كتب المفكر مالك بن نبي رحمه الله في ستينات القرن الماضي كتابا بعنوان “مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي” من فُصوله: “أصالة الأفكار وفعاليتها” مَفادَهُ أنّ الفكرة الفعّالة ليست بالضّرورة صحيحة وأنّ الفكرة الصحيحة لا تنفع حامِليها إذا لم يستطيعوا تفعيلها أي أن يجعلوا منها المحرّك الأساسي لجميع مناحي حياتهم السياسية والثقافية والاجتماعية والأمثلة المؤكِّدة على ذاك كثيرة في التاريخ ومنها الفكرة الصهيونية وأحسن من عبّر عن بُطلانها الكاتب اليهودي – قلعاد أتزمون – إذ كتب في مقال بعنوان “العقيدة اليهودية والسلم العالمي”: “إذا أردتم فهم المرتكزات الوحشية القاتلة عند الصهاينة فما عليكم فعله سهل جدا يكفيكم فتح العهد القديم”، أي كتابهم المقدّس، ففكرهم عنصري ضيق دينيا كاذب يزعم أن اليهود شعب الله المختار لا يُسأل عما يفعل في الدنيا ولا في الآخرة كما يعتبر سائر البشر من غير اليهود أميين أي وثنيين تجِبُ إبادتهم كما جاء في كتبهم المقدسة:

“[…] إذًا يجب إبادتهم على آخرهم. لا تُبرموا معهم أي معاهدة ولا تُبدوا لهم أي شفقة […]” (سفر التثنية 2-1: 7).

“[…] لا تتركوا على قيد الحياة كل من يتنفس. حطِّموهُم جميعا كما أمركم ربُّكم […]” (سفر التثنية 16-20).

إذًا ليس هناك دليل أبلغ من هذا على باطل وزيغ فكرتهم ولكنهم استطاعوا بالتكتُّل حولها وبدهائهم ومكرهم المتوارث أن يتسلّلوا إلى أعلَى مراتب الكنيسة المسيحية ويُحرِّفوا مبادئها ويبدِّلوا مُقدَّساتها بأفكار تخدم مصالحهم وتجعلهم يسيطرون على الحضارة الغربية ويسخرونها لخدمة مشروعهم المدمِّر إذ بدأت تظهر آثاره السلبية على المجتمعات الغربية نفسها التي تحلّلت من كل القيم الأخلاقية ووصل بها الأمر إلى تدمير أساس استمرار وُجُودها وهي الأسرة التي تخلّت عن وظيفتها الأساسية منذ زمن بالعزوف عن الإنجاب وبدعة تحديد النسل بدون سبب والآن شُرع في تدميرها بالكامل بالزواج المثلي.

استطاع إذًا اليهود أن يُحقِّقوا هذا “الانجاز” على المسيحيين الذين كانوا يُناصبونهم العداء ويُطاردونهم عبر التاريخ لِاعتقادهم أنهم قتلة المسيح عليه السلام.

وفي أمة الإسلام نماذج من الانحراف عن الفكرة الإسلامية الأصيلة التي انبنى عليها العهد الذهبي فانتشرت في جميع أصقاع العالم في زمن قصير، وفي ذلك تكمن قوة الإسلام الأبدية، فحامِلو الفكرة الأصيلة موجودون في كل مكان ومن كل جنس ولون ما يجعل الانبعاث ممكن حين تتوفر الأسباب في أيٍّ من أرجاء أرض الله الواسعة.

فالانحرافات التي ظهرت في العهود الأولى للإسلام كانت سياسية ولم تمس جوهر العقيدة ولكن مع مرِّ الزَّمن والاحتكاك مع الحضارات الأُخرى ظهرت فرق شاذة ومذاهب تعدّت الاجتهادات الفقهية إلى خلافات عقدية وظهر من يربط الفكرة بالأشخاص، “وفي هذه الحالة – يقول مالك بن نبي- يصبح لدينا خلل في التوازن الثقافي […] تكون معه العلاقة بين الفكرة والشخص مرتهنة لشخص تستحوذ على سائر الروابط القدسية […]” وهذا ما حصل للمذهب الشيعي إذ أصبح تقديس سيدنا الحسين عليه السلام يعلو كل شيء. ما يجعل انحراف المذهب الشيعي واضح للعيان فانتصار الشيعة لآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم فكرة خاطئة من أساسها ومرتبطة بافتراء تاريخي يجعل من غير أتباع المذهب الشيعي نواصب أي يُناصبون العداء لآل البيت وهذا قذف في حق غالبية المسلمين .كما أنّ الواقع والتاريخ يفند هذا الادعاء.

لسنا في حاجة للدفاع عن مدى محبة أهل السنة لآل البيت سلام الله عليهم جميعا والصحابة الكرام رضوان الله عليهم ولكننا بصدد تثبيت أنّ هذه الفكرة الخاطئة وجدت في واقع المسلمين البائس اليوم من يلتفُّ حولها ويتعصّبُ لها أي من يُفعِّلها ويحقق بها بعض الإنجازات الإيجابية في دنيا الناس وأن يبني بها على أنقاض إمبراطورية الشاه الفاسدة، دولة تتحدى أعتا قوى الاستكبار العالمي بمنجزاتها التكنولوجية والعسكرية، كما تتصدّر الدفاع عن قضايا الأُمة الكبرى كاستعادة فلسطين وتحرير بيت المقدس ورفع لواء الجهاد في وجه أعداء الأمة. وبذلك استطاع المسلمون الشيعة وبفضل تضحياتهم خاصة حزب الله في لبنان أن يبنوا لأنفسهم مجدًا وتعاطفًا كبيرًا داخل الشعوب الإسلامية وأوجدُوا لأنفسهم الكثير من المدافعين والموالين سياسيا ومذهبيا قبل أن تنكشف سوآتهم في سورية وغاياتهم الخفية حين ظهر أن التعصب الأعمى للمذهب يجعل من نظام ولاية الفقيه وحزبٍ شعاره الجهاد يهبون لنصرة نظام حزب البعث الملحد الذي يقتل شعبه لأنه أراد التحرر من دكتاتورية كبحت أنفاسه منذ أزيد من أربعة عقود. تُرى ما هو تبرير نظام الملالي في إيران للدفاع عن نظام حزب علماني شعاره “الدين لله والوطن للجميع” وعقيدته بعث القومية العربية على أساس عرقي مقيت متناف مع مبادئ ديننا الحنيف.

فالتفسير الوحيد لهذا الاصطفاف هو أنّ الحكم في سورية في قبضة الأقلية العلوية والذي أصبح من المؤكد أنها في خدمة المشروع الشيعي في المنطقة وأنه إذا سقط ربما يسقط المشروع كله.

إن الموقف الموحد للشيعة في كل من إيران ولبنان والعراق من القضية السورية كاف لتأييد من يقولون أنّ لإيران والشيعة عموما برنامجا تبشيريا توسُّعيًا بدايَاتُة ظاهرة للعيان في العراق خاصة. لقد عاد الحديث مُجدّدا عن طائفية هذا المذهب وتعصُّبه وتكفيره لباقي المذاهب. انه لتطور مُؤسف يزيد في تمزيق أواصر أمة الإسلام في الداخل ويُضعف موقفها في الخارج ويُضرُّ بالشيعة قبل غيرهم.

نعود إلى صلب موضوعِنا أي العِبرة من أنّ التمسُّك بفكرة ولو مُنحرفة والعمل بها في واقع الناس رصيد قوى وعامل نجاحٍ مُؤكد ولو مرحلي. فها هي إيران ذاتها تعطينا درسا في الوعي الجماعي لما يتطلبه الظرف في الداخل وفى الخارج من وحدة للصَّف وتلميع للفكرة وإظهارها في أحسن حللها تطبيقيا لا نظريا. فعلى النقيض من الانتخابات الرئاسية السابقة وما رافقها من صِراع وعُنف متبادل ورفضٍ للنّتائج من قبل المعارضة نشهد هذه المرّة عُرسًا انتخابيا هادئا حيث فاز مرشح الإجماع كما كان مخطط ولم نسمع عن اعتراضٍ واحدٍ يمينا أو يسارا. فالظرف يستدعى وحدة الصف لذا تخمد كل الخلافات.

إنّ هذا الحدث الداخلي الإيراني بمثابة صفعة لكل النخب العربية بجميع أطيافها والتي تكاد بفرقتها أنّ تفسد عن شعوبها ثوراتها عن الدكتاتوريات وتعرقل إقامة المؤسسات التي تمنع عودتها. وإن المسؤولية الكبرى عن هذا التخبُّط والتّناحُر يقع على عاتق أدعياء الديمقراطية الذين لفضتهم صناديق الاقتراع، فعِوض أن يبحثوا عن أسباب خسارتهم وكيفية تدارُكها في المستقبل نجدهم يلجأون إلى إشاعة الفوضى والكذب واستعمال العنف المدمِّر لقيم المواطنة ويبثُّون الفُرقة والعداوة بين الناس باسم الحداثة ومقاومة الدولة الدينية المرسومة في أذهانهم بِحكم ثقافاتهم المستغربة. إن مواقفهم تُعبِّر حقًّا عن استلاب فكري وثقافي وينطبق عليهم وصف الأستاذ مالك بن نبي: ” فهؤلاء الذين يُخلطون بين أمرين: الانفتاح الكامل على كل رياح الفكر وبين تسليم القلعة للمهاجمين كما يفعل الجيش الخائن”. ويضيف قائلا: “هؤلاء الذين مردوا بإدمان على تقليد الآخرين […] تقليدا لقالب فلسفي يُصبح دفعة واحدة معاديًا للإسلام “(مشكلة الأفكار، ص 109).

المفارقة العجيبة أنّ غالبية هذا التيار محسوبة على الإسلام وعلى أهل السنة بالتحديد وبعضهم يقيمون الشعائر الدينية أي أنّ الجميع معارضة وموالاة يزعمون الانتساب للفكرة الإسلامية الأصيلة بيد أن واقعهم البائس يُفنِّد هذا الادعاء.

وفي المحصلة نستطيع القول أنَّ ولاء مجموعة من الناس وتوافقهم وانقيادهم الطوعي لفكرة منحرفة جدير بان يُحقِّق لهم نماءً وعِزّةً، في حين أنّ رفع شعارات الانتساب للفكرة الصحيحة لا يفيد رافعيه في شيء إذا لم يرافقه عمل طوعي بمقتضياتها وتفعيلها في جميع مناحي الحياة . كما يجدُر بنا القول أنّ عدم وجود التوافق المنشود لنصرة الفكرة الأصيلة يُعقِّد الأمر على المؤمنين الصادقين بنجاعتها ولكنه لا يعفيهم بأي حال من الأحوال من السّعي الصادق للانتصار لها وبها مع مراعاة الظروف الذاتية والمحيطة واعتماد أسلوب التدرُّج في المطالب والتطبيقات وقبل كل هذا التحلِّي الصادق بالقيم والمبادئ التي تُمليها عليهم الفكرة .

د. محمد جاب الله
الجزائر، 17 جوان 2013

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version