عندما أستمع إلى الناس يتحدثون عن الانتخابات في الجزائر يتبادر إلى ذهني المثل الشعبي المعروف “المندبة كبيرة والميّت فار”، وأكاد أردّد كلمة أبي لهب – ولستُ على ملته – “تبا لك طول اليوم، ألهذا جمعتنا”، ذلك أنه يُفترض في أهل الجدّ والمثقفين وأصحاب التصّور الصحيح أن يترفعوا عمّا يعلمون يقينا أنه لا يفيد في قليل ولا كثير، والاشتغال به مضيعة للجهد والراحة النفسية وللأجر أيضا، وكم تعجبني الحكمة العطائية “لا تكن كَحِمار الرحى، يسير، والمكان الذي ارتحل إليه هو الذي ارتحل منه، ولكن ارحل من الأكوان إلى المكوّن” (أي إلى الله عز وجل) ، فهي دليل لمن حبسوه في موضع فسيح يتصرفون هم فيه برغباتهم، ويتركون له حرية الانتقال بين جدان ذلك الموضع أو الأسلاك المحيطة به، فهو يبدو حرّا لكن داخل القفص فقط، أما تجاوزه والخروج منه فخطّ أحمر ينذر بالعواقب الوخيمة، وبعد ما رأى أعدادا من الناس تحترق بتلك الأسلاك المكهربة اختار إلغاء عقله وإيهام نفسه أنه حرّ لأنهم تركوا له أهلية التنقل داخل المحبس إلى جهة اليمين مرة واليسار مرة ثانية، وهكذا يغلب الوهم الحقيقة وتنتشر عقلية القطيع لتصيب حتى النخبة.

الانتخابات في البلاد العربية تعني التوجّه في يوم ما إلى صناديق الاقتراع لوضع أوراق معينة فيها، إما تحمل أسماء أشخاص او أحزاب، أو فيها كلمة نعم وكلمة لا، ينتهي الانتخاب وسط حملة إعلامية مكثفة تنبأ بتحوّل جذري في مستقبل البلاد، وتُعلن النتائج ليفوز فيها الزعيم وأحزابه وسياسته، ويُسدل الستار ولا يتغيّر في شؤون المجتمع نقير ولا قطمير، لأن الأنظمة الحاكمة تكره المفاجآت لذلك تنظم انتخابات تتأكد من أول الأمر أنها لن تخسرها.

هذه حقيقة يعرفها كل عربي وكل جزائري، ولا يثير استغرابي ما عليه الأنظمة الحاكمة ولكن ما عليه أحزاب “المعارضة” ومن دار في فلكها، وخاصة التنظيمات الاسلامية التي لُدِغت من نفس الجحر أكثر من مرة ولكنها ماضية في إغماض الأعين وضمّ الآذان، تحشد ما بقي لها من قواعد قليلة وكأنها تنتظر فعلا أن تُحدث الانتخابات أي جديد، والخيط رقيق بين هذا “التفاؤل” وبين الوهم، أو هي سياسة مقصودة لها غايات أخرى أقرب إلى المغانم ولا علاقة لها ببرامج ولا إصلاح.

أجل، الناس متعطشون للتغيير لكنهم سذّج إلى حدّ الغباء إذا ظنوا ان هذه الانتخابات أو تلك ستحقق شيئا منه، لأن الديمقراطية المتبعة لا تعني – كما هو سائد في دول العالم غير العربي – التداول على السلطة ولا تغيير السياسات فضلا عن إحداث القطيعة في مشروع المجتمع وأساليب تسيير الشأن العام، لا، إنما تعني وجود أحزاب كثيرة وانتخابات دورية ومجالس شعبية متعددة بشرط ألا يكون لكلّ هذا أي تأثير على السياسة المتبعة التي ينفرد بها “أصحاب القرار” في القصر الملكي أو الجهوري أو قصور أخرى بعيدة عن الأنظار، هذه هي الحقيقة التي لن يزيل مرارَتها تفاؤلُ المتفائلين المفْرط ولا وعود الحملات الانتخابية.

أكتب هذا وقد طلب رأيي بعضُ الإخوة الأفاضل كما اتصل بي أكثر من طرف، وهم جميعا يعلمون أني لست منخرطا في أي عمل حزبي ولا أنا من المطلعين على خبايا الأمور، لكن هذا التحليل لا يحتاج إلى خبايا ولا أسرار ولا طلاسم ولا تكهنات، إنه الحقيقة الماثلة في البلاد العربية يرسمها الديكور الديمقراطي ويعرف ثباتَها الجميع، والمشكلة إذًا ليست في العمل السياسي في حدّ ذاته ولا المشاركة ولا المقاطعة ولكن في الجدوى الذي لا أمل في وجوده في ظلّ الأوضاع الراهنة، وهنا تطرح النخب السؤال التقليدي: إذًا نترك الساحة “لهم”؟ والإجابة بسيطة: ماذا فعل وماذا عسى أن يفعل مَن ساير”هم” وشارك”هم” منذ عشرين سنة؟ أنا أذهب أبعد مما يتوقع المتفائلون وأقول: هبْ أن “المعارضة” حصلت على الأغلبية في البرلمان، هل من المتوقع أن تغيّر شيئا؟ مثال المغرب الأقصى حاضر أمام اعين المفْرطين في التفاؤل… إنها ليست مسألة انتخابات ومجالس وبرامج بل قضية نظام système يستخدم الواجهة الديمقراطية مثلما استعمل طريقة الحرب الواحد، والمصيبة أن هناك أحزابا وتنظيمات وأفرادا يوهمون أنفسهم أنهم يفعلون شيئا لصالح البلاد حين يرفعون أيديهم في هذا المجلس أو ذاك بينما هم في واد والنظام في واد والشعب في واد ثالث.

أخشى كمواطن أن من كان لهم شيء من المصداقية لدى الرأي العام يقبرون ما تبقّى منه – وهو قليل –  بتماديهم في طريق يعرفون عدم جدواه، وأخشى كداعية إلى الله ان الإفراط في العمل الحزبي يترك المجتمع بلا هُداة ولا منارات روحية وفكرية فتتعاظم الكارثة، وأرى ككاتب بسيط يعيش وسط عامة الناس أن من سيسألونني: ما البديل إذًا؟ أراهم يخيّرونني بين أن أعطي حلاّ سحريا أو أن يصرّوا على المضي في الطريق المسدود، وليس هذا شأني، وإنما أستطيع أن ألفت النظر إلى ضرورة التصالح مع الله تعالى قبل كل شيء، فقد ابتعدنا عنه كثيرا حتى تولى أراذلُنا أمور المجتمع و لن يسعفنا في نهاية المطاف إلا العودة الصادقة إليه، فهو وحده وليّ التوفيق، أما إذا تمادى الملأ في تغييبه عن الشأن العام واغترّوا ببرامجهم وتخطيطهم وسطوتهم رغم قيام ألف دليل على فشل ذلك فإنه سيكِلُنا إلى أنفسنا فنبقى متخبطين نرتحل في المساء إلى المكان الذي انطلقنا منه في الصباح ونحسب أننا في “حركة” نصلح ونغيّر ونبني ونشيّد متغافلين أننا في حقيقة  الأمر مجرد حلقة في سلسلة من الأصفار رغم الشعارات المرفوعة والمعارك السياسة الموهومة.

بدل ذلك ينبغي – في تقديري – التحوّل المكثف المُحْكم إلى التوعية البصيرة للجماهير بدل استغفالها، قصد إنشاء ديناميكية حقيقية مستقلة عن الأطر الجامدة التي شبهتُها بالمكان المغلق المسيّج، أي قبل أن نحلم بالتغيير الجذري يجب أن نسترجع حريتنا وننعتق من الأغلال الفكرية والنفسية التي يكبلنا بها النظام، وهذه مهمة يضطلع بها أصحاب الفكر والخبرة والنظر المستقبلي الثاقب، والاكباب عليها أفضل – فيما أرى – من الاشتغال الدوري بانتخابات هي أقرب إلى مسرحية رديئة الاخراج والتمثيل يعلوها الضحك على الأذقان.

عبد العزيز كحيل
16 نوفمبر 2016

تعليق واحد

  1. BACHIR بتاريخ

    RE: ويسألونك عن الانتخابات…
    سؤالنا من جنس سوء أحوالنا : ” له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له ومالهم من دون الله من وال ” الآية 11 من سورة الرعد.
    يسأل الناس سؤالهم ، ليس بحثا عن الدواء ، بقدر ما هو في أو عن دائرة الإصابة بالداء ، أو حتى عن أعراض الإصابة ، فإذا اطمأنوا على أنفسهم ، لا يهمهم بعدها الدواء ولا المصابون بالداء ، دون أن يدري السائل أنه على وشك الإصابة ، لأن مثل هذا الداء هو من طبيعة ما هو مزمن من صنف الذي يصعب اكتشاف الإصابة به من دون وقاية عالية . كذلك الذي يسأل عن الانتخابات وجدواها في أيام الناس هذه ، إن الانتخابات عندنا ، بل في سوق كسوقنا ، الذي لم يعد يعثر داخله المتسوق على سلعة يطمئن بها على صحته وصحة أبنائه ، ناهيك عن مناعتهم جميعا . إن البضاعة داخل السوق ، جاءت نتيجة غياب مشروع يترجم حضورنا في عالم البناء ، نحن نهدم من دون بناء ، ونسأل من دون مسألة، كمن فقد عقله وروحه على حد سواء ، فمن دون مشروع نملكه ، ونملكه لشعبنا ، لا يمكن أن نلوم الناس عن نوعية الدواء ، فيختلط عليهم أمر الطبيب والراقي والإمام والأستاذ ، والدعاة والأدعياء ، والرأي العام والرأي الخاص ، ونكون كمن يسأل كل جمعة قبل أن يؤم الناس ، يسأل الله ولا يدري ماذا يسأل ، حين يسأل ، فيطلب إخراج اليهود ، وسحق اليهود ، وتدمير اليهود ، أرأيتم كيف اختلط علينا السؤال ، وكأننا لأول مرة نسأل ، فاختلط علينا السؤال والجواب ، والحضور والغياب والسائل والمسئول . فمتى حضرنا ورضينا وتواضعنا وصبرنا وآمنا ، يصلح حالنا ويستقيم حكامنا ، فلا يتولانا إلا من كان من جنس الصلاح والاستقامة . حينها فقط لن نسأل عن الانتخابات ولا عن الأدعياء من الدعاة ، ولا الأطباء من الرقاة ، ولا عن أئمتنا ،أهم أحياء أم أموات .

Exit mobile version