لَقد عَرَّت ثورات الربيع العربي النُّخب السياسية وأظهرت مدى حَجم الدمار والتّفكُك الذي لَحق بها في عهد حُكم الجَبابرة، كما بَيَّنت أن هناك تَيّارين كبيرين ما سُمِّيَ بالتيّار العلماني والتيّار الإسلامي. وقَد ظَهر أيضا عُمق الفَجوة التي بينهما، إذا لم نقل عُمق العِداء ومدى بُعدهما عن الواقع المَعِيش وتَنافسهما الشرِس عنْ سُلطة وهميَّة، حيثُ لم يُدركا معًا التَرِكة الثقيلة التي زرعها الاستعمار ونمَّتهَا الأنظمة الدّكتاتورية من بعدهِ، وأخطر ما في هذه التَرِكة أنّ كِلاهما فَاقِد لمقوم أسَاسِي لبناء – بمفرده – دولة مستقرة.

فالتيّار الإسلامي – ومن يتوافق معه من الوطنيّين الشُرفاء مع وجود الإرادة لديه – فاقد للفعالية – أي الكفاءة – على إدارة المرحلة الانتقالية بالسُّرعة المرجُوة لما يفتقده من خبرة فى التسيّير ومعرفة تعقيدات بنية الدولة الموروثة والتي كان يكْتَنفها كثير من الغموض والفساد إضافة إلى التناقضات والمعوِّقات الموضوعية من جهلٍ وفقر وبطالة وروح اللامبالاة لدى العامّة الموروثة على عُقود من الجفوة بين الشعب والسلطة. كما ان هذا التيار – الذي اعتاد ان تتواصل قياداته مع المواطنين في المساجد والذي حصل على ثقتهم في الانتخابات – يعتقد أنّ سلوك الناخبين تجاهه لن يتغير عندما يكون في الحكم.

فاختيار الناس للإسلاميين كلّما كانت الانتخابات نزيهة – كما أظهرته التّجارب المتكررة في عدة بلدان عربية إضافة إلى العاطفة الجماعية نحو الإسلام – مبني على ما يُتوقع من الإسلاميين من تمسُّك بقيم العدل والنزاهة والإخلاص في العمل كما تحتمه شريعة الإسلام، ما يجعلهم قادرين في نظر هؤلاء الناخبين على حل كل المشاكل وتلبية كل المطالب، خاصة أنّ هذا ما كان يعِد به الشعوب كلّ المترشحين بما فيهم الإسلاميين، والكل – في نشوة أجواء التّحرر من قيود النّظام المستبد – قد نسي الأخذ في الحُسبان تلك المعوقات السّابِق ذِكرها، وما يضاف لها من معوقات خارجية من ضغوط التزامات سابقة وتدخُّلات سَافرة حالية.

أمّا التّيار العلماني زِيَادة على فُقدانه مُقوم الفَعالية كما أسلفنا، فهو فاقد لرابط ضروري يربطه بالمواطن وهو رابط الهوية، إذ نرى كثير من ممثّليه ورموزه لا يمتُّون بصلة إلى غالبية مواطنيهم حتى وإن زعموا الدّفاع عن مصالحها ومطالبها السياسية والاجتماعية والاقتصادية. فنمط عيشهم في كثير من الأحيان وتصريحاتهم وتوجهاتهم الفكرية ليست ولن تكون مقنعة لشعوب هويتها إسلامية مهما كانت مشوَّهة في الواقع المعيش، لكنها متجذّرة في ضمير ووُجدان هذه الشعوب. وما يعزّز هذه النّظرة السلبية اتجاه التيّار العلماني هو اتّهام بعض رموزه بالارتباط بأجندات خارجية ومنظمات دولية لا يَخفى انحيازها ضد قضايا المسلمين إلاّ على مُغرِضٍ.

وقبل كل هذا يجب ان يُدرك الجميع موقعهم وموقع دولهم في العالم الحديث الذي تشكل في غِيابهم جميعًا، ولمجتمعاتٍ غير مجتمعاتهم، وبمفاهيم متعارضة في كثير من الاحيان مع قيمهم. فقد أخذ هذا العالم شكله وعنفوانه وهم في قبضته حيث أدخلهم في تشكيلته كفضاء يتوسّع فيه الأقوياء منه، ومصدرًا ليدٍ عاملة غير مكلفة وللمواد الأولية من معادن وطاقة وباقي الخامات اللّازمة لتحريك اقتصاده. آنذاك لم تكن الشعوب المستعمرة محسوبة حتى في موازين سوق الاستهلاك العالمي الذي هو محرك الإنتاج عنده، لتبقى المستعمرات التي أفقرها وجهّلها الاحتلال تعيش بوسائل بدائية كي لا تتفطن لما يُسلب من خيرات أراضيها وجهد أبنائها.

نظرًا لكلّ ما سبق لا يتوقع عاقل أن تكون الطريق مفروشة بالورود لتطبيق الديمقراطية في البلاد المستعمرة سابقا وهي اسلوب الحكم الحديث الذي طبّقته الحضارة الحالية، وكان من أهم دعائم نهضتها التي حررت الانسان الغربي من ظلم الإقطَاع وطغيان الكنيسة وتسلُّط الملوك.

يجب ألاّ ننسى أيضا انه في الوقت الذي كانت فيه شعوب الغرب في أوج ثوراتها على الطغيان في أوطانها ورفعها شعارات الحرية والمساواة والأخوة كانت جيوشها تقوم بغزو أوطان أمم أخرى وإبادة سكانها وتهجيرهم عن أراضيهم وطمس هويتهم في آسيا وأفريقيا وهذا ما يبرز الهوة السَحيقة بين التنظير والتطبيق لمبدأ الديمقراطية.

نحن الآن واقعون في نفس التناقض، فبالرّغم من رفع شعارات الديمقراطية والحرّية والمشاركة نرى التّنافر والتدابر وعدم قبول الرأي المخالف والافتراء وتزييف الحقائق أحيانا، ما يعني أننا ورثنا أخطاء من كان يستعبدنا في تطبيقنا المنحرف للديمقراطية، مع الفارق أن هذا الانحراف على حسابنا نحن وليس على حساب الآخرين كما حصل فى الغرب.

بعضنا يرفض الديمقراطية جهلًا لكونها منهج غربي لائكي إلحادي، ويغالي الآخرون في مفهومها للحرية إلى درجة الإخلال بأخلاق وقيم شعوبهم بما تشبّعوا به من نظرة تقديسية لكل ما يأتي من الغرب.

إنه يتوجّب على الجميع أن يسلموا بأن لا بديل لنا اليوم عن اعتماد آليات الديمقراطية لبناء مؤسسات قوية تمثل كل أطياف المجتمع لتنظيم حياتنا وكمنهج واضح للتداول على السلطة. كما أنه من الواجب أيضا ان نعترف جميعا أن لنا خصوصيات فكرية وعقدية وأخلاقية لابد من مراعاتها والحفاظ عليها، لأنها كانت دوما – و ستبقى – الرابط المتين لتماسك مجتمعاتنا وتميزنا على الآخرين. فالحكمة تقتضي أن نأخذ من غيرنا ما يفيدنا ويوحّدنا، ونترك منه ما يفرّقنا ويخلّ بشخصيتنا.

إن الشعوب العربية تمرّ اليوم بمرحلة خطيرة وهامّة تمكنّها إن أحسنت استغلالها من اعادة تشكيل الدولة على أسس متينة بمساهمة الجميع دون إقصاء، ما يجعلها قادرة على الشروع في القيام بنهضة حقيقية علمية واجتماعية واقتصادية، واللحاق بركب الدول المتطورة والتمتع بالاستقرار والحرية والرفاه.

لقد فوّتت النخب العربية على شعوبها فرصة التحرّر من الاستعمار لإرساء قواعد دولة العدل والحرية الضامنتين لنمو الإنسان والأوطان، فلا يجوز لها تضييع فرصة الوعي الحالي لدى االشعوب – من قام بثورة ومن لم يقم – وعيها بمرارة حالة التخلف والهوان التي هي فيها وبضرورة التغيير الفعلي وإطلاق جميع الطاقات للنهوض الحضاري.

إنه من المفيد لنا جميعا أن نراعي في مرحلة بناء المؤسسات، إننا كالطفل الذي يتعلّم المشي إن لم يؤخذ بيده سقط. فتطبيق الديمقراطية يتطلّب تربّصًا وتدريبًا على آلياتها. ولقد ثبت بالتجربة في الجزائر وغزة من قبل والآن في تونس ومصر أن تطبيق آليات الديمقراطية لا يفيد في شيء إذا لم يكن لها مؤسسات تحميها وإذا لم تكن ثقافة الديمقراطية متجذرة لدى جميع الفرقاء السياسيين.

فمن المفارقات العجيبة أنه أوّل من انقلب على الديمقراطية في الوطن العربي هم أدعياؤها الذين سمّوا أنفسهم بالاتجاه الديمقراطي بمساندة من لا يؤمن بِها أساسًا، فكان الثمن باهظا على الجميع خلّف شُروخًا في المجتمع ما كان ينبغي لها أن تكون لو ساد العقل وتنازل الفرقاء عن كبريائهم وعكفوا على استقراء التاريخ والاستفادة من تجارب من سبقنا من الأمم في تطبيق الديمقراطية. فليس بالبعيد عنّا ما جرى من انتقال سلِس وحضاري من سلطة شمولية صرفة، إلى ديمقراطية حقيقية في أغلب بلدان شرق أوروبا وما كان يسمى بالكتلة الشيوعية، باستثناء دولة يوغوسلافيا السابقة حين لم يقبل المتعصبون الصرب – بتواطئ وصمت عالمي حتى أوشك المسلمون على الإبادة – أن تقوم دولة مستقلة بأغلبية مسلمة في قلب أوروبا فوقعت جرائم يندى لها جبين الإنسانية جمعاء، ورغم كل هذا أقيمت دولة البوسنة فوق أنقاض أبنائها.

فالجميع مدعو إن كان مخلصًا لوطنه وشعبه، أن يستمع للرأي الآخر المخالف ويبحث عما قد يكون فيه من الإيجابيات، فهذا الآخر موجود وله حقوقه، ولا يمكن إزالته فهو شريكك في الوطن، فقد يكون جارك أو صهرك أو حتى أخوك أو ابنك، لذا ففي هذه المرحلة بالذات يجب أن تتجه كل الجهود إلى البحث عن الحّل الأنجع، ممّا يتطلّب التكامل الصادق والبنّاء بين دعاة التوافق الوطني الذي يضمن للأقلية مشاركتها الفاعلة في صنع المسقبل، ودعاة التمسّك بشرعية الاغلبية التي كفلتها صناديق الاقتراع، فهذه الأخيرة مطالبة بمراعاة التدرج والإقناع والتشاور مع الجميع فما لا يدرك كله لا يترك جله. فأعداء التغيير والمتربصون بالبلاد كثيرون، وإشاعة الفوضى سهلة كما نرى في الواقع المرير من عداء مقَنَّع وسافر أحياناً لمقوّمات هوية الشعوب، وما يشيعه الإعلام المغرض من افتراءات ونفخ في نار الفتنة والتحريض ضد شرعية لا تزال هشة وغير واثقة من نفسها.

إن الانقسام يعطّل التغيير ويشغل القوة الفاعلة فى نزاعات هامشية تربك الصف الثورى الحقيقى وتستنزف طاقاته. فعلى الجميع أن يدرك أن الانتقال من نظام دكتاتوري وطنى لا يقل صعوبة عن التحرر من قيد المستعمر، بل يكون أحيانا أكثر تعقيدًا. فكما أقيمت جبهات وحركات موحدة لاستعادة الأوطان من المستعمر يجب أن تكون حركات التغيير الآن جبهة واحدة لاستعادة السيادة للشعوب فى اختيار من يحكمها. وعلى كل فصيل أن يدرك أنه لن يستطيع بمفرده إنجاز هذه المهمة الكبرى وأن لا يلهث وراء سراب الحكم وجني ثمار تغيير لم تكتمل بعد معالمه.
 
إن إقامة هذا التكامل المنشود يشترط ان يكون هناك ميثاق شرف تلتزم به الأطراف الفاعلة في المجتمع، أساسه نبذ العنف بجميع أشكاله المادية والمعنوية، والنية الصادقة للوصول معًا إلى برّ الأمان بإرساء قواعد دولة القانون والمواطنة يبنيها الجميع ويعيش فيها بتساوٍ في كنف العدل والأمن والتراحم.

محـمـد جــــاب الله
15 فبراير 2013

تعليق واحد

  1. houcine بتاريخ

    ردّ
    يثير مقال السيد محمد جاب الله سؤال التحوّل الديمقراطي في بلدان الربيع العربي , وهو سؤال أرى وجوب الانكباب عليه بحثا ومناقشة لإنّه يلخّص المأزق التاريخي لتجربة ما بعد الثورات ومرارة إحباط الجماهير وهي ترى أمالها تتبخّر . ما يمكن أن نلاحظه حول المقال يمكن إيجازه كالتالي :
    -1- المقال مفعم تفاؤلا ونيّة حسنة وأمل في أن يتحقّق الحلم القديم الجديد : التخلّص من معوقات النهضة والانطلاق نحو الآفاق الرحبة للعالمية .
    -2- التعايش بين شقي النخبة الإسلامية والعلمانيّة هو ما يطرحه المقال . لكن السّؤال الرئيسي الّذي يجب طرحه : هل تملك هذه النخبة مقوّمات تجاوز عوائقها الذاتية ؟.
    -3- الاستبداد ليس رموزا سياسيّة أو مؤسّسات سلطوية بل نظام ثقافي – بالمعنى الأنثروبولوجي -ينتج ويطوّر أنظمة معرفيّة وسلوكيّة وقيميّة تهدف إلى محاصرة الآخر تحت مسميات مختلفة وتحويله إلى أداة لإثبات الذات وإشباع غرورها ومركزيّتها .
    -4- ستبقى بلدان الربيع العربي في حالة معاناة متواصلة ما لم تتمكّن من إفراز نخب جديدة تتجاوز النّخب الحالية الذي بدأ الواقع يظهر عجزها وفشلها لأنّ فيروس الاستبداد قد استشرى في أوصالها بشكل مخيف وما نشاهده من تخبّط وصراعات هي أعراض الاحتضار ..
    -5- هذه إشارات أجوبة دفعنا لتدوينها المقال – السّؤال , وإن كنّا لا نشاطر تفاؤله بإمكانيّة إجتماع وتوافق النخبة الحالية فإنّنا نقاسمه حلم النهضة .
    -6- في الفلسفة الأسئلة أهمّ من الأجوبة , وهذه المزيّة الكبرى لمقالة السيّد جاب الله ..

Exit mobile version