صدر في جريدة الخبر ليوم 15 جويلية 2012 للدكتور أحمد بن بيتور مقال بعنوان “القضية الأمنية”. وقد ذكر في مقدّمة المقال أن الجزائر تمرّ بأزمات متلاحقة منذ عشرات السنين (سياسية، ثقافية، أخلاقية، الخ.) ولكن في ورقته هذه أراد أن يركز على القضية الأمنية. والدكتور بن بيتور معروف لدى الجميع بسعيه الحثيث لتشخيص معضلة الحكم – أو ما يعرف عند السياسيين بداء الحكامة “probleme de gouvernance” – (1) في الجزائر منذ سنين، وعلى اقتراح حلول. أراه اليوم في هذا الموضوع الحساس بالذات قد يجانبه الصواب بطرح حلول دون تعريف بصلب المشكل، وهو رجل الدولة الذي تدرّج في دواليب الحكم في عز الأزمة الأمنية في تسعينيات القرن الماضي إلى أن أصبح رئيسا للحكومة، فهو ممّن يعرفون جيدًا أسباب وتطورات الأزمة الحقيقية التي مرّت وتمرّ بها البلاد أو هكذا يُفترض.

أزمة الجزائر واحدة منذ الاستقلال، وهي سياسية بامتياز أي أزمة حكم، فالشعب لم يختر حكامه، ولم يُسْتفْتَ في نمَطِ الحكم الذي سَيسُوسُه بعد الاستقلال، وهذه أمُّ الأزمات ومصدرُ المشاكل، وما يُعدُّ من أزمات – اقتصادية أمنية ثقافية، الخ. – ما هي إلا نتائج متفرِّعة عن الأزمة الأم، فلا يمكن إذن أن نعالج الفروع والداء متأصل في الجذع، فقد يكون البحث عن حلول لتلك الفروع مجرّد محاولة للتخفيف من وطْأة النتائج المترتّبة عن الأزمة الأصل، وصرف الاهتمام عنها، ممّا يزيد في إطالة عمرها. وعليه يجدُرُ برجال الفكر المخلصين والغيورين على وطنهم، ألاّ تتشتَّت أفكارهم وآراءهم فتهتمَّ بالنتائج وتهمل المسبِّبات.

فعندما يصرّح ثاني مسؤول تنفيذي أن البلاد تسيّرها المافيا، لم يبق لعاقل مطّلع مجال للقول أنّ أزماتنا متعدّدة ويجب البحث فيها واحدة واحدة. فعِوض أن تُعرض علينا ونلمس عمليا نتائج ما أُنْجِز منذ خمسين سنة من عمر الاستقلال، نُصْفعُ على وجوهنا وبكل صراحة ووضوح بالقول أن البلاد تحت وطأة المال القذِر – أي مال اللصوص – وهذا مدلول تصريحه بالفرنسية “L’argent commande en Algérie, il commence à gouverner et à devenir un argent mafieux” ويضيف في نفس المناسبة أن البلاد في حالة خطر اقتصاديا وأمنيا إذ يُصرِّح “أن الوضع الصعب الذي عاشته الجزائر خلال تسعينيات القرن الماضي على الصعيد الأمني والاقتصادي يمكن أن يعود إذا لم نفعل شيئا لبناء الوطن” أو كما قال باللغة الفرنسية “La situation difficile vécue par l’Algérie dans les années 1990 sur le plan sécuritaire est économique peut revenir si rien n’est fait pour construire le pays” (2)، وهذا كلام فيه تحذير وتخويف وتلويح بأنّ نفس الأساليب التي سادت آنذاك يمكن استدعاءها من جديد، ما يعني أننا لن نستطيع الكلام بعدُ عن مرحلة ما بعدَ الإرهاب. كما نفهم من تصريحات السيد المسؤول أنّ قَدَرَ الجزائر أن يحكمها نفس الأشخاص الذين حكموها من قبل، وهذا ما يعنيه حين يقول “أبصم بأصابعي العشر إن إعتقدتم أن تغيير الحكومة سيحسن الأوضاع” كما يضيف “أن انطلاق القاطرة كان خاطئا سنة 1990 عندما اختارت الجزائر الاقتصاد الليبرالي” (3)، وهو من ركب ذلك القطار وقاده ما يقارب من 15 سنة، ويأتي اليوم ليخبرنا أنّ الاختيار غلط وأن الفشل جماعي ويشمل جميع الميادين.

أمام هذا الوضع الكارثي والاعترافات المتتالية للمسؤولين بالفشل على كل المستويات، يتقرّر أمران لا ثالث لهما:

– الأمر الأول: أنّ النخب الحاكمة في الجزائر جاهلة وليست قادرة على تسيير البلاد، ولكن انتسابها للماضي النضالي ضد الاستعمار جعلها تتخيّل أنها الوحيدة القادرة على حماية الوطن والحفاظ على استقلاله، ممّا يتطلّب منها التمسّك بالحكم مهما كان الثمن، وإعادة التجارب الفاشلة في نمط التسيير، من الاشتراكية المدمّرة إلى الليبرالية الاستهلاكية المتوحّشة، ولسان حالها يقول قولة فرعون ومِن ورائه كلّ الجبابرة في الأرض” ما أريكم إلا ما أرى”.

– الأمر الثاني: أنّ هذه النخب قد يكون لها كفاءات في التسيير، ولكنها موكلة بمهمّة لا تستطيع أن تحيد عنها، بحيث تبقى الجزائر سوق استهلاك ما ينتجه غيرها، وأن تعيش بما أنعمه الله عليها من موارد مخزونة تحت الأرض إلى أن تنفذ، وبعدها يجعل الله لها مخرجا. وإلا كيف يفسّر مثل هذا التناقض الفاضح بين القول والعمل، وهذه المواقف اللاأخلاقية التي تجبر إنسانًا أن يطبق على شعبه سياسات فاشلة، ويحكم عليها أنها خاطئة من أساسها .

لذا أمّ الأزمات في بلادي سياسية بإمتياز منذ صائفة 1962، حين إختُطِف الحكم بقوة السلاح، وسُلِب الشعب حقه في التعبير والعدل، وإختيار من يحكمه.

وفى الختام  يجدر القول بأنّ السياسة عندنا لا تعني “الميكيافيللية الغربية” ولا “البوليتيك في البلاد المتخلفة” بتعبير المفكر “مالك بن نبي” رحمه الله، ولكن إقامة العدل والأمن بين الناس والتساوي في الواجبات والحقوق، وأن يكتسب الحاكم الشرعية من الجماهير عن طريق انتخابات حرّة وشفافة، وليس من قوى الهيمنة في الداخل أو الخارج. كما أنه من المؤكد عندما يصلح حال السياسة والسياسيين فستكون هناك مشاكل وأزمات ولكن بالإخلاص والصدق ستجد الحلول المناسبة في أوانها ولن تترك لتتصاعد وتتراكم حتى تصبح مستعصية عن الحلول العلاجية المتاحة فلا يبق منها إلا البتر، وهو مؤلم في كل الأحوال .
             
محمد جاب الله
22 أوت 2012

الهوامش:

1- Radioscopie de la gouvernance Algerienne, Ahmed Ben Bitour, Edif 2000, Alger, 2011.
2- Le Matin DZ/APS,  2 juin 20011.
3- Ibid.

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version