تستحق الممارسة السياسية للمواطن الجزائري الرصد والتأمل والتشخيص والوصف لا من أجل تقييمها، لأن التقييم مهما كان موقف سياسي، لكن التشخيص والوصف يكون من أجل الدراسة الموضوعية واتخاذ نفس المسافة تجاه أصناف الممارسات، بغية تثمينها وتحسينها، لا إدانتها وانتقادها فالجميع جزائريون. وبالتالي يوجد في الجزائر ثلاث تيارات سياسية، تستمدّ أفكارها ومبادئها ومنهجها في العمل إمّا من التراث الجزائري والتراث العربي الإسلامي عموما أو من المشرق العربي الحديث والمعاصر و رابعا وهو الأهم من الغرب المعاصر وبالضبط فرنسا وبالأخص الأحزاب الراديكالية اليسارية.

التيار الليبرالي : أضعف وأهون تيار سياسي في الجزائر، مناضليه يعدون على رؤوس الأشهاد، إنهم نخبة مثقفة من أبناء الطبقة الوسطى لا قاعدة شعبية لها، لأن طبيعة هذا التيار لا تتعاطى الديماغوجية إطلاقا، كما أنه ومنذ بداياته كانت مواقفه تتعارض والتوجه السياسي للدولة الجزائرية وبالتالي فهو مُستضعف كتوم محتشم ومغمور لا يكاد يُرى طافيا على الساحة السياسية. فقد عارض كلّا من فرحات عباس و يوسف بن خدة وحسين لحول ومحمد خير الدين رحمهم الله التوجه الاشتراكي للدولة الجزائرية والارتماء في أحضان الاتحاد السوفيتي (النموذج السوفيتي) وبالتالي تعرض هؤلاء الرّواد للاعتقال أو النفي أو التهميش أو الإبعاد وهو سرّ ضعفه. تهاجم التيارات الأخرى الليبراليين عن طريق اتهامهم بالعمالة للغرب الرأسمالي وبالعلمانية والإباحية لأنهم أنصار الحريات الفردية والملكية الخاصة حيث دافع جون لوك الأب المؤسس لهذا التيار بأن لكل إنسان الحق الطبيعي في الحياة والحرية والتملك، ويجب على الحكومات أن لا تنتهك هذه الحقوق. كما يعارض الليبراليون الاتجاه المُحافظ التقليدي ويسعون لاستبدال الحكم الديكتاتوري المطلق للحزب الواحد الشمولي في الحكومة بديمقراطية تعدّدية وسيادة القانون.

تيار المحافظين:  فقْهيا يسمّى تيار التحكيم، وهم السّلفيون والمتصوفة أي الطرق والزوايا يلتقي الاثنان معا في هذا الجانب صفا واحدا، يدافعون عن الوضع القائم ويبرّرونه دينيا والتغيير عندهم أسوأ بكثير من مكتسبات الحاضر. التغيير يعني السقوط في الهاوية والذهاب نحو المجهول الذي لا يحمد عقباه فهم ضد الفوضى.  ومساوئ النظام القائم أحسن بكثير من الانتقادات والاعتراضات الموجهة إليه ناعتين إياها بالشرور والضلال. وهم ضدّ التحزب، ضد الثورة، ضدّ الممارسة السياسية مهما كان نوعها أو شكلها، تيار المحافظين السلفيين استمرار للتقليد الفقهي عند بن حنبل وبن عبد البر وبن العربي وبن جماعة وبن بطة وبن تيمية، هذا الموقف يدافع عنه اليوم أسماء: الشيخ فركوس ولزهر سنيقرة وعبد المالك وعز الدين رمضاني، أما المتصوفة نجد الطرق والزوايا فهي استمرار لتقليد الموحّدين الذين في عهدهم أصبحت كل مدينة أو قرية مسماة باسم وليّ أو شيخ كما تمّ تبنّي العقيدة الأشعرية رسميا. من جهة أخرى ومنذ صلاح الدين الأيوبي أصبحت مؤسسة الأزهر صوفية أشعرية تعمل لصالح الدّولة وحاول الاسلام الراديكالي السياسي للإخوان المسلمين في وقت قريب ولا يزال يحاول السيطرة عليها لكنه فشل، وبقي الأزهر ينافح عن سقوط الدولة المصرية ومؤسساتها. وإذا كان السلفيون تدعمهم المملكة العربية السعودية فإن المتصوفة يلقون التأييد والدعم من طرف الإمارات العربية المتحدة من خلال مؤسسة مؤمنون بلا حدود في المغرب مثلا. يتلقى هذا التيار النقد من كل الأطياف السياسية الأخرى واصفة إياه بالجمود والتحجر والتراثية، والتواجد خارج الزمن ومقاومة التحديث والتطوير، فالسياسة معطى دنيوي تستحق حكمة دنيوية من نفس الجنس، بينما هو لا يزال يحاكم الدنيوي بالديني.

التيار الراديكالي: من يساريين و إسلاميين أو الاسلام السياسي المتمثل في حركة الإخوان المسلمين وما تفرع عنها من أحزاب ومنظمات، إنهم يستلهمون من منظمات اليسار وأحزابه التنظيم والبناء الهيكلي وطرق ومناهج العمل السياسي، أي ممارسات سياسية يسارية راديكالية بغطاء ومبررات إسلامية من خلال حسن البنا وأبي الأعلى المودودي وسيد قطب، فإذا كان أتباع الخميني وأنصاره يصوّرون أنفسهم بأنهم يعاقبةُ العالم الاسلامي وبلاشفته يحملون نفس الآمال الثورية لكل من ثوار فرنسا وروسيا إلى العالم الإسلامي، يفعل الإخوان المسلمون نفس الشيء في العالم العربي، وإذا التقى طارق رمضان مع إدغار موران في قطر فإنه قبل ذلك كان قد التقى عزمي بشارة مع يوسف القرضاوي في نفس البلد. راديكاليتهم تحمل عبارات نحن الشرعية الاسلامية الحقيقية والوحيدة نحن صوت المكلومين والمظلومين والمقهورين نحن أهل العدل والإخاء نحن المستقبل الواعد وغير ذلك من الشعارات الثورية. هذا التيار متغلغل في أوساط الجماهير الشعبية عن طريق منظماته الخيرية والنقابية ويصطدم مع تيار المحافظين معتبرا إياه خصمه الأول.
أما تيار اليسار في الجزائر فهو بدوره منقسم بين يسار فرانكوفوني ويسار قومي عربي، لكن كلاهما يدافع عن الاشتراكية السانسيمونية والأيديولوجيا الماركسية، مفهوم الحرية عندهم جماعي لا فردي، لكن هناك اختلافات جوهرية بينهما: الفرنكوفونيون عبارة عن استمرار للتقليد الذي رسمه قديما كلا من عبد القادر حاج علي و مصالي الحاج، وذلك عندما استمدا من اليسار الفرنسي الحزب الشيوعي الفرنسي، مبادئ وقيم النضال الثوري. هذا التيار يؤمن بفكرة محورية ألا وهي:  الجزائر الإفريقية. فهو ضدّ عربية أو عروبة الجزائر، العربية عنده لغة الأسواق والشوارع والمقاهي وملاعب كرة القدم والزردات والوعدات والمنابر، أما الفرنسية فلغة أرائك الجلد والبيوت الأنيقة والصالونات الراقية والمؤتمرات الرسمية ومراكز تواجد المعهد الفرنسي في المدن الكبرى وما حام حوله من عمارات ومنازل.
أما اليسار القومي العُروبي فهو حصيلة التعليم والتكوين الذي تلقاه بعض الأساتذة والذين هرموا اليوم عند الناصريين في مصر أو البعثيين في بلاد الشام، هذا الاتجاه المُرتكن إلى الشعور العاطفي بين العرب تجاه بعضهم البعض ضَؤُل وفَتُر اليوم، لكن بقي الشعور الوطني فقط والعروبة، فمن مآسي هذا التيار خلطه بين الدولة الوطنية المنبثقة عن الثورة الفرنسية أو ديمقراطيات هولندا وبريطانيا في أوروبا الغربية والدولة القومية  المنبثقة من الأنظمة الفاشية والنازية لوسط وشرق أوروبا، حيث يرفع هذا التيار شعارا عاليا وهو الدولة الأمة هي الدولة الوطنية أو العكس بينما الواقع شيء آخر تماما.
لكن يجب الإشارة أن الزواج بين الاسلام السياسي واليسار ليس دائما بل هو مؤقت وهو نوع من المناورة السياسية من كلا الجانبين، فبمجرد وصول أحدهما السلطة يُعلن الطلاق.
إذن ما نستنتجه هو أن هذه التيارات كلها جميعا ليس لديها مشروعا مشتركا وموحدا، لا يوجد سقف لخلافاتها أو لا تريد أن تضع سقفا محددا يمكن أن تنتهي عنده تلك الخلافات، كلّ تيار يريد أن يسحق الآخر حتى النهاية وإلى الأبد الأمر الذي يجعل من مجتمعاتنا ودولنا دائما في حالة مخاض ولا تعرف الاستقرار ولا الطمأنينة وهو سبب فشلنا. دون أن يعني ذلك التخلي عنها جميعا والسقوط في الفوضوية أو مجتمع اللادولة أو الدكتاتورية المطلقة لأن غياب هذه التيارات جميعا هو غياب للمجتمع المدني.

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version