لماذا لم نستطع الخروج من الحيّز الضيق للاتكالية على كل الأصعدة: فردية كانت أم جماعية، نحو الآخرين وتجاه الدولة؟ لماذا ما زلنا ولا نزال بعد أزيد من خمسين عامًا من الاستقلال ندور في فلك الزعامات والهالة التقديسية للأشخاص؟ لماذا لم يذُب فولاذ الطابوهات في أذهاننا وتفكيرنا ومعتقدنا ومخيالنا؟ لماذا أيضًا لم نتجاوز “سندروم” الكلونيالية الجديدة في التسيير والسياسة والاقتصاد والعلوم والآداب والفنون، على الرغم من أننا لم ننس أبدًا الإرث الاستدماري للاستعمار ووحشيته؟ باختصار، إلى متى سنبقى نحن التابعين، لا المتبوعين، الهامش لا المحور، المغلوبين لا الغالبين؟

كل هذه الأسئلة تضرب في الصميم لُبّ مشاكلنا الحالية. لقد تحدث الكاتب السوري برهان غليون في عرض عام ووجيز لمختلف هذه الإشكاليات عن اغتيال العقل وانقراضه في المجتمعات العربية، بحيث أن الفكر انطفأ تحت طائلة الأحكام المسبقة والرقابة المفروضة عليه، ذاتية كانت أم جماعية، مدروسة كانت أو بمحض التلقائية المستكينة، وكذا التأويلات العشوائية التي نُحِتت مُبرِراتها على خلفيات دينية. بالطبع اغتيال العقل هو اغتيال للمنطق، فأبجدية التنوير لم تدخل بعد عقول بعض النخب الثورية التي أضحت ترى في الفكرة جريمة وفي التفكير خطرًا، أولًا على وجودها، وثانيًا على مصالحها الآنية والمستقبلية. وكردّ فعلٍ على هذا خلقت جلّ الظروف التي جعلت من الانهزامية مبدأً، ومن التشاؤم سبيلًا ومن الخضوع غاية. أما الكاتب الفلسطيني هشام شرابي فقد أرجع هذا الانسداد إلى شرخ كبير في بُنية الأسرة وذلك لهيمنة الصبغة الأبوية على مكنوناتها.

نلاحظ جليًا أن التركيبة السلطوية لأنظمة الحكم العربية والإسلامية ما هي إلا صورة طبق الأصل لما يحدث في النواة القاعدية للمجتمعات التي تهيمن عليها (هنا يوجب علينا التفريق بين الهيمنة والسيطرة بوصف الأولى ترتبط بالفكرة لا بالقوة). فالسلطة الرمزية لرب العائلة مثلًا رمت عرض الحائط برأي الأم والأبناء في البيت، وتوصيف اقتراح المُسنّ في الأمور العامة أثناء عقد المجالس القروية في الأرياف حكمةً وصوابًا بديهيةٌ لا نقاش فيها.

هذا ما يفسر من جهة صعوبة التحوّل الديموقراطي في البقاع الإسلامية، ومن جهة أخرى يعطينا حجة دامغة على سرّ تجلّي ظاهرة التسلط، في حين أن بين هاذين القاسمين تفشى نوع من الإقطاع الثقافي ونمت بطريقة سريعة “الأحادية” في الفكر والمعتقد حتى عند الطليعة والأنتلجنسية المحسوبتين على الحداثة. وكمحصلة خطيرة جُرَّ بقاطرة النهضة إلى الوراء. فالبايلك الذي هو في الأساس كلمة تركية تعني المقاطعة أو المحافظة، رسخ في الضمير الجمعي منذ قرون مضت فكرة شيوع الملكية أي بالمعنى الحديث الاشتراكية الطوباوية. فالبايلك يرادف العام، الجامع أو الرافد الذي يشترك فيه الجميع ويختلف عن المفهوم الحديث للدولة بكونه يجسد طابع الولاء للأشخاص لا الانصياع للقوانين. بمفهومٍ آخر، البايلك يكرس التبعية ويفتح اليوم كل الأبواب والسبل أمام هواة النهب والبيروقراطية أو ما يسميه البعض بالإرهاب الإداري.

وبما أن مجتمعاتنا تعيش حاليًا مرحلة مزرية من الشللية الفكرية، وخلط للمفاهيم وعطالة تاريخية مستديمة (ما يسمى في الاجتماعيات بما قبل العضوية)، أقصد ذلك المخاض العسير الذي يستبق ازدياد الدولة الحديثة، فإنّ رواسب هذه النماذج الفكرية السالبة ستؤثر بصورة كبيرة على سيرورة الحياة العامة.

حكم المشايخ في الجزائر ليس وليد الصدفة ولا نتاج حتمي للدور المنوط للصفوة التقليدية أثناء حرب التحرير وإنما تكرير للوصاية الأبوية على الأسرة على نطاق أوسع: الدولة.

كمال قروة
21 نوفمبر 2014

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version