ربما علقنا آمالا مبالغٌ فيها على انتصار الحق وأخذ العدالة مجراها ودفع المجرمين الحقيقيين ثمن جريمتهم النكراء في واضح النهار وفي بقعة يفترض أنها أرض آمنة لمن يأوي إليها، لكن يبدو أننا لفرط تعطشنا لخبر يثلج الصدور بعد سيرنا آلاف الأميال ومئات السنوات عبر صحراء قاحلة من الظلم والقهر والنكد، تعلقنا بأهداب سراب الأمل، واشرأبت أعناقنا تحسبا لرؤية العدالة تقول كلمتها وتهزم ظهرا من الاستبداد الفاجر المتغطرس. راودتنا الأماني برهة حتى استيقظنا على حقيقة، كنا نمي النفوس بألا تتحقق هذه المرة، لنصحو من فقاعة الأمل ونرى أن العالم لم يتحوّل بعدُ من “واقعيته” إلى عهد تنتصر فيه المبادئ والقيم والحقوق، وأنه لا زال عالم جامد جمود المادة والقلوب القاسية، يعتمد ويقوم على المصالح بالأساس قبل وبعد كل شيء، وغير مستعد لحظة واحدة ليخاطر بمصالحه أو يضحي بها ولو سالت أنهار ومحيطات من الدماء البريئة، هو من يقف في الغالب وراءها سواء بشكل مباشر وغير مباشر أو على أقل تقدير، بسكوته عنها.

ربما علقنا كذلك أمالا على تركيا أكبر من طاقتها، لكي تنتصر لنا كلنا وتنتصر للحق والدماء المزهقة من خلال انتصار رمزي مجسدا في الانتصار لحق الشهيد خاشقجي وتحدد هوية المسؤولين الحقيقيين وراء هذه الجريمة، تنفيذا وتخطيطا ومن أعطى الأمر، علقنا على تركيا وحمّلناها العبء الكبير لتنتصر للعالم المطحون كله وتقتص من المجرمين كلهم، لكن الحمل ثقيل والعقبة كؤود والخصوم قوى دولية لا يُستهان بها، لاسيما وأن تركيا تواجه منذ سنوات عواصف عاتية تديرها عواصم لا أخلاقية، مستعدة لخراب الدنيا مقابل حفاظها على مئات الملايير من الدولارات، مثلما قالها ترمب مرارا وتكرار “ادفع إذا أردت أن أحميك”، ومصرحا بكل بجاحة، في تبريره لاستحالة التضييق على الحليفة السعودية، بأنه لا يستطيع أن يتخلى عن حليف يوفر له 410 مليار دولار وآلاف مناصب الشغل، على مقربة من انتخابات مصيرية لتحديد تشكيلة الكونغرس. ورغم ذلك، لا بد من قول كلمة الحق والاعتراف بأن تركيا لم تقصر في واجبها الأخلاقي والإنساني، بعد أن قامت بما يمليه عليها ضميرها وبما تؤمن به من منظومة قيمية تؤمن بها، فصارعت الإغراءات والابتزاز والعروض السخية لطي الملف ولو نصفه، وعدم تجاوز خطوطا محددة، مثل ما عرضه عليه مستشار الملك خالد الفيصل على لرئيس التركي، بعد أيام قليلة من الجريمة، حزمة من المساعدات المالية واستثمارات مجزية في تركيا إلى جانب رفع الحصار على قطر، فرفضت تركيا العرض واعتبرته رشوة سياسية، وواصلت الضغط من خلال تسريب المعلومات لإفشال كل محاولات الطمس والإسكات والتضليل، فجعلت من القضية قضية إنسانية عالمية ليشترك الجميع في فضح وتحميل الجناة مسؤولية جريمتهم، وأحرجتهم كلهم لكي لا يدفنوا قضية اختطاف واغتيال وتقطيع جسد الشهيد مثلما دفنوا آلاف القضايا لتي لم يسمع عنها احد بعد أن اشترت الجهات المنفذة سكوتهم برشاوى تزكم الأنوف.

بالفعل سمعنا قادة عواصم الغرب تدين وتنتفض وتصف الجريمة بأبشع الصفات بل فيها حتى من لوّح بتسليط حزمة من العقوبات على كل من “ثبت ضلوعه فيها”، والسبب أن الجريمة أصبحت محل نظر العالم ولا يمكن لقادة هذه الدول التهرب من مثل هذا الموقف لكي لا يظهروا وكأنهم متساهلين ومتواطئين أو حتى مدافعين عن الجناة، مقابل “تعويضات” مجزي كعادتها. لكن بعد التعبير عن السخط ورفع العتب، لن يذهب لأمر أبعد على الأرجح. وكلنا يعلم أن جريمة خاشقجي ليست الأولى، ولا أحد يصدق صدمة الغرب وتعاطفه الإنساني، فهؤلاء الذين لم ينتصروا لآلاف اليمنيين العزل الذين تطحنهم الآلة السعود بالأسلحة الأمريكية والغربية، والآلاف من الاعتقالات التعسفية والاختطافات والقتل خارج القانون، لن يفعلوا أكثر من اجل خاشقجي، وإن أحرجهم سوء تنفيذ وتدبير العملية من قبل مجموعة الاغتيال السعودية، ولا أحد يشك برهة أنه لو تمت هذه المقصلة بإتقان ولم تترك آثارا تدين أصحابها لما سمع أحد بالموضوع، بل ربما انتهزوها فرصة لاتهام تركيا أصلا، وتحميلها المسؤولية عن اختفائه ثم قتله بعد أن يعثر على جثة المختطف. المؤسف أن القاتل يملك أموال طائلة، يستطيع شراء سكوت العالم “الواقعي”، والأخطر من ذلك أن سكوتهم عنه، يجعله يمد رجليه وتزيد ثقته وقناعته بأنه طليق اليدين يفعل ما يشاء في من يشاء، داخل البلاد (وخارجها الآن) حتى لو انكشفت بشاعة جرائمه، فالمال كفيل بجعلها حوادث عابرة يلفها النسيان بعد أيام أو حتى أسابيع. بالإضافة إلى ذلك، فبقدر ما يطلق هذا الشعور يدي الجاني الفعلي ليفعل بشعبه الأعزل ما يريد، بقدر ما يجعل الطاغية ونظامه الإجرامي موضع استنزاف وطمع كل الجهات المترصدة من خلال الابتزاز ومقايضة “سكوتها مقبل ملايير الدولارات” لأن النظام الهش داخليا أثمن هدية للمترصدين في الخارج، مثلما شهدنا كيف أن الغرب يدعم كل الأنظمة الاستبدادية الغير منبثقة عن إرادة شعوبها، من خلال دعمه الثورات المضادة (مصر تونس الجزائر سوريا ليبيا…) لتكريس سلطة أشخاص وجماعات يسهل استنزافهم لدعم سلطانهم.

حول هذا التعامل الغربي مع لأنظمة الاستبدادية يقول غاري كاسباروف، بطل العالم السابق في الشطرنج ، وئيس مؤسسة حقوق الإنسان :

…هدا الأسلوب في التعامل هو الأسوأ من نوعه بالنسبة للذين يهتمون بحقوق الإنسان، ويشكل رسالة مفادها إذا قمت بضخ المال في آليات اقتصادنا – أو ربما في استثمارات خاصة أكثر – يمكنك أن تفلت من أي شيء تقوم به. لقد كان هذا أسلوبًا مفضلاً للديكتاتورية الصينية لعقود، ومكّن نظام بوتين من التسلل إلى العواصم الغربية، ولا يجب أن يتحوّل هذا الأسلوب معيارًا في طريقة تفاعل الديمقراطيات الغربية مع الأنظمة الاستبدادية، لأن هذا الأسلوب ليس غير أخلاقي فحسب بل يؤدي إلى المزيد من أعمال العنف.

…إذا لم تفرض الدول الديمقراطية عقوبات على سلوك النظام السعودي، فذلك معناه أنها تمنح الديكتاتوريين مثل MbS حرية الإفلات من العقاب وضوء أخضر ليقتل أي شخص يجرؤ على انتقاده، وهم بذلك يشلون خطابات وأنشطة عشرات الآلاف من المدافعين عن حقوق الإنسان. بل يجب على قادة العالم الحر أن يطالبوا بالإفراج عن جميع السجناء السياسيين وتنحية MbS، لأنه أثبت أنه لا يعير أدنى اهتمام للإصلاح الديمقراطي. وإن احتمالية إزالة الـ MbS كولي للعهد، التي كانت تعتبر في يوم من الأيام غير معقولة، أصبحت عالية إلى حد ما. يمكن لولي عهد سعودي جديد أن ينهي الحرب الكارثية في اليمن، ويعجّل بحقوق المرأة من خلال وضع حد للولاية الذكورية على الفور، وأن يضع جدولاً زمنياً للانتقال من الاستبداد المطلق إلى ملكية دستورية.

…لم يكن جمال خاشقجي رمزا مجردا. كان إنسانًا. كان رجلا غيّبوه، فحالوا دون حضور حفل زفافه. لقد تخلى عن كل شيء لكي يتمكن من الكتابة بحرية، لأنه – كما صرح به في كثير من الأحيان – كان يحب بلده السعودية. وكان مقتنعا بأنه كان يخدم بلاده حتى في المنفى من خلال ممارسة حقه في التعبير المستقل وتشجيعMbS  على إصلاح النظام السعودي الذي كان خاشقجي لا يزال يؤمن به. وقُتل بسبب ذلك. لا يحق لنا أن نغفل الجانب الإنساني لخاشقجي، في خضم عمليات التستر على الجريمة والصفقات السياسية التي تحيط بقتله. وأفضل خدمة يقدمها ارثه هو الدفاع عن حقوق الأفراد بصورة نشطة وبقوة – وهو مفهوم عمل وفقه بلا كلل، وتوفي في النهاية من أجله”.

لكن من طبيعة الأشياء وطبيعة الدول الغربية، أنها لن تضحي بمصالحها، وهي تدرك إن لم تسرع لاقتناص الفرصة، سيسبقها الدب الروسي أو النمور الأسيوية، خاصة اليابان والصين، لملء الفراغ وجذب تلك الأموال، وقد رأينا فعلا أن هذه الجهات الأسيوية، قد لبت نداءات المؤتمر الاستثماري في الرياض وتستعد تقديم المطلوب، ولهذه الأسباب الموضوعية والقاهرة، لا يجب أن نؤاخذ تركيا ونطالبها بما لم نستطع نحن كلنا في العالم قاطبة فعله، فهي دولة في مكان حساس محاطة بجهات تريد رأسها وقد برهنت على نواياها مرارا وتكرار، على غرار محاولة انقلاب 2016 والأزمة الاقتصادية المفتعلة لتركيعها وابتزازها، ومساندة عسكرية ومالية وإعلامية ودبلوماسية للأحزاب الكردية المسلحة، وتركيا تدرك بواقعية أن لا طاقة لها عمليا، لتصمد في وجه الجميع،  وتدرك أن هذه الأزمة نظرا لأبعادها السياسية والاقتصادية والجيو استرؤاتيجية، قد تكون المنفذ للنيل منها مجددا.

تركيا لم تذخر جهدا لتسليط الضوء على الجريمة وجعلها محل انتباه العالم من أجل تضييق الخناق على الجناة، لكن في نفس الوقت لم تريد تركيا المساس بالدولة السعودية، بل تركت لها على مر الأسابيع الثلاثة من وقوقع الجريمة، فرصة لتقديم رواية معقولة ومحاسبة المجرمين المنقذين والمدبرين، ومما يؤكد حسن نياتها، رفضها المقايضة للاستفادة من الفاجعة، وفي فس الوقت رفض إمداد جهات أخرى بالأدلة التي تملكها لكي لا تضع السعودية عرضة للابتزاز .

لكن حتى وإن توقفت موجة “السخط” والشجب الغربية، وطوي الملف مع استمرار الصفقات البليونية، باسم الواقعية السياسية والمالية، ولم نر إحقاق الحق والوصول إلى المجرم الفعلي والقصاص منه مثلما تتوق إليه نفسية كل شريف تواق إلى الحق والعدالة، لن يذهب دم الشهيد سدى. وما نستخلصه مجددا من دروس، أنه من العبث والغفلة التعويل على الغير (الغرب تحديدا الذي يبني علاقاته ومصالحه مع الأنظمة لأكثر استبدادا في العالم، من بوكاسا إلى موسفيني إلى بينوشي، إلى جنرالات الجزائر ومصر غيرهم، دون أن تحرجه جرائمهم بالآلاف)، إن الاعتماد الحقيقي والفعلي والواقعي يقوم على القدرات الذاتية للشعوب في التغيير، وإذا كان ثمة شيء يستفاد منه في فاجعة خاشقجي ومن دمه الطاهر الذي بدله من أجل قضية آمن بها إلى أن دفع حياته ثمنا لها، أن دمه له ما بعده، وقد يكون الحافز والمنبه  الذي سيجعل الشعب السعودي يقتنع يوما بعد آخر، بعد ما رأي بأم أعينه ما تفعله سلطات بلاده، أن الذين يحكمونه يقودونه نحو المقصلة عاجلا أو آجلا، ومستعدون لأبعد حد للتمسك بملكهم، وهو ما قد يحرر وعيه وإرادته ليشق طريقه ويصنع مصيره ويسترد حريته بنفسه قبل أن يكون كل واحد منهم، خاشقجي آخر مع وقف التنفيذ…في قنصلية أخرى.

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version