يتميز المشهد الجزائري بوضع فريد من نوعه، يكاد لا يجد له شبيها في الوطن العربي أو العجمي، من جهة ثمة شبه إجماع لدى فئات عريضة من الشعب على أن النظام الحاكم مستنفد نظرا لفساده واستبداده ولا شرعيته، وليس ثمة علاجا سوى تغييره تغييرا شاملا، ومن جهة ثانية معارضة واسعة، شكلت طيلة عقود من الزمن ركنا ركينا من هياكل هذا لنظام، وأضفت عليه غطاء تعدديا، وكانت تتهم قبل سنوات كل من ينادي بالتغيير الشامل بأنه مغامر وعميل لأيادي مغرضة، نراها الآن تزايد على من سبقها في المطالبة بالتغيير ومن جهة ثالثة، نظام مترهل فقد كل مبررات بقائه ومع ذلك متحكم بل ومستفز وكأنه متيقن من بقائه. السؤال المطروح لماذا رغم توفر كل عناصر التغيير، لم تشهد الجزائر ما شهدته شقيقاتها في الوطن العربي؟ سؤال أصبح على كل لسان دون أن يجد له تفسيرا مقنعا.
 
قبل الخوض في هذا المجال، من الأمانة الإقرار بأن النظام نجح في خطته أيما نجاح، ولا يمكن أن ينكر ذلك إلا مكابر، والنجاح الذي نقصده في هذا المقام نجده ينحصر في بقائه مستحكما بالسلطة مستعملا كل الوسائل والحيل، كقولنا أن إبليس نجح في إخراج أدم من الجنة، ليس إلا. فيما عدا هذا “النجاح” لم يعد خافيا أن النظام القائم يفتقد إلى أي رؤية إستراتيجية لإدارة الحكم، كل همه هو المناورة وربح والوقت مستخدما كل ما بين يديه للبقاء، دون أن يعير أدنى اهتمام لتراكم المشاكل ومحاولة حلها. وما يعزز غياب أي نية في البحث عن إستراتيجية طويلة الأجل لترشيد الحكم والمؤسسات، نرى أقطاب هذا النظام على أهبة الاستعداد للانتقال خارج البلاد، من خلال تجميع ثروات هائلة نهبوها من خزينة البلاد وأودعوها في بونك أجنبية تحت إشراف “وكلاء” أوفدوهم هناك لرعاية هذه الأموال، في حالة جرت لأمور على غير ما خطط له.

من ثمرات “نجاح” هذا النظام أنه حوّل الجزائر إلى أرض قاحلة، ليس بيئيا فقط، وإنما سياسيا واجتماعيا وأخلاقيا واقتصاديا، ورسخ في أذهان ووجدان شريحة واسعة من المواطنين، أن “بعده الطوفان” والفوضى والاقتتال، وأنه يشكل الحصن المنيع لحماية الوطن من بعبع الإرهاب والفتنة واليد الخارجية، أي انه أتقن توظيف هذه الفزاعات في وجه كل مطالب بالحرية والكرامة، وليس غريب أنه جعل من قانون المصالحة، الذي منح الحصانة لمجرمي العشرية الدامية سواء في صفوف الجيش أو المخابرات والأمن والمليشيات،  وجعل منها أكبر “إنجاز” في مشروعه الانتخابي للبقاء طيلة العهدات الأربعة دون خشية منازع جدي.

من ضمن الوسائل المستخدمة لتحقيق هذا النجاح، وكسر عزلته عقب انقلاب يناير 91 ( في الواقع هذه الوسيلة استخدمها النظام خلال جميع فترات حكمه حتى في ظل الحزب الواحد، حيث كان آنذاك بدل شراء ذمم الأحزاب التي كانت غائبة، يشري ذمم الشخصيات السياسية والثقافية وغيرها) ليضفي عليه نوعا من “الشرعية” المفقودة. وبتوظيفه هذه المعارضة، حصل على طيور عدة بحجرة واحدة، أولا تحييد المعارضة من المشهد الميداني من خلال إشراكها في مختلف هياكل السلطة (أما المعارضة غير الراضية على الانقلاب، فقد تم تخييرها بين الاعتقال والتصفية الجسدية أو المنفى)، ثانيا كسر شوكة هذه المعارضة بعد شراء ذمتها وتلطيخ يدها بعد حصوله على دعمها النظام الانقلابي، وثالثا، حصلت السلطة على ذروة مقاصدها، ضرب مصداقية هذه المعارضة، وإسقاطها في أعين المواطنين، وكنتيجة مباشرة زرع الشعور بالإحباط واليأس من إمكانية التغيير وغياب البديل. يتجلى  شعور فقدان المواطن الثقة في كل الجهات، ورضوخه الظاهري للوضع القائم ، فيما نسمعه كثيرا من بعض المواطنين، دون أن يكونوا بالضرورة لا من أزلام النظام أو ناطقين باسمه، فهم يقرون بأن العيش أصبح صعبا والوضع مزريا، لكنهم يخشون وضعا أكثر خطورة، ويرفضون المجازفة، ولسان حالهم يقول، فساد وفشل واستبداد نظام نعرفه، خير من وصوليين قد ندفع ثمنا باهظا لأطماعهم، وتوظيفهم لنا ليفعلوا بنا لاحقا ما يفعله بنا هذا النظام أو ربما أكثر.

كيف للمواطن أن يثق في شخصيات وأحزاب كانت ركنا ركينا في هياكل هذا النظام، على مر عقود وفي حكومات متعاقبة دون أن يعرب أي منهم عن ندمه واعترافه بالخطأ عند دعمه الانقلاب وإجهاض خيار الشعب، ولم يدين أي منهم الانقلاب إلى يومنا هذا؟ وكيف ينسى أن منهم من أنضم إلى أول مؤسسة لا شرعية، المجلس الوطني الانتقالي، الذي أقامه النظام الانقلابي عقب إجهاض البرلمان المنتخب، ليحل محل النواب الذين انتخبهم الشعب ذات 26 ديسمبر 1991 فتم اعتقالهم أو الزج بهم في مخيمات الصحراء أو اغتيالهم أو الدفع بهم نحو المنفى الاضطراري؟ وكيف له أن يثق بشخصيات ترفع شعار المعارضة بعد أن تبوؤوا مناصب رؤساء حكومات عقب الانقلاب، ولا يزل  بعضهم ينادي بتدخل الجيش لضمان الديمقراطية، ومنهم من ترأس حملة بوتفليقة نفسه، ثم ما فتئ يندد بحالة التزوير التي كان ضحيتها عندما ترشح مرتين لمنافسة فخامته.  

الإشكالية الماثلة أمامنا واضحة: من جهة شبه إجماع لدى مختلف فئات المجتمع حول ضرورة وضع حد للنظام القائم لفقدانه كافة مبررات البقاء، شعور سائد حتى داخل أجهزة السلطة، ومن جهة أخرى، انسداد الأفق وانعدام الثقة في البديل عن هذه السلطة. والحصيلة، ارتياح لدى السلطة التي لا تجهل مدى مقت المواطنين لها، ولا تحاول حتى التستر على فشلها وفسادها، لكنها تشعر بقدر معقول من الاطمئنان والثقة في النفس، وسبب ذلك أنها تدرك، بل هي صانعة هوان وعجز “البديل” المتمثل في معارضة (المسموح لها بالنشاط)، التي تطالب السلطة بالرحيل، في حين تفتقر إلى وسائل تنفيذ “مطالبها” المعلنة، فضلا عن علمها بالحدود المسطرة لها التي لا يمكنها تجاوزه.

أين المخرج يسأل المواطن؟

الرضا بالوضع القائم أم الاستجابة لنداء هذه المعارضة التي تلمح بالنزول إلى الشارع إذا احتضنها الشعب، وهي التي رفضت طيلة سنوات تلبية نداءات النقابات والحقوقيين والمعارضين بدعوى أنهم غير معترف بهم (من قبل من؟؟؟)، وأنها أحزاب مسؤولة ولن تغامر على درب محفوف بالمخاطر. ومما يغذي هذا التوجس، أن الكثير من لمراقبين يعتقدون أن السلطة أدركت أن ما تشهده المنطقة العربية، ومنها الجزائر (مع وصول هذه الموجة إلى الشعب البوركينابي و ربما شعوب افريقية أخرى)، حتمية تاريخية، وأن المنطقة متجهة نحو التغيير الشامل لا محالة، ويرون في هذه النقلة النوعية منها حيلة جديدة الغرض منها تلميع صورة “معارضتها” وإضفاء عليها طابعا ثوريا، لمواجهة رياح التغيير التي باتت حتمية لا يمكن إجهاضها، من خلال أسلوب يتماشى مع المعطيات الجديدة، أي إخراج المواطنين، ووضعهم في أحضان هذه المعارضة (التنسيقية).  

إن ما يربك الأنظمة الاستبدادية في الوطن العربي هذه المرة، أن ما جرى (ولا يزال) حراك متميز لم تعهدها هذه الأنظمة من قبل، كونه حركة لا يتحكم فيها شخص أو حزب أو تنظيم أو جهة بعينها، هذه الميزة جعلتها في مأمن من التوظيف أو الاحتواء،  سواء من شخص أو حزب أو جهة، إسلامية كانت أو علمانية، ولا حتى من قبل السلطة القائمة، مثلما تؤكده كل ثورات المنطقة. إن ما جرى كان عبارة عن تطور شعبي وصل مداه، وهذا بالتحديد ما يقض مضجع هذه النظم وجعلها تفقد صوابها في محاولاتها المستميتة لاستيعابه قبل فوات الأوان، على غرار ما كنت تفعله ما كل التحركات السابقة.

هناك دليل آخر يؤكد أننا دخلنا عصرا جديا ونموذجا مغايرا، لم تعد تفلح معه أساليب النظام القديم، بحيث أننا نشاهد الآن حتى مدبرو الثورات المضادة الذين خسروا الكثير من ثورات الشعوب المنتفضة، نلاحظ أن هذه النخب التي حاربت بدموية لكي لا تعود الكلمة إلى الشعب، لم تستطع هذه المرة معاكسة هذا التوجه بشكل صريح، فراحت تحاول الانقضاض عليه بشكل ظاهره “ثوري”، من خلال تبني مطالب وشعارات الثورة، بل شهدنا بعضهم يزايد حتى على مفجريها، ورأينا كيف أن رواد الثورات المضادة في مصر ادعوا أنهم هم أصحاب الثورة الشرعيين وركبوا موجتها بزعمهم حمايتها من المغرضين، والشيء نفسه في تونس (في الانتخابات لأخير مع عودة فلول بن علي من الباب الواسع بشعارات ثورية) وكذلك في الجزائر عندما صرح الساسة أنهم كانوا سباقين إلى الثورة في أكتوبر 88، في حين يعلم الجميع ماذا جرى في أكتوبر 88.

خلاصة القول وردا على من يسأل أين المخرج، لا أعتقد أن هناك من يمكنه تقديم وصفة سحرية، نظرا لضخامة التوجس وفقدان الثقة بين المواطن والطبقة السياسية، مما يجعل السير على طريق التغيير الشامل أمرا عسيرا لكنه غير مستحيل. أول خطوة يتعين على من يطالب الشعب بالسير معه إلى شاطئ الآمنان، أن يكسب ثقة واطمئنان المواطن فعلا لا قولا، وذلك لن يتأتي من دون أن يتصدر المسار ويقاسم المواطنين معيشتهم، حلوها ومرها. من جهة ثانية، طريق التغيير، لا يكون بالضرورة رهينة الأنماط الكلاسيكية المعهودة المتمثلة في أحزاب يعرف القاسي والداني أنها لا تستطع الوفاء بعهدها حتى وإن صدقت. يمكن تصور البديل في انتهاج طرق مغايرة، من قبيل التنظيم في إطار حركات عمالية واجتماعية وحقوقية وغيرها، إلى جانب الشخصيات النزيهة التي لم تتلطخ ولم تستطع هذه السلطة شراءها وتوظيفها أو كسر شوكتها، وثالثا، لا مناص من العمل المنظم وتجنب التشرذم، تنظيم الصفوف لم يعد من الكماليات أو ترف النظريات، وإنما ضرورة ملحة، لأنه يشكل حجر زاوية في كل مشروع فعال، وأكبر دليل على ذلك، مساعي السلطة الحثيثة على كسر الحراك وتشتيت الصفوف، من خلال الاستجابة الاجتماعية الجزئية لاحتوائه، ومنع تنسيق الجهود واتساع رقعتها، ولنا خير مثال على ذلك، ثورات الشعب الجزائري، التي سبقت ثورة نوفمبر المجيدة، كثورات الأمير عبد القادر والشيخ الحداد وبوعمامة، رغم جهادهم وبسالة مقاومتهم تم محاصرتهم والقضاء عليهم لاحقا، بعد احتوائها جغرافيا من قبل القوى الاستعمارية، والشيء مثله تكرره السلطة اليوم في تعاملها مع الحراك الحقوقي والنقابي ومع عائلات المختطفين، وغيرهم من الجماعات النضالية، لكي لا تتوحد صفوفهم  في مطالب موحدة لوضع حد لسبب مآسي الجميع.
التغيير سنة كونية حتمية لا توقفها حيل ولا معوقات، لكنه لن يحدث قبل العثور على الحلقة المفقودة، التي تعطل تحقيقه، رغم توافر عناصره، الحلقة المفقودة المتمثلة في اقتناع المواطن واطمئنانه بان القائمين عليه صادقون في مسعاهم، ومجتهدون في مقصدهم، ومستعدون لمشاركته آماله وآلامه ودفع الثمن من أجل ذلك، عندئذ، يكسر العملاق السلاسل التي تبدو تقيده، ويبرهن أنه قادر على رفع التحدي رغم مظاهر الاستقالة والفتور التي كانت تكبله، وليس قبل ذلك.

رشيد زياني-شريف
12 نوفمبر 2014

تعليق واحد

  1. Abdelkader Dehbi بتاريخ

    RE: الحلقة المفقودة بين توافر عناصر التغيير، واستمرار الوضع القائم
    [rtl]””قَالَ رَجُلانِ مِنَ ٱلَّذِينَ يَخَافُونَ أَنۡعَمَ ٱللَّهُ عَلَيۡہِمَا ٱدۡخُلُواْ عَلَيۡہِمُ ٱلۡبَابَ فَإِذَا دَخَلۡتُمُوهُ فَإِنَّكُمۡ غَـٰلِبُونَ‌ۚ وَعَلَى ٱللَّهِ فَتَوَكَّلُوٓاْ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ (23)””- سورة المائدة.

    قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : “” يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها – فقال قائل أوَمن قلة نحن يومئذ ؟ – قال: بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل ولينزعن الله من صدور عدوٌكم المهابة منكم وليقذفنٌ الله في قلوبكم الوهن – فقال قائل: يا رسول الله وما الوهن؟ – قال: حُبٌ الدنيا وكراهية الموت.””

    شكر الله لك، د. رشيد زياني شريف، هذا المفهوم الصائب – أي “الحلقة المفقودة” – الذي استعملته في وصفك الدقيق لحالة الانسداد السياسي الاجتماعي اليائس، الذي بات يهدٌد سيادة الوطن وسلامة التراب الوطني ووحدة الشعب الجزائري. ولقد جاء في التراث كما ألمحت إليه أعلاه، ممٌا معناه العواقب الوخيمة التي ترتبت عبر التاريخ، عن غياب العزيمة والخضوع للأمر الواقع والرضى بالمذلة والاهانة، سواء بالنسبة للأفراد أو بالنسبة للأمم. يبدو لي شخصيا، أنٌ الأسباب الرئيسية التي أدٌت إلى فقدان هذه الحلقة، ترجع : – أوٌلا، إلى عدم التفاف شتات المعارضات الشريفة حول أرضية عمليٌة موحٌدة ترضي أوسع شريحة ممكنة من المواطنين العادين والنخب السياسية والثقافية على اختلاف مشاربهم الأيديولوجية، وانتماءاتهم الفكرية والحزبية، وفئاتهم الاجتماعية — ممٌا يتطلب منا جميعا السعي في تجميع بعض “الأرضيات” ذات مصداقية، الموجودة على الساحة وتوثيقها في وثيقة واحدة تتبناها كل الأطراف المعنية بالتغيير، تحت حركة سياسية ذات طابع جبهة وطنية، أقترح تسميتها ب “الجبهة الوطنية من أجل التغيير” على سبيل المثال لا غير. – ثانيا، إلى انعدام الثقة بين المنشطين السياسيين للمعارضات المختلفة وداخل المعارضات نفسها – حتى نتحاشى ذكر الزعامات… – وكم يتحسر المرء عندما يلاحظ حجم الطاقات الإنسانية المهدرة وفرس جمع الشمل الضائعة بسبب سوء التفاهم بين اثنين أو ثلاث وتعنت هذا أو ذاك… ناهيك عن الاختراقات المخابراتية… – ثالثا، غياب العزيمة الجماعية، كلما تعلق الأمر بالنشاط الميداني كالتظاهرات السلمية أو الوقفات الاحتجاجية أو غير ذلك من الحضور في الشارع… إلا أنه بات من الأمر الحتمي أن سيفرض الشارع نفسه على النظام و المعارضات على حدٌ سواء… نرجو فقط أن لا يكون هدا الأمر، فرسة جديدة تمكن فلل النظام من استعادة النفس… [/rtl]

Exit mobile version