لا يمكن بتاتًا أن توجد هناك هوية حقيقية مادام لم يكن لنا مجتمع متناسق ومتلاحم، مبني على أسسٍ سليمةٍ. هذه المسلمة السوسيولوجية ترمي اليوم بجذورها في عمقِ جروحنا كجزائريين: جرح تاريخي: الاستعمار، جرح سلطوي: التسلط والفساد، جرح هوياتي: عدم الاعتراف برسميةِ اللّغةِ الأمازيغية.  لم يستطع حكام بلادنا  منذ  50 سنة مضتْ بناء  دولةٍ حديثةٍ وعصريةٍ ولا حتى  تجاوز هذا “المجتمع ما قبل العضوي المتخلف” الذي يرتكز أساسًا على القبلية ؛ العروشية ؛ الجهوية ؛ الزبانية… إلخ.، بدل المواطنة ؛ العدالة الاجتماعية ؛ الديموقراطية ؛ المشاركة السياسية … بالعكس، شجعوا هذا النموذج القبلي الذي بقي كسحتٍ مسمومٍ توارثتهُ عضلات المجتمع من الأجيال السالفة بعدما استوردت بعض النخب الفاشلة “عقلية القيطون” من أمراءِ بلدانِ الخليج، وجرت الأخرى وراء سرّاب التغريب، جاهلتين للبعد الأنثروبولوجي “المتنوع” للهوية الجزائرية! من المؤسف أن نرى أنفسنا حاليًا أمام وضعٍ هزليٍ ومخيف في نفس الوقت: القبلية تحولت إلى نمط تسييرٍ لمصالحِ الدولة ومشكلة الهوية تضاعفت وتيرتها، حتى كرست  شرخًا اجتماعيا في البلاد تجلت أحد مظاهرهِ في أزمة واد مزاب الأخيرة. لماذا كل هذا يا ترى؟ هل الجزائر عندها مشكلٌ عرق؟ لا طبعًا، هل لها مشكلٌ طائفي أو ديني؟ بالتأكيد لا حتمًا. هل لها مشكل ثقافي أو سياسي؟ أجل، من دون أدنى شك! فلهذا السبب فقط لا لغيره، نكرهُ بعضنا البعض كجزائريين. ولهذا السبب أيضًا تطغى في ردود أفعال المواطنين البسطاء وحتى لدى “مثقفينا” نعرةُ الانتماء إلى الشرق أو الغرب ٬ما بالك عن الانهيار الثقافي والقيمي لدى الفئات الشعبية على اختلاف مشاربها. كأن معظمنا مصاب في نفسيتهِ بحمى “الألجريانوفوبيا” التي تهضم أحشائه من الداخل كالدود.

في الحقيقة، أي مجتمعٍ مهما كان يحي ويعيش بمقوماتٍ ومعالم. في بلادنا ويا لأسف هذه المعالم والمقومات غالبًا ما طُمست أو تحولت إلى شعاراتٍ فارغة المحتوى ثم إلى طابوهات. الثقافة الأمازيغية يمكن أن تصنف في هذا المضمار. فمنذُ حوالي أكثر من ثلاثين سنة عمت مظاهرات عارمة منطقة القبائل ووسط البلاد تطالب بترسيم هذه اللّغة وإعطائها المكانة التي تليقُ بها كإرثٍ وطنيٍ تفرضهُ جل المعطيات سياسيةً كانت أم اقتصادية أو اجتماعية. وفي 2001 قرابة 128 ضحية سقطت في خضم الربيع الأسود لنفس السبب ولكن دون جدوى. فكأنما السلطات تدير ظهرها للأمرِ الواقع تحت غطاء “الوحدة الوطنية”. ترى لماذا نرفض المصالحة مع هويتنا؛ تاريخنا؛ موروثنا الثقافي؛ ذاكرتنا أو بالأحرى مع ذاتنا؟ أظنُ أنهُ من المفيد طرح هذا السؤال عل شاكلةٍ أخرى: أين يكمن الخطر في الاعتراف العلني باللّغة الأمازيغية رسميةً يستعملها العام والخاص في المدارس، الإدارات، المحاكم، المستشفيات، إلخ؟ قد يقول البعض أن لغتين رسميتين في بلدٍ واحدٍ قد تطعنان في شُحمةِ الوطنية وتقتلان روح الانتماء إلى الوطن الأم، ويقول آخرون أن الترويج لترسيم لغةٍ لا تتكلمها الأغلبية الساحقة من الجزائريين يكون طريقًا نحو انتصار النزعة الانفصالية. جوابي يكون كالآتي، طبعًا سؤال يحذوه سؤال: إذا كانت التعددية اللّغوية تمس بأمان واستقرار البلدان، لماذا لم تتصدع مثلاً إفريقيا الجنوبية التي تملك أكثر من 10 لغاتٍ رسمية وتعتبر حاليًا من بين أهم الدول الصاعدة ولم تتشتت سويسرا المتقدمة ذات أربع لغاتٍ ولم تتزعزع بلجيكا ذات اللغتين، أو حتى جارتنا المغرب؟ أمرٌ عجيب حال هذه البلاد، بلادنا التي تتقوقع في وطنيةٍ بائسة أقل ما يقال عنها أنها “وطنيةُ الشذوذ”. يقول الباحث في علم الاجتماع هواري عدي أن النخب في الجزائر شيدت صرح السلطة ضد كيان المجتمع. أوافق هذا الرأي كليةً في ما يرتبطُ منهُ باللّغة الأمازيغية! بحيثُ أن هذا الاحتضار العنيف لمجتمعنا أدى إلى تفكك جل طرق المقاومة التحسيسية بالمواطنة الحقة وتنامي الأحقاد والضغائن بين أطياف الشعب. ما يفسرُ حتميًا النظرية القديمة التي تتحدث عن “دول دون مجتمعات” تحولت تحت تأثير التغامر والتحايل والعشوائية السياسية إلى “مجتمعاتٍ دون دول”. والأخطر من هذا في نظري أن هذه السلطة بحد ذاتها ليست مبنية سسيولوجيا بل مزيفة تاريخيًا (بناء فوضوي) على أطلالِ ذاكرةِ استعمارية مجروحة. خلاصةُ الكلام من كل هذا هو أن الإشكالية السياسية في بلادنا ذات متغيرات عويصة الفهم.

أنا شخصيًا لستُ ضد فكرة الحكم الذاتي التي جاء بها فرحات مهني(ولكن بالمقابل أعارضُ كمواطن مسعى الاستقلال الذي أجهر به في الآونة الأخيرة ،ومشروع الحكومة المؤقتة التي شُكلت في الخارج)، شريطةَ أن يكون هذا الحكم الذاتي موافقًا عليهِ بإجماعٍ وطنيٍ ، تمهيدًا لحكمٍ فدرالي شاملٍ على المستوى الوطني (يعني أنهُ حسب منطقي مناطق أخرى من البلاد ستحذو تدريجيًا حذو منطقة القبائل، على نمط مقاطعاتٍ أو ولاياتٍ كبيرة ذات صلاحيات إقليمية محصورة، مثل التقسيم الذي حدث في الثورة التحريرية، مع الإبقاء بالطبع لصلاحيات موسعة لحكم مركزي قوي وديموقراطي). ولكن قبل الخوض في كل هذا، يجب دعوة هؤلاء “الانفصاليين” إلى طاولةِ الحوار وبعث ديناميكية جديدة لتسيير البلاد. فالغرض ليس تقسيم الجزائر بل تعزيز مكانتها وقوتها وسط بركان إقليميٍ أتى على الأخضر واليابس.

كمال قروة    
7 ديسمبر 2015

تعليق واحد

  1. BACHIR بتاريخ

    لماذا لا تكون الأولوية لترسيم الاستقلال ؟
    لغتان رسميتان بدل لغة واحدة :
    السيد كمال يبرر إمكانية قيام لغتين رسميتين في الجزائر بما يلي :
    1/ عدم تصدع إفريقيا الجنوبية رغم وجود أكثر من 10 لغات رسمية .
    2/ عدم تشتت سويسرا رغم وجود أربع لغات .
    3/ لم تتزعزع بلجيكا ذات اللغتين .
    4/ ذكر المغرب ، دون ذكر عدد اللغات .
    *نبدأ بسويسرا ، أو الكونفدرالية السويسرية ، لها أربع لغات رسمية ، ما هي اللغة الأكثر تحدثا واستخداما ؟ أليست هي اللغة الألمانية ، ثم تليها الفرنسية ، ثم الإيطالية ، ثم الرومانية بنسب أقل ، إن عبر هذا فإنما يعبر عن طبيعة النظام الكونفدرالي أولا ، ثم هو نابع من اختيار حر ، من دون فرض هذه اللغة أو تلك بالقوة ، حتى أننا لو أقمنا استفتاء شعبيا داخل سويسرا حول اللغة التي يحبذ المواطن السويسري التحدث بها واستخدامها داخل المدرسة والإدارة ، لجاءت النسبة معبرة عن الواقع القائم من دون تزييف ولا تضليل ولا مزايدة من أي طرف . أما في الجزائر ، تصوروا لو أرجعنا الكلمة للشعب ، من دون تزوير ولا تزييف ، كيف تكون النتيجة ؟ ثم ما هي الجهة الأجنبية التي تتدخل في كل حين في الشأن السويسري ؟ أبدا ليست هناك أي جهة تتدخل في الشأن الداخلي أو تزايد على المواطن السويسري . أما الجزائر ، اسألوا سي كمال ؟ كذلك كم قرنا استغرق تشكل وقيام الكونفدرالية السويسرية ؟ دون إهمال الخلفية التاريخية لقيام هذا الاتحاد . هل كانت سويسرا مجتمعا واحدا ثم انقسم على نفسه ، أو أنه كان مجتمعا واحدا ثم طالب بالتعدد اللغوي وترسيم أربع لغات ؟ ألم تجتمع ثلاث كانتونات ( شفيتس ـ أونترفالدن ـ يوري ) ابتداء سنة 1291 ووقعت ميثاقا دفاعيا بينها ضد الخطر الذي كان يهددها ، ثم أنظمت إليها كانتونات أخرى ، عن طواعية وشكلت اتحادا فيما بينها هذه المعطيات وغيرها جعلت السويسريين يحتفظون داخل إتحادهم ، كل بخصوصيته ،ومنها اللغة التي يتحدث بها المواطن ويستخدمها داخل الكانتون الذي ينتمي إليه ن علما أن الكونفدرالية تتضمن 26 كانتونا ، أليس كذلك ؟ أما الجزائر ، ألم تكن محتلة ؟ ألم يحافظ الشعب على وحدته وتماسكه ، حتى قبل الاستقلال ؟ فلماذا نزايد على الشعب الذي حفظ وحدته لقرن وثلاثين سنة ؟ هل يمكن مكافأة شعب كالشعب الجزائري ، فنقترح عليه تقسيم كانتونيا ؟ ونرسم فيه أكثر من لغة ؟ أو ليس محتل الأمس هو الذي يلهث وراء مثل هذا التقسيم ، ولما عجز لجأ إلى البحث عن مدخل آخر ، كترسيم أكثر من لغة ؟ ثم من يضمن ضبط المسألة عند قيام لغتين رسميتين ؟ من يقف أمام قاطرة المحتل ، التي تعطلت طيلة 130 سنة ، ليجعلها تكف اليوم عن بذل المزيد لتفتيت وحدتنا عن طريق التفتيت اللغوي تحت اسم ترسيم أكثر من لغتين، بل أكثر من ثلاث وأربع، هل لغتان رسميتان يمكن أن تشبع نهم محتل الأمس؟
    ثم لماذا لا يبرهن محتل الأمس بإعطاء المثال ، فيرسم عنده أكثر من لغة ؟
    * جنوب إفريقيا : التنوع السكاني ، العنصر الإفريقي ، العنصر الآسيوي ، العنصر الأوروبي ، كل هذه العناصر نجدها حاضرة اليوم في جنوب إفريقيا ، بمعنى المواطن في جنوب إفريقيا ، يعود في أصله إلى هذه القارات الثلاثة ، بغض النظر عن النسب ، أليس كذلك ؟ كم لغة توجد في الأصل ؟ هل استقلت جنوب إفريقيا عن بريطانيا مثلما استقلت الجزائر عن فرنسا ؟ هل الواقع الجزائر ، عقائديا واجتماعيا، هو نفسه الواقع الاجتماعي والعقائدي في جنوب إفريقيا ؟
    *المغرب : كم هو عدد اللغات الرسمية دستوريا ؟ سي كما لم يقل لنا هذا ، فإذا قصد الواقع أو ما هو قائم فعليا مثل استخدام اللغة الفرنسية إداريا ، وحتى الازدواجية في التعليم ن فهذا لا يقتصر ، أو لم يقتصر على المغرب فقط .
    *هل نضمن احترام دعاة ترسيم أكثر من لغة الاكتفاء بهذا المطلب ، أم أن الأهداف ، هي نفس أهداف محتل الأمس ، تقسيم الجزائر التي استعصت عليهم لأكثر من قرن ، فلنقرأ التاريخ أيها الأحرار ، وعلى الأقل نسأل سكان الأوراس وجرجرة والأهقار .
    *بالنسبة لقول الباحث هواري عدي : ( النخب في الجزائر شيدت صرح السلطة ضد كيان المجتمع ) ، هذا الذي ذكره سي كمال ، حيث قال : أوافق هذا الرأي كلية في ما يرتبط منه باللغة الأمازيغية ، دون أن يكتفي بهذا ، بل يتمنى تقسيم الجزائر إلى مقاطعات تتمتع بالحكم الذاتي . موضوع السلطة وعلاقتها بالمجتمع ، لا يمكن أن يفعل فعلته فينا ، فننزع إلى مثل الذي يقترحه السيد كمال ، فإذا لم تفعل أفاعيل محتل الأمس بآبائنا وأمهاتنا ، فلم يقبلوا إلا بالحرية ، لا أتصور انحراف السلطة سيغير مسار الجزائريين ، فينزعون إلى ما ينزع إليه ويتمناه محتل الأمس فيقبلون بتقسيم الجزائر ، لا قدر الله ، إلى مقاطعتين فقط ، كل لها حكمها الذاتي ، هذا الذي ترفضه السلطة ذاتها ، حتى وإن كانت لها قراءتها ، فإن ما تمناه سي كمال ، أو حبذه ، يجعلني أحيله إلى ما يجري بأرض الشام والعراق ، فإن إسرائيل ، ومن ورائها ( الغرب ) برأسماليته ، يمكن أن يبذلوا أضعاف ما بذلوا ، ليس لجلب الأمن والأمان لشعوب المنطقة ، ولكن لهدف واحد ، وهو فقط التقسيم ، وليس سوى التقسيم . الجزائريون يمكنهم بكل حرية استخدام الأمازيغية أو العربية ، أو أي لسان جزائري آخر ، لكن من دون استدراجنا فنفتح باب التقسيم والتفتيت تحت أي مسمى . ولا حول ولا قوة إلا بالله .

Exit mobile version