إذا ما اتفقنا على أنّ الشعوب في زخمها العام تتمتع بقابليّة عالية لاحتضان كلّ أو جلّ التجارب التي تُمكّنها من امتلاك قرارها وتحديد مصيرها بإشرافها الفعليّ على إدارة شؤونها انطلاقا من هيئات ومنظومات ومنظمات تقوم بتصعيدها من رحمها، وإذا ما اتفقنا على أنّ الشعوب تبحث عن قيادات مهذبة اجتماعيّا لتحوز على احترامها، ذات خصوبة سياسيّة متميّزة لتحقق اطمئنانها، وإذا ما اتفقنا على أنّ الشعوب مع كل هذا تبحث عن نخب تعكس صورتها وتحمل رائحتها وتتكلم لغتها وتأتي من زحامها وتستأنس بضجيجها.. إذا كان كل ذلك كذلك فإنّنا بصدد مواجهة هجمة واسعة ومركّزة من الأسئلة الحائرة تحاول أن تجسّ التجربة الجزائريّة تتلمس مقابضها وتبحث عن مداخلها.

من المسؤول عن الأزمة الجزائريّة وهذا الانسداد الذي يلازمها؟ إنّه السؤال الأم والسؤال الأهم في هذه الحزمة الكبيرة من الأسئلة أو لنقل السؤال المدخل الذي بدونه تُعتبر كل محاولات التقصي وإن استنجدت بزبدة الأطروحات محاولات خاطئة منطلقاتها فاشلة مآلاتها، وللإجابة عن ذلك لسنا في حاجة لتحشيد المصطلحات والمفاهيم وتصفيفها استعدادا للفرز والتصنيف، لأنّنا أمام ثلاثة عناصر مركزيّة ومفصليّة، تلك هي المنظومة الحاكمة بتلابيبها وحواشيها ثم النخبة ثم الشعب الذي هو مدار الأمر كله.

الشعب: نجازف بمصداقيتنا إذا ما قلنا بأنّ الشعب الجزائري ميّال بطبعه إلى الاستكانة ويحبّذ السّلامة السلبيّة على المخاطرة الإيجابيّة ومن الإجحاف القول أنّه شعب بطيء في ردّة فعله يغلب عليه التقاعس لا تجذبه إلا الأحداث الضخمة الفاقعة تلك المحمودة العواقب المضمونة النتائج، ولا جدال في أنّ كل هذا مجانب للصواب لأنّنا أمام شعب يستجيب بسرعة إلى الاستفزاز، لا يترقّب الأحداث حتى تهجم عليه إنّما يبادر ويخرج إلى منابعها، إنّنا أمام شعب لا يرتجل المغالبة ويُكرِه نفسه عليها بل نحن أمام شعب يتلذذ بالمغالبة فهي مكوّن من مكوّنات طبائعه، ولعلّها من أكبر الأخطاء الشائعة مشاريع التسويق لمقولة أنّ الشعب أرهبته وأتعبته بل ومنهم من قال وردعته العشرية الحمراء وهذا لعمري ضربا من ضروب التجنّي، فقد يملك الشعب الجزائري كغيره من الشعوب بعض الخصوصيّات التي لا تحوز على الاتفاق لكن لا جدال أنّ قوته الضاربة تكمن في عناده وصلابة شكيمته، والذين يروّجون لمثل هذه التعليلات إمّا جهات انتهازية تروق لها الحالة المعلّقة في الجزائر وتخدم مصالحها وأطماعها أو هي جهات عاجزة تبحث عن شمّاعة لفشلها.

لقد حُوصر هذا الشعب بين نظام يشوّش على رؤيته ويحترف المكر والتمويه وبين نخب لا تحسن إدارة خلافاتها ناهيك على أن تحسّن إدارة شؤونه وتوجيهه نحو أهداف مجسّمة واضحة بائنة، فليس هناك شعب في العالم يمكنه القيام بعملية إقلاع شاملة إذا ما فقد الثقة في فعاليّاته واختفت من أمامه معالم الأهداف المنشودة بحكم التشويش وخانته بوصلة النخب، لقد قام الشعب الجزائري بواجبه ووفّى حيث نفّذ وعلى مدى أكثر من عشرين سنة كمّا هائلا من التحرّكات والاحتجاجات أنهكت عضلاته واستنزفت قدراته في غياب الحدّ الأدنى من التأطير وأمام استثمار ضعيف لجهد كبير وكبير جدا.

النظام: الرؤى السّياسيّة السّاذجة هي تلك التي تعمد إلى الأنظمة الشموليّة القمعيّة التي نبتت ونمت من دماء الشعوب فتطارحها الحجج وتحمّلها المسؤولية هنا وتكشف زيفها هناك وتبحث عن مواطن خللها ومكامن ضعفها، وأصحاب مثل هذه الرؤى  يقدّمون أنفسهم ودون شعور منهم على أنّهم مصيبة بديلة للكارثة، وكثيرا ما تنزلق النخب المناضلة وتدخل في منافسة مع أجهزة القمع والموت.. كل يذكر محاسنه لطلب ودّ الشعب وذلك من كبائر زلّات النخب لأنّ هذا النوع الكارثي من الأنظمة لا يمكن أن ينمو دون الاستنجاد بجميع الخصائص الخبيثة التي تجهز على الحق وتمكّن للباطل، ومن طرائف الأخطاء الشائعة عند النخب حديثهم عن مكامن الخطأ لدى الأنظمة ولو تدبّروا الأمر قليلا لعلموا أنّ الإشارة إلى بعض العلل والأمراض المنتشرة فوق جسم مسرطن يعدّ شكلا من أشكال اللهو السّياسي  وحتى النظام الجزائري إذا ما تقاعس في قمع خصومه واستعمال الأسوأ في ترويض الشعب يكون قد أخلّ بمبدأ أساسي من مبادئ الدكتاتوريّة، وفي هذا السياق تتنزل ماكينة العسكر الجزائريّة المدعومة ببعض البؤر الحزبيّة والإعلاميّة التي ما فتئت تبتكر توليفات على المقاس ومواضيع مغناطيسيّة تمتص بها احتقان الشارع الجزائري، فمن أم درمان إلى برنار ليفي مرورا بجرذان الناتو ووصولا إلى الإسفنجة الجوكر الصالحة للتفريغ وامتصاص الاحتقان منذ عقود، ذلك هو بعبع” المروك”.. في كل الحالات يجب أن تكون البدائل متعددة لدى النظام ولابد من عدو وهمي يخيم بالتزامن أو بالتداول على المدن والشوارع، عدو تمرّست في صناعته امبراطوريّة الرصاص وأباطرة المال في الجزائر.

النخب : لو كنّا أمام نخب جزائرية متلاحمة متناغمة شعثاء مغبرة من فرط نضالها لقلنا بأنّها استوفت واجباتها وقامت بما عليها وهي والشعب تحت تصرف السنن الكونيّة تترقّب حركة التاريخ ونفحاته حتى يتسنى لها ترجمة المجهودات الجبّارة التي بذلتها، لكنّنا أمام نخب أبدعت في فنّ التجزئة وقدمت ضروبا من الفشل في إدارة الاختلاف ناهيك عن الخلاف، يقف المرء حائرا أمام جماعات تعتبر طليعة للنخب السّياسيّة تشاهد العالم يتغيّر من حولها ودول الجوار ثارت وقدّمت ما قدّمت  وأنهت الأمر وهي الآن بصدد اللمسات الأخيرة لترتيب البيت الداخلي وهذه النخب الجزائريّة تترقّب الشعب حتى يثور بلا بوصلة لعلّه عند ثورته يعود إليها كي يساعدها في إدارة حوار فيما بينها، ولعلّهم يتطلعون إلى 35 مليون كي يقفوا على شرفاتهم ويستحلفونهم بالله أن ينبذوا خلافاتهم ويأتوا على أنفسهم ويوحّدوا رؤاهم وأهدافهم لوجه الله ثم لوجه الوطن .

في كوكبنا الأرضي دولة اسمها الهند هي ثاني أكبر بلد في العالم من حيث تعداد السكان يدير شؤونها مزيج من البوذيّين والسيخ والمسلمين واللادينين لديهم سلاح وغذاء ومصانع وطرقات وأمن ومساجد وبيع وكنائس، يبتسمون  ويلعبون ويسلّمون على بعضهم في الطرقات.. وبعض النخب الجزائريّة في قطيعة وضغينة لأنّهم اختلفوا في تفسير فقرة من فقرات كتاب شروط النهضة للمفكّر مالك بن نبي، وآخرون شتتهم الجفاء لأنّ لديهم قراءة مختلفة في العلاقة بين الطيّب العقبي والعلّامة ابن باديس، يجب على هؤلاء أن يتنصّلوا من اللغو الفكري وأن يضعوا في حسبانهم أنّ الجزائر أصبحت تئن من فرط الابتزاز والفساد المسلط عليها وأنّه طالما اتفق الجميع على مطلب الهويّة والحريّة والأمن بشقّيه الغذائي والجسدي تصبح التفرقة تحت عوامل أخرى شكلا من أشكال الاستهتار بمعاناة الشعب الجزائري ومغامرة طائشة لتفويت اللحظة التاريخيّة التي تعيشها المنطقة وأنانيّة قاتلة وحبّ مدمر ورغبة متوحشة لانتصار غريزة الفكرة الضيّقة المجهريّة على حساب مصير الشعوب.

إنّ النُخب الجادّة التي طالما قدّمت نفسها على أنّها طليعة للشعوب يجب عليها لزاما أن تتعامل اليوم مع الأنظمة الجائرة مثلما يتعامل الخبير مع اللغم، يُعرّض نفسه للخطر حتى لا يتضرر المحيط، وليس من الحكمة السّياسيّة في شيء أن تقدّم النخبة نفسها وهي في ظلّ حكم شموليّ على أنّها طرف سياسي أفضل من الطرف السّياسي الحاكم، بل عليها أن تقدّم نفسها على أنّها طليعة لشعب يتوق للتخلّص من جلاديه، وحين تتصفح خطاب هذه النخب تجدها تتحدث عن العسكر والانتهازية وأباطرة السكر والزيت والطابور الخامس وأحزاب الديكور… لكن لا أحد منهم ركّز أو عرج أو حتى لمّح إلى هزيمة النخبة في التواصل والتقارب وأسلوبها البدائي في إدارة  حواراتها البينيّة وفشلها الذريع في صناعة المشترك.

نحن أمام نخب تبحث عن خصم مشترك يوحّدها فلما وجدته في القيادات العسكريّة انقسمت على نفسها لأنّ هناك من لا يعتبرها الخصم الأول وبحثت عن هدف مشترك فلما وجدته في إسقاط النظام الحاكم انقسمت على نفسها لأنّ هناك من لا يعتبره الهدف الأكبر وبحثت عن أرضيّة مشتركة فلما وجدتها في الهويّة انقسمت على نفسها لأنّ قراءاتها مختلفة لهذا المصطلح… حتى الجبهة الإسلاميّة للإنقاذ التي جمعتها المساجد والمحاضن التربويّة ولملمت شتاتها وزكّاها الشعب وأعطاها أسبقية جدّ مريحة في انتخابات استثنائيّة وتاريخيّة.. نرى اليوم رموزها يمارسون الزهد السّياسي في أبشع أنواعه يتنصّلون من وعاء يملك العمق الشعبي والبُعد التاريخي وشرعية الصناديق ويبحثون لهم عن بدائل “جنينيّة” مركّبة ومن غرائب بعض إسلاميّي الجزائر أنّهم عشية جني المحاصيل تركوا شجرة باسقة تحتاج إلى شيء من المراجعة والتعهّد “الجبهة” وذهبوا يبحثون عن الفسائل إن صلحت سيشرعون في غرسها وإن نمت سيشرعون في تعهدها وإن استوت سيشرعون في استغلالها.. حينها سيكون الشعب الجزائري قد حزم أمره وتجاوزهم بمراحل وولّد قياداته وأعاد إنتاج نخبه وقطع أشواطا نحو نهضته.

مهما تكن الأخطاء المرتكبة فإنّه إذا ما اعتبرنا بأنّ الدماء والشهداء والسجون والآلام هي ذخيرة ضخمة لكل حالات النضال ومغالبة الطواغيت، فإنّ الذين يتنصّلون اليوم من رداء الجبهة إنّما يتنكرون لقيمة الدم والتضحيات في حركة التاريخ ومشاريع التغيير الكبرى، وهم بذلك يؤشرون إلى عقليّات مسكونة بالنظري والمثالي بعيدون كل البعد عن النسبية التي هي مدار الفعل والعمل، والزاهدون اليوم في جسم كبير مثل الجبهة الإسلاميّة للإنقاذ إنّما هم يبحثون عن أجسام قويّة نقيّة معبأة بالنجاح رصيدها من الخطأ صفر تُهَاجَم فلا تُخدَش وتُهَاجِم فلا تَخدِش، ولعمري أنّ هذا هو بعينه التغريد خارج السرب.. وتلك هي النخب الحالمة حين تطارد السراب السّياسي وتبحث عن الكمال في عوالم النسبية والترجيح.

إنّ الذين نفضوا أيديهم من الجبهة وفشلوا في ترميم هذا الجسم الضخم وتقاعسوا عن دفع الشبهات حوله وآثروا البحث عن جبهات سياسيّة لينة  وبكر ذات تدافع ناعم، لن يكونوا أبدا مشاريع ناجحة في أجسام أخرى صاعدة لأنّهم سيكونون عبئا عليها وسيُكتشف أمرهم عندما تحتاج محاضنهم الجديدة إلى فنّ إدارة الاختلاف والمغالبة والاجتهاد وعندما يتضح أنّ ثقافة التنازلات البنّاءة لديهم في حالة موت سريري .. إنّه الفشل إذ يعدم النجاح لأنّه عجز عن تنقيته من بعض الشوائب.

ليعلم أولئك الذين يساعدون ويحرّضون بنيّة مبيّتة أو سليمة على القطيعة مع إنجاز كبير فيه بعض فشل، ومع دماء زكيّة فيها بعض دخن، أنّهم لا يستهدفون الجبهة كعلامة مسجّلة في الذاكرة الجزائريّة فحسب، بل هو شروع سافر في عملية إعدام لمشروع تعاهدوا عليه مع رجال وحرائر غيّبهم الموت وأصبحوا في ذمّة الله.

ناصر أبو يسر
19 يناير 2012

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version