسا وإنضاجا لها، وتعريفا وتعميما للوعي بها، واستثمارا لها، خدمة لنهضة الأمة ومجتمعاتها من ناحية، وخدمة للنهضة الحضارية الإنسانة عامة من ناحية أخرى، واستنقاذا لها من مخاطر التجزيئية والتنافرية المنهكة.

كما نأمل أن تكون الجمعية في لقاءها الأخير قد وفقت لجمع من كل بستان زهرة عبر ترابنا الوطني الشاسع المعطاء، ما يمكن الأجيال من أخذ صورة و لو موجزة عن تجرد و جندية وجهود و تضحيات الرجال والنساء “الذين يهبون عند الفزع و يفسحون الطريق لغيرهم عند الطمع” على قول الشيخ محمد السعيد، رحمة الله عليه.

أخيرا، وليس آخرا، ندعو الله أن يجازي مسعى كل من ساهم في إنجاح مؤتمر الجمعية هذا، كما يطيب لنا التذكير في الختام من باب “لا يصلح آخر هذه الأمة بما صلها به أولها” ، بقوله تعالى : ( إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ ۚ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ ۚ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) [هود : 88] ” .. ( وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ )[التوبة : 105

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version