ما لنا وما لفقيدتنا الراحلة منذ سبعين عاما وربما لألفية أخرى؟ ندعوها عروسا ونغمض عينا عن عباءتها المخضبة بالدماء. نتغنى بها في بيت شعري لما يقتل أحد أبنائها، وننسج حلما في ليلة عن صلاة في مسجدها بخيوط العنكبوت ليندثر في اليوم التالي ولبقية الأيام. أوحدي أراها هادئة أكثر قليلا مما يجب؟ ما لتلك الضحكة الساخرة على طرف شفتيها؟ تراقبنا نركض بعيدا عنها نحو أفق مظلم غادرته الشمس والأقمار، نغفل عن أن الموت حق، وأن القاعدين هم الأدنى منزلة.. ثم نضع رأسنا تحت إبطنا كمالك الحزين، ونهمس: “القدس عاصمة فلسطين”.. نختفي ورغم ذلك وراء درع أزرق أعده خياطو ثياب الامبراطور العجيبة.. ثم نكمل الركض نحو عظام جيفة تركتها لنا الضباع “بارك الله لها في رزقها” لنقتات نحن مكسورو الجناح منها.. ونعود ونضع رأسنا تحت إبطنا، فهنالك نأمن على أنفسنا من شر الدنيا، وهناك بفعلنا لا ترانا الضباع ولا الثعالب ولا الأسود فتأكلنا..

تستأذن الأرض والسماء القدس أن تنطبقا علينا.. أن تحرقنا الأرض ببراكينها، وتهلكنا السماء بفيضاناتها.. لكن القدس تأبى، تقول أنه يكفينا لعنة دم كل مسلم أريق وما حركنا ساكنا، تكفينا لعنة الأندلس والعراق، تكفينا لعنة كل حبة زيتون لم تولد لأن أشجارها احترقت.. يكفي أن القدس تلعننا مع كل ضربة رأس يهودي على حائط المبكى.. تخشى علينا أن تزيدنا لعنتها الواحدة بعد الألف التي نحصلها كل يوم من كل عام عذابا فوق ما سنلقاه يوم الحساب.. تهطل رغم ذلك قطرات مطر، فنتراقص فرحا أن أجاب الله صلاة استسقائنا لكننا لا ننتبه أن المطر لم يصب الأرض بل أصابنا، ولا نفهم أن السماء كانت تبصق علينا، هي عافتنا، والأرض عافتنا، والكون كله لا يطيقنا.. حتى الشمس غادرت إلى القدس تنيرها، وتركتنا نتخبط في ظلمات ظلمنا لأنفسنا..

يا قدس فلتغفري، فما باليد إلا حيلة، “أن نرسل جيوشنا” ودونها ما لنا من حيلة وتعلمين.. مغلوب على أمرنا نحن أيضا، أترين؟

يا أخي حتى القدس عافتنا ما عادت تريدنا، وما كانت يوما تريدنا، لها صقورها وأسودها، لها الله، ما لها وما لمالك الحزين؟ إليك عنها، ما كانت لتكرمك بشهادة على أرضها، ولا بفردوس يوم الحساب.. عد إلى سيجارتك، تكاد تحترق بالكامل قبل أن تستمتع بدخانها.. عد لفنجان قهوتك، بالقرب من مدفأتك، فقد بردت.. عد إلى مسواكك وتعطر ببعض المسك، علك تخفي رائحة النفاق.. دعها ترتح من صراخنا وعويلنا، هي لا تريد نجاسة أكثر من اليهود المتجولين في شوارعها…

القدس مغمضة عينيها، هادئة على غير عادتها، لا تريد طعنا ولا أحزمة ناسفة، تمني نفسها بأن يظل ما تبقى من حجارتها مرصوصا وأن تستنشق إلى نفسها الأخير ريح الذكريات المتلاشية.. ستحميها حمامات باحات المسجد الأقصى بدروع من ريح، تصنعها برفرفة أجنحتها في سمائها.. ستسهر عليها نجمات المجرات كلها في ليلتها الأخيرة، وتزداد توهجا قبيل الفجر.. لتختفي معها في اليوم التالي.. أما فينا أمل البتة، يا قدس؟

أفكر في ما سآخذه معي في رحلتي إليك.. وأتذكر في لحظة، أن معالم الطريق لم تعد كما كانت.. أنها زرعت شوكا وما لي فيها زاد إلا الحنظل.. أخشى أن أضل الطريق، فهلا أرسلت بإحدى حماماتك ترشدني؟

أفكر في كم سأحتاج من الوقت لأبلغك راجلة؟ فأخشى أن أصل حين يصبح لمسجدك مرشد ذو ضفيرتين، يتجول بنا قائلا: “هنا صلى المسلمون الجمعة، ومن هنا دخل أبطالنا”.. نلتقط بضع صور مع معالم هفتت ألوانها، نشاركها على حائط الدرع الأزرق ونكتب “كنا في قصر الحمراء”..

أقرر أن استقل قطار العرب علني أصل قبل ذلك.. لا القطار موجود ولا السكة..

أنطلق مع ذلك فيستوقفونني، يسألونني ما أنا فاعلة؟ أقول أنوي الصلاة غدا في المسجد الأقصى.. فإما يرسلونني إلى وطني أو إلى الله، وما أنا ببالغة أبوابك يا قدس..

حجتي واهية كغيري.. وكلنا، جبناء يا قدس.. كلنا جبناء

نورهان شادلي / 7 ديسمبر 2017 / الجزائر.

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version